جمال العربية فاروق شوشة
جمال العربية
قفي يا أميم القلب غاية ما تقوله عنه كتب التراث العربي أنه كان شاعرا وفارسا شجاعا، عاش بين الحجاز واليمن، قاطع طريق، وأن الدمينة أمه، غلب عليه اسمها، فشهر بنسبته إليها. ويعده بعض الرواة من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية أي ممن امتد بهم الأجل فأدركهما معا، ويذكرون أنه مات مقتولا سنة مائة وثلاث وأربعين هجرية ، ويتقدم بعضهم بهذا التاريخ فيجعله سنة مائة وأربعين. ولقد عاش عبدالله بن الدمينة حياة درامية عاصفة. بدأت بقتله لمن يسمى "حماء" الذي قيل إنه كان على علاقة بزوجة ابن الدمينة، ثم هرب بعد ارتكابه جريمة القتل فقبض عليه وسجن زمنا، وبعد أن أطلق سراحه تعقبه أخو القتيل - وقيل بل ابن القتيل - مطالبا بالثأر حتى قتله على غفلة. ويمتلئ شعر ابن الدمينة بالحديث عن "أميمة" التي تيمه حبها، وأكثر فيها الغزل. وهو غزل يذكرنا بغزل العذريين، صادق الإحساس، عف، رقيق. ولم يكن ابن الدمينة بعيدا عن التأثر بما أبدعه شعراء العاطفة في بوادي الحجاز ونجد، من أمثال قيس بن الملوح مجنون ليلى، وقيس بن ذريح صاحب لبنى، وجميل بن معمر صاحب بثينة، وكثير صاحب عزة وعروة بن حزام صاحب عفراء وغيرهم. إنهم كوكبة الشعراء العذريين الذين توهج شعرهم أولا بتقاليد الفروسية العربية التي كانت تحرص على الاعتزاز بقيم الشرف والعفة والتصون - في نظرة العربي إلى المرأة - وترى في الموت دفاعا عن شرف المرأة أو العرض شرفا أي شرف، ثم توهج شعرهم بتلك العاطفة الدينية التي غرسها الإسلام، حتى لقد أصبحوا يعدون الجهاد في الحب أقسى على النفس وأشد هولا من الجهاد في الحرب، ويعدون من قتل في جهاد الحب شهيدا كمن مات وهو يجاهد في سبيل الله. يقول جميل:
هؤلاء الشعراء والمحبون العذريون كانوا ينظرون إلى الحب باعتباره قضاء من الله لا مفر منه، وأنه - كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال في دراسته الرائدة والمتميزة عن الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية - لا ملام عليهم إذا رزحوا تحت أعبائه، إذ لا حيلة لهم فيه. يقول جميل:
ويقول قيس بن الملوح مجنون ليلى: قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا؟ إن العذريين يذعنون للحب باعتباره قضاء من الله، ويصبرون على تباريحه، راجين عليه الثواب، ويرون أنفسهم مجاهدين أبطالا، لذا فهم لا يبغون عن هذا الحب حولا، بل يرجون منه المزيد. يقول أبوصخر الهذلي: فيا حبها زدني جوى كل ليلة ويا سلوة الأيام موعدك الحشر وقد كان هؤلاء العذريون يذوبون رقة لسجع الحمام ويشاركونه الحزن والشجن، ويتخيلون أنه يشاركهم الوجد والهيام. يقول ابن الدمينة: أإن هتفت ورقاء في رونق
الضحى على فنن غض النبات من
الرند ويقول - في موضع آخر من شعره - مؤكدا أن هذه العاطفة التي يحملها لمن يحب، سجية براه الله عليها، فهي مصاحبة له منذ بداية خلقه وتكوينه:
وابن الدمينة هو صاحب هذين البيتين المشهورين اللذين تغنى بهما الموصلي وأصبحا بفضله صوتا غنائيا ذائع الصيت:
وسيجد قارئ شعره بالإضافة إلى حديث الكبد المقروحة إشارات إلى حديث البرق وغراب البين نذير الشؤم والفراق وحمى وادي المياه والإنسان الشحيح الذي يحوطه - وهو في حقيقته حبيب القلب ونجي النفس ومنية الفؤاد - لكنه يبخل بشربة من العذب تشفي ما به فتريح، خشية أن يبوح بها ويصل الخبر إلى الأعداء. والقصيدة التي نعرض لها الآن هي أجمل آثار ابن الدمينة الشعرية، وأكثرها دورانا على الألسنة في مقام الاستشهاد بشعره والإشارة إلى شاعريته، وفيها تتألق معالم هذه الشاعرية وتتكامل: لغة تحمل أقباس شعر العذريين: معجما وصورا وظلالا، وشكوى حارة - من شوق لاعج وعاطفة دفينة - تتململ بين الكلمات وتسري كالكهرباء، لافحة عاصفة، وعفة تناول تصنف صاحبها بوصفه نموذجا للحريص على التقاليد والتصون، والتفات إلى خطاب النفس يبدع الشاعر من خلاله مونولوجا شديد الأسى والشجى، مجسدا لفيض الحنين والرغبة في التواصل، ويختتم قصيدته بصرخة حارة يتجه بها إلى أميمة: أرى الناس يرجون الربيع، وإنما ربيعي الذي أرجو نوال وصالك وفي القصيدة قدرة خارقة على التصوير، وحلول للطبيعة باعتبارها شريكا في موقف الحب لا بوصفها خلفية تقليدية أو مجرد شاهد ورقيب. فالكائنات من حول الشاعر - حتى الجمادات -تنتفض جميعها بروح المشاركة ويخلع عليها من روحه وحرارة نجواه، ما يجعلها تتأنسن وتصبح شخوصا حية: فيا بانة الوادي أليست
مصيبة من الله أن تحمي علينا
ظلالك إن شجرة البان تكافئ وتجازي ذلك الذي ذهب الهوى بعقله، وهو متيم علقته بحبالها، وجعلته في أسرها لا يملك حولا ولا فكاكا. يقول عبدالله بن الدمينة:
|
|