أرقام محمود المراغي

الهاربون إلى المجهول

قديما، كانت الهجرة - وفي الأغلب - من أجل الرزق.. وحديثا، أصبحت من أجل الأمن. تنطلق النزعات القومية، والقبلية، والعرقية، والطائفية، فتنطلق معها المدافع.. ويفر من يستطيع. تنهار الدول، وتنفجر من الداخل فتفيض بمن فيها، لتغرق من حولها. يهرب البعض من القهر، ويهرب آخرون من الجوع.. والناتج كما قالت إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين في منتصف ( 1996 ) - (49) مليونا من البشر (23) مليونا منهم من اللاجئين و(26) مليونا من النازحين.. إفريقيا لها الصدارة حيث تحتل وحدها (40%) من حجم المشكلة.. وتدنو منها آسيا (30%). وتدخل للساحة، ولأول مرة بأحجام غير مسبوقة: أوربا الشرقية التي انهار فيها الاتحاد السوفييتي، فحدث ما حدث. حتى الأمريكتان واللتان تخلوان تقريبا من الظاهرة، شهدتا شيئا من ذلك حين هاجر ستون ألفا من جواتيمالا معظمهم يعيش في المكسيك!

وتقول الأرقام إننا أمام ظاهرة عامة يعاني منها (143) بلدا في العالم.. بين بلد طارد وبلد مضيف.. وبتحديد أكثر فإن هناك (28) بلدا يستضيف كل منها أكثر من مائة ألف لاجئ.. (!) في مقدمتها: إيران، وزائير، وباكستان وألمانيا.. أما بلاد المنشأ فهناك (23) بلدا أفرز كل منها ما يزيد على المائة ألف في المقدمة: فلسطين (2.3) مليون،تليها أفغانستان (7.2 مليون) ثم رواندا (3.2 مليون) ثم ليبيريا (790) ألفا وفق إحصاءات 1995، والتي تغيرت في الشهور التالية بسبب الحرب الأهلية!.. وكما قلنا فإن إفريقيا لها الصدارة حيث بلغ نصيبها (16) مليون مشرد، وحوالي (7) ملايين لاجئ.. عاد منهم إلى الوطن ثلاثة ملايين.

الأغرب، ووفقا لبيانات مفوضية اللاجئين عن الموقف في عام (95) أن تكون غالبية حالات اللجوء من الأطفال والنساء.. والمسلمين. الأطفال والنساء يمثلون 80% من حجم الظاهرة والمسلمون في مجملهم يمثلون 70% وبما قد يعني أن هذه هي الفئات الأكثر ضعفا والأكثر تعرضا للظروف القاسية، والكثير منهم من العرب!

الأرقام تتضاعف.. والتحرك بالملايين يجعلنا نقول: إننا في عصر الهجرات الكبرى، فلم يشهد العالم - على ما أظن - مثل هذه التحركات التي تتم بالملايين، وفي ظروف شديدة الخطورة أيضا، وبالتحليل، نستطيع أن نسجل أننا أمام انتشار جغرافي غير مسبوق.. كان المعتاد أن نرى لاجئين ومشردين في إفريقيا وشرق آسيا. ولكن ها هي الظاهرة تنتقل إلى شرق أوربا ووسطها.. وإلى وسط آسيا وجنوبها.. وها هي طلبات اللجوء إلى أوربا تتضاعف في التسعينيات وتبلغ أوجها عام ( 92 ) ثم تتراجع بعد عامين ولكن لتسجل أعدادا مضاعفة أيضا لما كان عليه الحال في الثمانينيات.

إنه الهرب من الأوطان، وهناك العديد من الأسباب.

ويسألونك عن السبب!

الأسباب معروفة: صراعات، وحروب، وجذور طائفية أو عرقية أو قبلية.. لكن الأهم أن نرصد قضية انهيار الدولة التي جمعت كل ذلك.. فانفجرت الحروب الأهلية في الصومال، ورواندا، ويوغسلافيا السابقة، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.

غياب الدولة كان مصاحبا لحالة الفوضى.. فعندما اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان شهدت حالة " اللادولة "، ثم تكرر نفس الشيء في الصومال، وجنوب السودان.. وامتدادا من الوطن العربي، إلى القرن الإفريقي، وصولا إلى ليبيريا في غرب إفريقيا، ومرورا بالوسط عند رواندا تبرز جوانب المأساة. في النصف الأول من عام 1994، جرى ذبح نصف مليون مواطن في رواندا.. فأعقبها نزوح نحو مليونين في أسبوع. فروا إلى زائير وتنزانيا، والبعض بقي مختبئا في الوطن!

في ليبيريا كان عدد الراحلين نصف سكان الوطن، وبالتحديد (3.2) مليون مواطن.. وفي الصومال سجلت الأرقام نصف مليون لاجئ غير المشردين!

مع انهيار الدولة والكيان السياسي الذي طالما احتوى التناقضات القومية والطائفية والعرقية، برزت أسباب مثل الرغبة في التطهير العرقي فسجلت أرقام الأمم المتحدة أن (7.3) مليون شخص في يوغسلافيا السابقة تشردوا أو تأثروا بالحرب ويتلقون مساعدات دولية. و.. من بينهم: (7.2) مليون في البوسنة والهرسك وكلهم أو معظمهم من المسلمين!

في أفغانستان كان لملوك الطوائف الفضل في تشريد (5.5) مليون مواطن.. تمت إعادة ثلاثة ملايين منهم حتى نهاية 1995 - ولا يزال هناك حوالي (5.2) مليون شخص في باكستان وإيران!

من أفغانستان إلى ميانمار في شرق آسيا، ومن ميانمار إلى فيتنام، ولاجئي الزوارق الذين عاد معظمهم خلال السنوات الست الماضية، إلى لاجئي التاميل في سريلانكا والذين فروا إلى الهند.

الظاهرة واحدة: أحداث عنف يعقبها فرار جماعي. البعض يصطحب أسرته، والبعض ينجو بنفسه.. أطفال يتم إلقاؤهم على الحدود ويبحثون عن أسر بديلة، ونساء في العراء تسجل الوكالات الدولية وقائع اغتصابهن، وتحصي عدد الأطفال غير الشرعيين لهن!

جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة حالة تستحق التأمل، فهي تجمع كل ما نتحدث عنه: انهيار الكيان السياسي، كشف الغطاء عن الصراعات القومية، نزاع الأرض والهوية.

حدث الانهيار عام 1991، وكان عدد الجمهوريات خمس عشرة جمهورية، لكن النزعات القومية والتي كان الاتحاد السوفييتي، قادرا على احتوائها، أو قمعها كانت تريد للعدد أن يتضاعف. انفجر النزاع ومازال مستمرا في إقليم القوقاز بسبب (ناجورنوكاراباخ) الأرض التي سكنها الأرمن وضمها ستالين إلى أذربيجان، فلما بدأت حركة إعادة البناء (البيريسترويكا) تفجرت القضية، وتحولت لحرب أهلية بين أرمينيا التي تريد الأرض وأذربيجان التي تضع اليد عليها. وتم تشريد (6.1) مليون إنسان!.

( من شيشينيا التي تطلب الاستقلال خرج نصف مليون).

وفي جورجيا، انفجرت حركة انفصالية تطالب باستقلال (أوسيتيا) فتشرد - داخليا وخارجيا- (36) ألف مواطن وفي أبخازيا انفجر الصراع عام (92)، فتشرد (270) ألف شخص وحدث الانفجار أيضا في طاجكستان بدعوى أنه صراع إسلامي شيوعي، وخرج ربع مليون لاجئ إلى أفغانستان (التي تصدر اللاجئين!) وإلى روسيا التي باتت من أكثر البلاد تعرضا لظاهرة الهجرة.

تحولت روسيا إلى مهجر ومعبر. انتقل لها منذ عام 1989 مليونا شخص من دول الكومنولث، وجرى الاعتراف بربع العدد فقط كلاجئين لهم حقوق اللاجئ،وبقي (5.1) مليون بلا وضع محدد، تماما كهؤلاء الذين جاءوا من الصين وشرق آسيا عبورا إلى أوربا، فلما أوصدت الدول الأوربية - أو معظمها - الأبواب استمرت إقامة (700) ألف منهم داخل روسيا.

ناس بلا وطن تلك هي المأساة.. للاجئ والبلد المضيف.

 


أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات