قراءة نقدية في كتاب جمال الغيطاني

"هاتف المغيب"
بقلم: الدكتور صلاح فضل

لكل تجربة سردية خصوصيتها ونمطها. وتجربة الغيطاني مثيرة وفائقة. فهي تشارف المنطقة المجازية التي يقع العمل الأدبي فيها خارج الواقع الحرفي المجازي. ويمكن اعتبارها من قبيل "الأمثولة" التي تضرب بجذورها في الثقافة العربية.

من هنا فإن معايشة الغيطاني للمدونات السردية، واستقاءه من عالمها قد دفعه إلى إنشاء نصوصه بالتقاطع والتوازي معها، في أهم تجربة تناص روائية تشهدها اللغة العربية، لأنه تناص مع الذاكرة الأنثروبولوجية وأبنيتها العميقة التي تتجلى في أشكال التفكير وأساليب التعبير الفني معا. ويصبح السؤال التقني المحدد الذي يطرح نفسه أمام أعمال الغيطاني هو: كيف يتولد المعنى الشامل والدلالة الكلية في هذا التوظيف الجسور؟

ولعل روايته الأخيرة "هاتف المغيب" تكون نموذجا متطرفا لجملة من العناصر التقنية التي أخذت تتكون بالتدريج في مداراته السابقة، بحيث لا تكاد تفاجئنا طابعها الغيبي الذي يمتزج فيه شطح الصوفية بالآفاق العجائبية المتولدة من قراءة كتب الغرائب والرحلات المشرقية في الزمان الباطني والمكان الكوني. فهي تسير في خط مواز ومخالف لطريق نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا" و"الحرافيش". لأنها تخلق عالما استعاريا كليا يتجاوز الحس ويقيم الإشارة ويعيد صياغة قوانين الكون طبقا لمنطقه الدلالي الخاص.

استخدام البنية الأسطورية

هذا العالم قريب جدا مما يصفه "فراي" في تحديده للأنماط الأولية الكبرى في السرد العالمي، حيث يرى أن ظهور البنية الأسطورية في الرواية الواقعية يفرض بعض القضايا التقنية التي تجعلها معقولة إلى حد ما. والأدوات المستخدمة لحل تلك القضايا هي التي تسمى الانزياح أو الانحراف. فالأسطورة طبقا لهذا المنظور تصبح أحد طرفي التصميم الأدبي، والطرف الآخر هو الطبيعة كما نعهدها، والرواية تقع في المنطقة الوسطى بين هذين الطرفين. والقص "الطبيعي" لا يتصل بالأسطورة إلا عن طريق التشبيه، أما القص الكلي الملحمي فهو يعتمد على فن الوحدة الاستعارية الضمنية. إن الأسطورة حسب مصطلح "فراي" هي محاكاة الأفعال التي تقع في نطاق الرغبة، فالآلهة تهوى النساء الجميلات، ويحارب الواحد الآخر بقوة هائلة، ويساعدون الإنسان، أو يراقبون بؤسه وتعاسته من قمة جبل حريتهم الأبدية. وإذا كانت الأسطورة تجسد المستوى الأعلى للرغبة الإنسانية فمان هذا لا يعني أنها تقدم عالمها كما تعيشه الكائنات البشرية بالضرورة، بل إن التخيل الأسطوري يقع في عالم رؤيوي، يتكون من الاستعارة الشاملة التي يتوحد فيها كل شيء بكل شيء آخر.

ويبدو السؤال التقني الأول الذي تطرحه هذه الرواية عن الفاعل أو الشخص الذي يسمع هاتف المغيب مسرفا في بساطته، لكن تحديده يسهم في كشف نوعية السرد وأسلوبه. فالراوي يتجلى عبر قشرتين في النص؛ إحداهما رقيقة شفافة، تبدأ في المطلع بقوله "حدث جمال بن عبدالله كاتب بلاد الغرب فقال:" ونلاحظ على الفور تطابق اسمه مع المؤلف، بصفة يسندها لنفسه - كاتب بلاد الغرب - يقصد فيما يبدو بلاد المغرب العربي. والقشرة التالية أكثر شفافية عن المؤلف ذاته، حيث يكتب في مطلع الفصل التالي: "يقول الفقير إلى ربه، الراجي عفوه، الملتمس حنانه، أحمد ابن عبدالله بن علي الجهني، الصعيدي، القاهري المنشأ، المصري المنبت، إن خروجه عن موطنه جرى يوم الأربعاء، التاسع من مايو منذ خمس وأربعين سنة، وربما خمس وخمسين، أو خمس وسبعين.. إلخ". فإذا قرأنا بطاقة التعريف بالمؤلف: "ولد في التاسع من مايو عام خمس وأربعين وتسعمائة وألف، في قرية جهينة في صعيد مصر.." أدركنا تطابق الإشارات بين المولد والخروج من ناحية، وتماهي الشخصيات الثلاث: المؤلف الفعلي والراوي الأول والراوي الثاني من ناحية أخرى، بشكل يجسد رغبة المؤلف في أن يكون أديب المشرق والمغرب، الظاهر والباطن، المقيم والمسافر في الآن ذاته.

سيرة ذاتية باطنية

حينئذ تسفر لنا الرواية عن كشفها الأول، فهي سيرة ذاتية باطنية تحاول إحداث صدع خارجي في شخصية الراوي إذ تشقه إلى نصفين، لكنها لا تعمد إلى إقامة مسافة درامية كافية بين الشقين، بل تحرص على شد مصير كل واحد منهما بالآخر، فهما يتناوبان السرد من خلال بنطين في الكتابة أحدهما عادي يمثل التجربة الباطنية الغرائبية الغالبة، والثاني كبير يقوم بدور التعليق الخارجي، فتدخل جماليات الكتابة بتفاوت جسد البنط الراقم في عملية التوشية والنمنمة التصويرية التي يتقنها المؤلف في تكوين معالم الصورة السردية. فتناوب السرد يصبح من قبيل تجسيد الصوت الواحد بإبراز صداه، وتدبر الفعل بذكر رده، دون أن يكون للصوت المتناوب قوة الحضور والمنازعة والانشقاق، بهذا فإن السمة الغالبة على الرواية من منظور شخصياتها الفواعل تظل أحادية الصوت، غنائية الروح، خالية من الصراع إلا ما يتردد في باطن الشخصية ذاتها من حركة داخلية متماوجة. ويعزز هذا الطابع الغنائي/ الملحمي معا ما تتميز به العوالم والأحداث والشخوص المستثارة من وجود شبحي مشكوك في جديته، فهي تتأرجح في منطقة مبهمة من الحلم الذاتي الشفيف، فلا تكاد تظفر بوجودها الحيوي المستقل ولا إرادتها الخاصة. هي دائما ما يرويه هذا الراوي المزدوج أو ما يحلم به. فإذا تأملنا كلمات الراوي المغربي النهائية التي يقول فيها: "لم يكن رحيله إلا رحيلي، مدارجه مدارجي، أوقن أنه جاء إلى الدنيا لحظة وفادتي، أنه فطم وحبا وسعى معي، وعندما بزغ الهاتف لبيت في ثباتي، واستجاب عبر رحيله، لذلك غيابه غيابي، بعينيه التي أتطلع" أدركنا أن هذا الحلول بين الراويين إنها تحقق عبر النص بأكمله، وأن الفصل الظاهري بينهما إنها كان مجرد تقنية سردية لضبط الإيقاع فهما وجهان لشخص واحد، أحدهما يصنع مرجعية الزمان والمكان، إذ هو المقيم، والثاني يطفو على سطحهما لأنه المسافر في رحلة الميلاد والبعث. لولا الأول لما أدركنا حركة الثاني، وهما في نهاية الأمر نقطتان في الدائرة ذاتها، حيث تتجلى رؤية المغيب استجابة لهاتف الحياة، وينشرخ خط المشرق في اتجاهه نحو الغروب.

عمليات الأسطرة

يعتمد فن الحكي عند الغيطاني على استثارة مكامن الوعي الجماعي واستنفار طاقته لإبراز مكنونات الذواكر القديمة، فهو ينقل لنا تجارب في القراءة أكثر مما يمثل معايشات في الحياة. وقد نزع في هذه الرواية الأخيرة إلى تطليق الواقع المباشر ولبس خرقة الحكواتية التراثيين. وأبرز ما لديهم إنما هو سلسلة من الصور التي تنبت على سطح التاريخ ثم لا تلبث أن تتشعب بالمبالغة والاستغراق التدريجي بفعل التراكم النوعي حتى تمر بعمليات "الأسطرة" الأثيرة لدى الشعوب الشرقية. ولعل أول وحدة لافتة من هذا العالم الغيبي هي ما يحكيها - دائما عن طريق القول، لأن مداها لا يمكن أن يحيط به الفعل - آمر القافلة التي رحل فيها الراوي في فصل بعنوان "الأشقاء الأربعة". فهو يقدم لنا صورة فائقة لشيخ الطيور الأسطوري في جزيرة "تنيس" مهبط الطيور المهاجرة عند ملتقى النيل بالبحر. فهذا القدر من الواقع هو البذرة الأولى، لكنها لا تلبث أن تتجذر في قلب الخرافة عن طريق "زهر البلسان الذي اختفى من العالم كله ولم يعد باقيا منه إلا اثنتا عشرة شجرة، يتم استخلاص زيوتها في ليلة اكتمال القمر. ويختص بذلك خمس فتيات عذراوات لم يمسسهن رجل، ولو جرى عكس ذلك تجف الشجيرة وتذبل ويستحيل استعادتها لنضرتها" أما شيخ الطيور المهاجرة فهو يتعامل مع "أكثر من مائتي نوع - يعدد الراوي منها أسماء نيف وأربعين - يعرف أصواتها جميعا. يجيد تقليدها حتى ليبدو كأنه يحاورها". يعرف لغاتها وبلادها وتاريخها وخواصها وأسرارها، ويرفض البوح بها حتى ليرد رسول ملك البلغار الذي يسأل عن أحدها، مما يجعل العلاقة تسوء بين مملكته ومصر. ويبلغ من اندماجه في عالم الطيور أنه "يتزوج بها، والمؤكد الموثوق به عبر شواهد شتى أنه أنجب أبناء نصفهم طير ونصفهم آدمي".

نحن إذن حيال صورة أسطورية تذهب إلى أبعد مما تحكيه روايات العهود القديمة عن سليمان الذي علم منطق الطير لتجعله يمتزج بسلالته في توالد عجيب، تتم تنميته في الفصول التالية عندما يدخل الراوي مملكة الطير، وعندما يعلم في النهاية باختفاء جزيرة تنيس لانقضاء زهر البلسان. فمخزون غرائب المخلوقات الذي يتمثله الغيطاني ويوظفه في سرده لا يحمله إلى عالم الغيب فحسب، بل يحفزه لتقديم رؤية كونية يتلاقى على حافتها طرف من دنيا الطبيعة التي نعرفها وآخر من عالم الأسطورة الكلاسيكية في انزياح واضح يسفر عن زواج رمزي غريب.

وإذا كانت هذه هي طريقة المؤلف في بناء المتخيل فإن القارئ لا يسعه أن يكتفي بالتلقي. بل لا مفر له من ممارسة لون من التأويل الذي يضفي معنى على السرد، أي من محاولة استماع الهاتف بدوره وتحديد مصدره ومداه. وعندئذ يصبح من الضروري له أن يكتشف طرائق التخييل. وسيدرك أن الغيطاني الذي كان يعتمد كثيرا فيما سبق على "المادة المكتوبة" في تكويناته الروائية، حيث يرتبط بالحروف والخطوط والنمنمات الموشاة، بمسارات الجمل ومتتاليات الفقرات، قد أخذ يتخفف كثيرا من هذا النمط في الكتابة. وأصبح يصغي ويرهف أذنه "للمادة المسموعة" التي تتحول فيها الخطوط إلى أصوات وذبذبات فضائية، تندمج في موسيقى الكون. ففي "هاتف المغيب" يبدو أن قسطا وافرا من المادة التي تصنعها مخيلة الرواة منسوجة من أصوات الشخوص وإيقاعات المواقف، ومعتمدة على "السماع"، فإذا التمعت فيها صورة بصرية نافذة كانت ذات صبغة تشكيلية لاخطية مكتوبة، نابعة من تجارب الطفولة القصية التي تظل مصدرا ثرا للذاكرة، وذلك مثل صورة الطيف الأنثوي الذي يتراءى له عبر منحنى الحارة القاهرية أمام أبواب المساجد ويمثل مرجعية شعورية لعواطفه ذات الإيقاع الموسيقي الحميم.

وعلى هذا فإن معطيات السمع تتسع في هذه الرواية بشكل فائق، حتى لتصبح المصدر الرئيسي لخبرة الراوي القعيد "جمال بن عبدالله" المضفرة مع خبرة الراوي الراحل الغيبية المشروطة هي الأخرى بسماع الهاتف، والمروية في جملتها بطريقة شفاهية. وعندما يتحدث الراوي الأول عن تكيف الجسد للإرادة، في تلك المنطقة التي يتحول فيها المعنوي إلى مادي خارق لقانون الطبيعة، يسترجع ما "سمعه" عن قصة الرجل والمرأة والرضيع، "من قبائل الجبل الكبير الذين ضلوا طريقهما عبر الصحراء. وماتت الأم سغبا، وأوشك الطفل أن يهلك، لكن طاقة الحنان الأبوي الغامر تدفقت لبنا في صدر الأب فأرضعه وهذا خبر متناقل معروف ولهذا الطفل عقب الآن في قبائل الأطلس".

مشارف الأسطورة

إن الغيطاني يلتقط صوت البرية ويسجله، لا بما يحمله من نبرات اجتماعية تاريخية، بل بما يحتويه على وجه الخصوص من عرق الغرائب ونسغ الأساطير الشفاهية. وإذا كانت هذه المروية غريبة فإن ما ضفرت به يصل إلى مشارف الأسطورة، حيث يحكي أنه عند انفصاله عن القافلة التي صحبها في طريقه إلى مغرب الشمس، دفع إليه الدليل الحضرمي - الموغل في نموذجيته الروائية - بإناء "قد من مادة تشبه ثمرة جوز الهند، غريبة الملمس، إذا ما أدركه الظمأ يرفعه إلى شفتيه فيذوق الماء بدون قطر، يبل ريقه ويهدئ عطشه. إذا جاع يشعر بلبن دسم طيب الرائحة، لكن ما من سائل يمكن رؤيته أو مسه. حتى إذا وصل إلى العمار رفع الإناء إلى شفتيه.. لكن ما من قطرة ماء أو لبن". فإذا أعطى المؤلف لهذا الفصل عنوان "الرضاع في البرية" جمع فيه بين المتخيل المتخلق، والمسموع عن معجزات الأولين في ضفيرة واحدة متجانسة، فإنه يكون قد شرع في توليد بؤرة الدلالة التي تستقطب معنى هذه الوحدة السردية، وهي تحول القوى المعنوية إلى مادة. وقهر الإرادة لنظام الكون وقوانينه المعتادة. لكن الأسطرة لا تلبث أن تبلغ ذروتها الخارقة في شخصية "قصاص الأثر" الذي يلقاه في أول مهبط له في الصحراء، وهو الواحة. هذه الشخصية التي لم تصل إلى جسارتها أية شخصية أخرى في الرواية العربية المعاصرة باستثناء "جبلاوي" نجيب محفوظ. وكلاهما يفوق النموذج الأسطوري العالمي الذي أنتجه "جارثيا ماركيث" في "مائة عام من الوحدة" وألفت الكتب والبحوث في تأويله. وقصاص الأثر عند الغيطاني "لم ولن يرى هرم مثله، يرددون محاربته تحت لواء الصحابي أبولبابة الأنصاري عند زحفه غربا. بل إنه. عاش زمن الرسول الكريم، سمع عنه مباشرة. إليه سعى في القرون التالية البخاري ومسلم وابن حنبل.. حارب في بلاد ما وراء النهر، قاد جمعا من الصوفية اندفعوا لقتال التتار... يؤكد آخرون أنه كان آخر المنسحبين من غرناطة قبل تسليمها إلى ملك قشتالة.. عند زمن بعيد نشأ معتقد يقول إنه من حفظة الواحة. وجوده يضمن تدفق الماء من العين، ويدرأ عنها الأخطار المجهولة القادمة من الصحراء. عصاه يوقن البعض أنها عصا موسى التي انقلبت حية تسعى. وصلت إليه بتدبير خفي. لا يأكل إلا البلح واحدة في الصباح وأخرى عند الغروب. كل مدة غير معينة يرضع النخلة القبلية، يمضي إليها ويلصق شفتيه بحراشيفها...

من أنجب؟ من تزوج؟ تتردد حوله الأقاويل، لكن يبدو أنه شهد عام الفيل، ونام ليلتين في قصر غمدان. كما رأى العمال يضعون أساس الخورنق". لقد ضرب الغيطاني رقما قياسيا في أسطورية هذه الشخصية، حتى ليصح في تأويلها استخدام وتوظيف جميع الرموز الأنثروبولوجية والدينية، لكنها تظل شاهدا على جسارته في اقتحام عالم ما وراء الواقع وألسنته وبعث بعض أقنعته كي تدب على الأرض وتجترح الكرامات، مما يضع السرد على حافة النماذج الأولية، يحتك بها ليقيم رؤيته الملحمية الجديدة.

عبث الفانتازيا

يقدم الغيطاني في هذه الرواية تجربة خصبة، تدرب لها خياله طويلا بمعايشة مستمرة لألف ليلة وليلة وكتب غرائب المخلوقات، مما يجعله "يتجلى" كوريث حقيقي لثروة كبرى من "الفانتازيا" البشرية عامة، والمصرية بصفة خاصة.

فعالم الواحة مثلا مجمد عند عدد معين من الذكور والإناث، لا يزيد ولا ينقص بسيميترية صارمة. فإذا ولد فيه كائن جديد كان ذلك إيذانا قاطعا بوفاة أحد الأحياء حتى يظل العدد كما هو على مدار الأجيال. (اقتراح بالتوازن الديموجرافي!!) وعالم المملكة التي توجته بالمصادفة يذكرك ببعض حكايات ألف ليلة وليلة لكنه يختلف في آلاف التفاصيل التنظيمية والتوشية البصرية للأجناس والألوان والطباع. فهو مصمم حقيقة على غير مثال سابق من الخبرة الحياتية أو الثقافية، حتى ليغدو أشبه بالتكوين العبثي الذي ينضح بالرقة والجمال. وما يجعله "عبثيا" في الدرجة الأولى هو أنه يكاد يخلو من الدلالة القريبة المباشرة، فالجنة بكل بهائها وروعتها لها غاية أخلاقية كبرى، فهي إنها أعدت للمتقين كدار للجزاء، لكن هذه العوالم لا تحمل معنى المكافأة، يدخلها الراوي ملكا متوجا بمجرد المصادفة، ويخرج منها استجابة لهاتف وخوفا من التحول، والتكوينات التي يصفها، والمشاعر التي يحاول استكناه طبيعتها غريبة، وإن كانت تدور حول محورين رئيسيين وهما السلطة والجنس، لكنك تعيش في تجربة من الفانتازيا العبثية المترفة بالخيال الجميل، أما العالم الكابوسي الأخير المتمثل في سرادقات العكاكيز فهو ألصق بالأدب الرؤيوي الذي ينتشر إبان المفاصل الزمنية الحاسمة وشيوع التنبؤات عن قرب القيامة وما يعقب ذلك من كوارث تقدم مشاهد لا تقل عبثية وفوضى وإن كانت تخلو من طاقة الشعر وهندسة الخيال. بيد أن الملمح البارز في هذه "الفانتازيا" يتمثل في أريج مصر الفرعونية الذي يفوح منها، فلا نحسب أن هناك شعبا من شعوب الأرض، قد أمضى - ولا يزال - آلاف الأعوام في ممارسة عمليات تحويل البشر إلى آلهة مثلما فعل الشعب المصري، مما يضعنا عند منطقة جديدة من "الفانتازيا" السياسية التي تتجلى في هاتف المغيب، وتمثل موروثا مصريا حميما ينحدر إلى جمال الغيطاني من أغواره اللاشعورية العميقة، في ومضات تتوهج في ثناياها روح الإنسان عبر نفثات الفن الحر. يحكي جمال الغيطاني عن راويه - قرينه الخفي طبقا للمعتقدات المصرية - أنه بعدما توج في المملكة الغريبة، وأمر بتجنيد قصاصي الأثر لمعرفة طريق الواحة السابحة في اللامكان، خاطبه القيم قائلا: "يا أمير البراري، يا رأس الإقليم، يا سيد القوم، أنت لما تقطع الطريق المؤدي إلينا في ثلاث ساعات. إنما أنت تسعى إلينا منذ الأزل القديم.. ألم تبزغ من الشرق يا من تحوي نفحة الشمس القدسية، يا من تحمل ألم الجراحة بدون غيبوبة، أنت قادم من عين الشمس، من المشرق، ومن أقلع من الشرق لا يعود، لا ينثني راجعا، لأنه متجه دائما إلى الغرب، هل رأى أحد من الخلق قرص الشمس يرجع من حيث أتى، من حيث طلع؟"

المعراج الروحي

هنا نجد الرواية مضمخة بعطر الفراعنة وغارقة في عوالمهم الطبيعية والروحية مما يضفي على الأمثولة دلالتها الرمزية الكبرى الغائبة عن سطح السرد، فالرحلة الباطنية والمشاهد الأسطورية نوع من المعراج الروحي الذي يمارسه الفنان المصري، متلذذا بإعادة الخلق ومغازلة الخلود. هذا الخطاب/ الصلاة قد كشف طرفا يسيرا من حجاب الرواية وشف عن بعض أبعادها وتتأكد هذه الدلالة عندما نرى التقاطع بين وعي المكان والزمان عند الراوي وتأويله لدى القيم، حيث يصف إقليمه بأن "طوله مقارب لعرضه يستغرق أربعة عشر يوما على ظهور الجياد.. لكن توجد ترتيبات خاصة تكفل اتصال المقاطعات السبع، والمدن السبعين، والمحلات السبعمائة، والواحات الثماني، بحيث تصل الرسالة من أقصى طرف إلى الناحية الأخرى في أقل مما يستغرقه قيام وقعود".

فنحن حيال عالم متجاوز للمكان المنظور، يرتكز على الخواص الميثولوجية للرقم 7 ومشتقاته، وهو رقم سحري لا يمكن أن نفهم منه مجرد العدد فحسب، بل هو نقطة تقع عندها تقاطعات المحدود باللا نهائي، لأن الزمن الكوني لا عمر له في بدايته أو نهايته، والإنسان مقتطع من هذه اللا نهائية، له مولد وموت يحدان وجوده المتعين، وربما كانت عدة أيام الأسبوع وهي بنية ذهنية من أذكى الحيل التي ابتدعها ليقيس اللا محدود من عمر الأبدية على أيامه المعدودات، أي يعرض النسبي على المطلق في لفتة قوية تجسد وعيه بذاته المؤطرة وكونه المترامي في الآن ذاته.

ولأن "هاتف المغيب" مقصوصة من قماش أسطوري، لا يمثل الواقع المباشر ولا اللحظة التاريخية المتعينة، بل تقع فيما وراء الزمان والمكان، فإنها محملة بالتأملات الرمزية الخصبة في طبيعتهما. فلا يكاد يخلو مشهد ولا لحظة من محاولة اقتناص الماوراء وإدراك السر. فالشمس رمز، ومكان الغروب رمز، والبشر رموز، والواحة ومملكة الطير وسرادقات العكاكيز رموز. لكنها صنوف من الرمز المؤطر في ميثولوجيا أشواق الوجود. يقول الراوي قبيل الختام:

"لو تتجسد اللحظة الآنية فأحاط علما بما يجري في كل موضع حللت به، لكني أطلب المستحيل. لو أوتيت البراق عينه فبمجرد نقلتي من هنا إلى هناك تلغى الآنية.. إذن ما أنا إلا محكوم عليه بالعدم. عندما أصل منتهاي تبدأ رحلتي، كينونتي الحقة" لقد تطلع من قبل إلى كسر حاجز الزمن عن طريق الانتقال المفاجئ في المكان، فتصور أنه لو سبق إلى استطلاع الشروق في أرض قبل موعده فإنه يكون قد سافر إلى الماضي، ولو فعل ذلك في الغروب لسافر في تقديره إلى المستقبل. والهاتف القدري الذي يقض مضجعه ويحدد محطات سفره لا ينبع غالبا من داخله، بل من قوة خفية التدبير لا يستطيع لها ردا. هل الرحلة هي رحلة العمر؟ لكن من الراجح أنه ليس عمر الفرد وحده، قد يكون عمر النوع البشري كله، هذه هي خصوبة الأدب الميثولوجي في شموله وتعدد دلالاته.

السلطة المطلقة وكيف تولد؟

أما الدلالة الجانبية التي تنمو في النص عبر تجربة السلطة في المملكة فهي ذات علاقة حميمة أيضا بالشخصية المصرية، وتتمثل في كيفية تمكين عظمة الملك لدى الولاة وتحويلهم تدريجيا إلى أنصاف آلهة. تؤخذ كلماتهم العشوائية وإشاراتهم المجانية لتكتسب قداسة وأهمية كبرى بفعل أجهزة الدعاية التي تتلخص حينئذ فيما يسميه الراوي "الديوان". ويرى القارئ ذلك من داخل الشخصية لأنها هي التي تمر بتجربة التملك والتأله: "كنت أستعيد ما سمعته في صباي عن السلاطين والأمراء. أمعنت فيما يخصني. من ذلك إشارة إصبعي عند امتداد أمري وعنف لفظي. أكثرت من التلويح به حتى صار علامة شائعة. دالة علي. تماما كنبر صوتي وقسماتي. لكن الأعجب هو ظهور سمات السلطنة يوما بعد يوم مع ممارستي للحكم وتقبلي خضوعا الآخرين. طبعا لم يخل الأمر من هنات، بل.. هفوات، لولا مكانتي السامية لشاعت وعدت من سقطات الملوك، مثل تفوهي ألفاظا لا أنتبه إلى فظاظتها إلا بعد خروجها. هذا بعض ميراث النشأة الأصولية على الطباع المكتسبة. لا يجسر مخلوق على إبداء ملحوظة، فما أنطقه يتم الإصغاء إليه، يدون. كثيرا ما نطقت جملا لا أقصد منها شيئا، ثم أفاجأ باللافتات في كل مكان، عليها الحروف الضخمة "من فكر مولانا" "من أقوال سيدنا" "من مختار كلمه" أو "هكذا تحدث ابن الشمس".

ومع أن اتخاذ المنظور الداخلي للراوي في هذه المشاهد لا يسمح بإقامة المسافة النقدية اللازمة لكشف مناورات صناعة الزعامات بشكل مباشر إلا أنه من المناسب أن نشير في هذا الصدد إلى أمرين:

أحدهما: هو اعتماد المؤلف على المرجعية التاريخية القريبة في وصف إجراءات تحويل الشخوص الحاكمة إلى أساطير متألهة، لكنها جميعا تلتقي في نطاق صناعة الزعامة وأسطورة الحكم.

وثانيهما: أن السمة الماضوية المسيطرة على السرد والطابع الملحمي الغنائي الغالب عليه، لا يتيح للنص أن يبرز بشكل صاف رؤية ناقدة لهذا النوع من السلطة إلا عن طريق التحريك البطيء للوعي العميق بدلالة الأمثولة البعيدة، فالنبوءة فيها لا تتجه إلى المستقبل بقدر ما تمعن في الطابع الغيبي الغارق في تلافيف الماضي. فنحن هنا لا نكاد نستشرف ما تطمح إليه نظم العلاقة الجديدة بين السلطة وإرادة الشعوب في التنظيم الديموقراطي الذي يخلع هالات القدسية عن الحكام ويبطل أساطيرهم ويحيلهم لأفراد من عامة الناس تشتد محاسبتهم بقدر ما تعظم أهميتهم، ولا يمكن للمنظور الأسطوري في السرد أن يبرز هذا الجانب المستقبلي إلا عن طريق التأويل واستخلاص الدلالة الكلية البعيدة.

شعرية الصيغ

تحتل الصيغة في نسيج السرد أهمية خاصة، إذ تنصب فيها أصوات الماضي والحاضر. وتتراءى في هندستها تعاريج الوعي باللغة والحياة معا. والغيطاني دائم التواصل مع الجملة القرآنية، مما يضفي على صيغه سمتا عريقا ويكسبه روحا كلاسيكيا أصيلا.

ولنتأمل إحدى فقراته الموحية: "كنت كلا متكاملا، متلائما، لكنني مع كل مرحلة أقطعها باتجاه موضع مغيب الشمس أتعدد، أنشطر. مني ما يبدو واضحا جليا، ومنى ما تلاشى فلا أمل في استرجاعه. حتى كأني لم أعلق بأهلي يوما، ولم أتدثر بهم آمنا، ولم أقلق لتأخر أبي. ولم يمضني صمت أمي. ولم أفرح بمقدم الأعياد ونحن صحبة، كأن وصلا لم يجر يوما، ما كان منى تذري، فيا حسرة على العباد".

هنا تقوم التكوينات اللغوية المتسقة في أنماط نحوية متوازية بتقطير إبداع الراوي وتشجير عالمه، ببث الروح فيه، حيث تسكنه الكلمات الكبرى وتغدو واقعه الحي. الأمر الذي يفضي إلى ارتباط الصيغ بالرؤية المعراجية وينم عن اتساع فضاء النص بحيث تمتزج شعرية الحرف بشعرية الحكي وتشف عنها. فلا نكاد نتوقف عند سطح الكلمات مع أنها ذات ثقل إنشائي باهر، إذ إن الصيغة تصبح حالة مكثفة تتولى تفجير الطاقة الشعرية للحظة السردية.

وقد يسرف الغيطاني في الاعتماد على بنية لغوية كلاسيكية، هي بنية الوصف، وهو بطبيعة الحال من فعل الذاكرة، وخلاصة التجربة غير المنظورة، ولأمر ما يقول فيلسوف العلم المعاصر "باشلار" إن الوصف ينتمي إلى مرحلة ما قبل العلم. وبقدر ما تمتد مساحة الوصف في النص السردي يقرب من روح الفن الكلاسيكي ويجافي قليلا توجهات السرد المحدث المعتمد على اللفتة الذكية والحركة الموحية فحسب. الوصف تراكم خارج الحدث الدرامي وبدانة معوقة لنشاطه الديناميكي، ومن ثم فهو ينتمي إلى النموذج الجمالي القديم. و "هاتف المغيب" مفعم بهذه البدانة والسمنة الوصفية، ولنراجع مثلا تقديمه في المطلع للشيخ الأكبري في نصف صفحة، فهو طبقات من الوصف تحتاج إلى كثير من التنشيط والحيوية. غير أن هناك بعض الأوصاف التي تمثل لوازم ذات وظيفة ملحمية مهمة وهي تتكرر بإيقاع خاص في النص، وتنحو إلى تجسيد ملمح مميز للشخصية، فكما أن "هيلينا" في الملحمة اليونانية توصف دائما بأنها "ذات الخصر العميق" و "هيكتور" "ذي الخوذة النحاسية" فإن الراوي في هاتف المغيب يمتاز بخاصية أحسب أن لها وقعا شخصيا أثيرا عند المؤلف ذاته، إذ: "يقول له من يطيلون التحديق صوبه: تبدو كأنك على وشك البكاء، ولكنك لا تبكي. حتى بعد بدء الابتسامة الدائمة لم ينمح أثر تلك الدمعة المطلة أبدا ولكنها لا تخرج" ثم يعيد مرارا وصف هذه الخاصية في مثل قوله على لسان الراوي الآخر: "أقول أنا جمال بن عبدالله إنني كنت أتمهل عند تدوين هذه المواضع، أبطئ حركة القلم وأتطلع. أرى في ملامحه ما يفوق قوله وألمح في عينيه ما يتجاوز وصفه، أما تلك الدمعة المعلقة، غير المرئية فتثير عندي أسى غامضا". وإذا صح ما أحدس به من طابع شخصي لهذه اللازمة الوصفية فإنها تصبح من معالم الذاتية في الرواية، وتتجاوز في وظيفتها مجرد الوصف الخارجي الملحاح لتشير إلى الصبغة العاطفية الدفينة الكامنة تحت السطح السردي، إذ تنحو إلى تفجير طاقة من الحنو والتماهي مع الشخصيات، مما يعد أحد ينابيع الشعرية في سرد الغيطاني، وهي شعرية، كما رأينا، ذات مذاق ملحمي وغنائي شفيف.