طيـور أحمد محمد عيسى

طيـور

انتصف الليل، والتفع البدر بسحابة حبلى بغيث منتظر. جثا على ركبتيه يتحسس الأرض باحثا عن "التذكرة" التي سقطت منه وهويقفز من الحافلة التي غير السائق مسارها دون سابق إنذار. هب واقفا وقد تملكه الرعب والاشمئزاز. يا لحظه العاثر. . لقد علق بأصابعه شيء رطب لزج منتن وقد كان قاب قوسين أوأدنى من ضالته.

رياح "آذار" تنوح في الخلاء - كثكلى - تشيعه إلى مثواه الفصلي. المطر يتساقط رذاذا. ماذا يفعل إذا تأخرت الحافلة التالية؟! يا له من سؤال. . وهل يملك غير الانتظار؟!! تبا له. أينتظر والمسكينة في المستشفى تحتضر؟ وماذا عن النظرة الأخيرة، وقبلة الوداع؟!

بحث في جيبه المثقوب عن لفافة تبغ، لم يجد غير علبة ثقاب فيها عود أخير، والمنديل الحريري الذي أعطته إياه كنوع من الفأل الحسن، لعل الحظ يحالفه.

مصمص شفتيه. أشعل العود ليفتش عن ضالته. نفخت الرياح في العود فأطفأته. بصق. إذا ماتت فمن سيدفنها ويتقبل العزاء؟ وماذا سيقول الناس عنه؟!

المطر ينهمر زخات. البرق يجلد الكون بسوط ناري. قفز إلى شجرة عظيمة فوجد فيها تجويفا واسعا، تكور كالجنين بداخله، فأحس بالدفء والأمان. ود لوبقي في هذا المحضن حتى آخر العمر. تناهى إلى سمعه صوت طائر. مزيج من الغناء والبكاء والنداء. تذكر حديقتهم الغناء، وحضن أمه، والطيور تلتقط الحب من كفه الصغيرة. تحسس لحاء الشجرة وتكور بشدة. تساءل. أهو"قمري" فرقت العاصفة بينه وبين إلفه؟ أم "وروار" تخلف عن سربه؟ أم كروان؟. كانت تقسم أن الكروان يسبح لمالك الملك "الملك لك. . لك يا مالك الملك".

مر الوقت، ولم يظهر للحافلة ضوء ولم يسمع لها صوت. المطر لا يتوقف. وعند الفجر دكت المكان صاعقة. فقد الوعي لحظات ثم أفاق فوجد ضوء البدر يتكسر على طائر أبيض يخطومتعثرا، متقطع الأنفاس يئن متوجعا. أمسك به. الدم يسيل من ساقه. أخرج المنديل الحريري وربط جرح الطائر المرتجف. خلع القميص وغطاه. احتضنه، ثم انفجر باكيا حتى أدركه التعب فنام.

صوت الحافلة يعلو، فتح نصف عين ثم عاود النوم غير مكترث. وعندما طلعت الشمس، تململ الطائر من حضن الرجل ثم طار عائدا من حيث أتى والمنديل الحريري الأبيض يرفرف في ساقه.

 

أحمد محمد عيسى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات