واحة العربي محمد مستجاب

الذراع
حين تبتهل، وتتوسل، وتصارع، وتستغفر، وتقود الأوركسترا

الذراع هي ذلك العضو الذي يتدلى من أعلى الجذع، تعريف مدرسي لا يحتوي شيئا من قدرات الذراع: الحركة والهجوم والإدارة والإشارة والدفاع والاغتيال والمكر والاستسلام، حتى النصر يمكن أن تنفتح له إصبعان من كف الذراع، فإذا ذرع فلان فلانا، فهذا يعني أنه طوقه بذراعه حتى قضى عليه، وهكذا كدت أفهم (الذرائعية) على أنها استخدام ذكي للذراعين، مع أنها تعني أن معيار صدق الفكرة أو صواب الرأي هو النتيجة العملية وما يترتب عليها من حيث كونها مفيدة أو ضارة، وهو مذهب البراجماتية النفعي الذي يؤسس قيمة السلوك والمعرفة على الجدوى والهدف، والذي أسسه وليم جيمس وتشارلز ساندر بيرس، ثم توسع فيه جيمس واعتبره منهاجا تربويا حتى ارتبط به الأمريكي جون ديوي. وحركة الذراع تترجم ما يصعب على الكائن الإفصاح عنه دون ذراع: انظر للإنسان في حالات الابتهال، والتوسل، والرضا، والاستغفار، والتهديد، والاستهانة، وحتى القرد الذي لا تزال ذراعه تؤدي وظيفة المشي مع ساقيه الخلفيتين: يشير إليك محتجا ورافضا، حيث لا يكتفي بالصراخ تعبيرا عن ذلك، والذراع التي تلتف حول رقبة الجواد في حب ثم تنزلق بعيدا، تجعل هذا الحيوان شديد التعلق بصاحب الذراع، ويكون التعلق أكثر سخونة لو كان الذراع لأنثى دافئة، لاحظ أيضا مشهد ذراع النوتي - أي البحار - حين يتشبث بذراعه أعلى عمود القلوع حتى يرى آخر ما يمكن الوصول إليه في الأفق، ومشهد ذراع الراعي الذي يشير لأغنامه لحدود المساحات التي يجب ألا تتخطاها، ومشهد ذراع لاعب التحطيب وهي تصنع دائرة تحمي الرأس والكتفين من عصا الخصم، ومشهد ذراع القائد العسكري وهو يشير - في حركة منبسطة - إلى الركن الأحمر شديد الخطورة لاحتمالات حركة جيشه، ومشهد ذراع جمال عبدالناصر وهو يرتفع لأعلى معلنا هذا النص التاريخي بصوت تاريخي: تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس، ومشهد ذراع المايسترو وهو يدور حلقة أو نصف دائرة أو يرتفع وينخفض رأسا، سريعا أو بطيئا، لتتعلق بهذه الذراع عيون العازفين، ليندفع تحت وطأة حركة الذراع أريج الموسيقى، ومشهد ارتكاز ذراع الجمال - أي صاحب الإبل - على مرفقه كي يساعد القاعود الشاب في أولى مهام حمل الأثقال، ومشهد ذراع المتصارع الملتوي حول ذراع متصارع آخر، وهي تعتصر أو تعتصر، ثم مشهد ذراع الأم المحتضنة تلك الوليدة المغمورة الرأس تحت ساتر الثدي، وهناك ذراع أدولف هتلر، القصيرة التي أسست حركة خطوة الأوزة - للجيوش ولا سيما حين يهدد وينذر ويسخر، أضف إلى ذلك أذرع المدرسين الشارحين المتجهين للسبورة السوداء وأصحاب القوارب المجدفين، وأذرع فتيات الاستعراضات تومئ للعالم بمرونة الحركة وسحر التضافر، ثم الأذرع المتوالية في تحريك آلات التصوير، والعجن، واللت، والتفصيص، والتقشير، والتخمير، والتحمير، والقفز على السطوح وبالأيدي أواني المياه لإطفاء الحرائق، والذراع تفرد أصابعها في عالم الألوان وتعود لتختزل الرؤى سعيا إلى قماش اللوحة المهيأة للرسم، والذراع تلتف في حنان وقسوة حول الرقبة المستكينة حتى تضبط الحبل تمهيدا لعملية الشنق، والذراع تشير للواقف أن يجلس، وللصارخ أن يسكت وللمعارض أن يصمت ويخضع، والذراع وهي تحتضن المدفع الرشاش منطلقة به نحو المنصة ليسقط الرئيس في مشهد فريد سيظل ملتصقا بذاكرة هذه الأجيال طويلا، والذراع وهي تدق بالقباقيب رأس شجرة الدر، والذراع التي تشير للتلاميذ فتطلق أناشيد طابور الصباح الجميل، والذراع التي تشد الجمجمة وتعدلها نحو الضوء تمهيدا لتشريحها، والذراع التي تخبط المياه انسيابا لسباحة فاتنة، والذراع التي ترتكز على حافة المكتب لبنت ذات كتاب جاءت تستفسر بحثا عن حل أو فهم أو وسيلة للإدراك، ثم الذراع التي تلف بالفرشاة الضخمة واجهة بيوت الحجاج راسمة مراكب وطائرات وآيات قرآنية. إنها الذراع التي اختزلت العالم في قدراتها، لتصبح امتدادا للعقل وللرغبات وللممكن وللبحث عن الغامض المستتر والغريب الكامن. ومن الذراع تأتي الذريعة، أي السبب أو الدافع أو المبرر، وعند جمعها تصبح ذرائع، وأخطر أنواع الذرائع ما نلجأ إليه من سلوك غير شرعي كي ندرأ به، وندفع عن أنفسنا خطرا داهما، وباب الذرائع في الشريعة له فقهاؤه ومفسروه، والتوسع فيه محاط بالأشواك. والذراع تعد أول عضو استعمل في إثبات هوية - أي بطاقة شخصية - لصاحبه، وفي الريف - الصعيد المصري وجنوب محافظة البحيرة وبدو الفيوم بالذات - كانوا يرسمون بالوشم إشارات الفخر على الصدور، الأسد والسيوف والصقر، وعلى الذراع بعد المعصم مباشرة - تجد إشارة دينية: الصليب المسيحي أو المربعات والهلال عند المسلمين، ثم على بطن الساعد اليسرى زخارف من أوراق أشجار تحمل اسم صاحب الذراع وبلدته، فإذا صعدت قليلا نحو الكتف فسوف تجد شعارا دينيا، الحمد لله والله أكبر وصلى الله على خاتم المرسلين، وكل هذا ليس ثابتا، فالذين يقومون بالوشم متعددون متناثرون في الأقاليم، وقد رأيت بنفسي جسدا آدميا موشوما كله حتى القدمين: البطن والظهر والذراعين والساقين بمعلومات عنه وعن بلدته ومنطقته مع إشارات دينية تدعو له بطول العمر، غير أن الوشم بدأ يتراجع تاركا الأمر لأوراق إثبات الشخصية. وعلماء الأحياء يمعنون كثيرا في الذراع التي تخفي - تاريخيا - كل تطورات المخلوقات: كانت زعنفة لسمكة، وجناحا لطائر، وقدما أمامية لثعلب، ثم تحورت إلى ذراع تنبش بها إيزيس تراب أركان النجوع والكفور والمضارب بحثا عن أعضاء جسد زوجها أوزوريس الموزعة في أنحاء الدنيا.

 


أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات