الديمقراطية في مواجهة تجربة جديدة: المرأة الكويتية تظفر أخيراً بحقوقها السياسية

الديمقراطية في مواجهة تجربة جديدة: المرأة الكويتية تظفر أخيراً بحقوقها السياسية

حديث الشهر
الديمقراطية في الكويت ليست ترفاً، والمرأة ليست نصفا عاطلاً. والتجربة هي المحك

لم تدع التجربة الديمقراطية في الكويت هذا القرن يمر دون أن تمر باختبار آخر يؤكد مدى حيويتها وصلابتها أيضاً. ففي الشهر الماضي والأيام الأولى من هذا الشهر، خاضت الكويت آخر معاركها الانتخابية التشريعية، وهي ليست آخر الانتخابات في هذا القرن، ولكنها آخر الانتخابات التي يقتصر الدخول فيها على الذكور فقط، ولعل هذا الأمر هو الذي أضفى سخونة إضافية على هذه الانتخابات، فقد ترشّح لنيل المقاعد الخمسين أكثر من أربعمائة وخمسين مرشحا، أي أن أمل كل واحد منهم في الوصول إلى المجلس إحصائياً لم يكن يتجاوز العشرة في المائة.

الديمقراطية في الكويت ليست ترفاً ولا ديكوراً سياسياً، لكنها ذات أهمية قصوى لسير أعمال البلاد، فقد رسخت في قلوب الكويتيين حكّاماً ومحكومين كأسلوب وطريقة وممارسة، وأصبحت هي الوسيلة الوحيدة التي تقدم المشروعية لكل ما تقوم به السلطة التنفيذية من إجراءات سياسية، رغم أن البعض مازال يخلط بين المشروعية النابعة من الشعب، والمشروعية القائمة على "فتوى" المقلدين أو المحدثين.

والذين تابعوا الحملة الانتخابية هذا الصيف، شاهدوا كيف كانت ساخنة وغير تقليدية، فقد جاءت بعد حل لمجلس الأمة الثاني بعد تحرير الكويت، حيث مارس المجلس الأول أعماله من سنة 1992 إلى 1996، ثم جاء هذا المجلس الذي لم يستطع الصمود لحين انتهاء مدته بعد عام واحد من الآن، فقد أصبح من المستحيل أن يتوافق عمل الحكومة مع المجلس، وأصبحت القوانين التي تعطل أكثر من التي يوافق عليها، وأصبح رماد المناقشة المتطاير يعمي الأعين عن رؤية الحقيقة، لذا فقد كان الحل هو اللجوء إلى الدستور الذي يبيح حل المجلس، والدعوة إلى انتخاب مجلس جديد آخر بنفس الآلية الديمقراطية، ولكن بجانب سخونة الجو في صيف الكويت الحار، كانت هناك سخونة أخرى هي جو الحملة الانتخابية في الوقت الذي تواجه فيه الكويت خيارات كبرى مطروحة عليها، خاصة خيارات الانتقال الاقتصادي من دولة العدالة الاجتماعية ذات الوفرة إلى دولة العدالة الاجتماعية المصاحبة للندرة.

الكويت مثل معظم جاراتها دول الخليج تعتمد في معظم دخلها على مادة أولية هي إنتاج وتصدير النفط، ومن الريع المتدفق من هذه المادة يتم تمويل الخطط التنموية المختلفة، وتقديم الخدمات العامة للمواطنين، ومع تراجع أسعار النفط، بدأت هذه المجتمعات تفكر في تحويل أنظارها من توفير الخدمات إلى مراقبة جودتها، ومن مكافأة المواطنين على تكاسلهم إلى تعظيم قيمة العمل، وإرساء قيم مثل هذه يحتاج إلى جهد وافر بعد أن ظلت فلسفة الرفاه هي المسيطرة في نصف القرن الذي يكاد ينصرم.

في مثل هذه الأجواء، تصبح الديمقراطية والمشاركة ضرورية لتسيير دفة المجتمع والتحاور حول أفضل السبل للوصول إلى بر الأمان، ولكنها أيضاً ليست ديمقراطية الرفاه، بل ديمقراطية الندرة، ولها متطلبات مختلفة عن الأولى، من تلك المتطلبات أن يعرف الجميع حدود وقدرة الدولة المادية للوفاء باحتياجات الناس من جهة، ومدى هذا مع تواؤم خططها من جهة أخرى، ليس في سبيل الدفع بفلسفة التوزيع، ولكن في سبل الدفع بفلسفة التجويد.

في هذه المرحلة الحرجة التي تعبر فيها الكويت جسر العبور من الوفرة إلى الندرة، لابد من تعزيز الديمقراطية وتكثيفها، ومن هنا، جاء القرار الحكيم والصائب والحضاري الذي بادر به صاحب السمو أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح لتمكين المرأة الكويتية من استخدام وتفعيل حقوقها السياسية في الترشيح والانتخاب، بدءا من الانتخابات القادمة بعد أن تتاح الفرصة لمن يرغب من النساء في التسجيل في كشوف الانتخابات التي تفتح قانوناً في شهر فبراير من كل عام.

وقد أحدث هذا القرار نقلة نوعية في النظر إلى كنه الديمقراطية الكويتية، ولأول مرة بعد ماضى ما يقارب الاربعين عاماً على الممارسة الديمقراطية ، وصدور الدستور في الكويت تنال المرأة حقوقها السياسية كاملة، ولقد وعى الآباء المؤسسون هذا الأمر، فلم يضعوا في صلب الدستور الكويتي ما يمنع من مساهمة المرأة ، ولكن قانون الانتخابات اللاحق حدد الناخب بأنه الذكر ، لذلك، فإن هذا التغيير لم يستلزم غير تغيير بسيط في قانون الانتخابات يعلي من شأن المواطنة ولا يقيم وزناً لفارق الجنس، وقد يبدو هذا التعديل بسيطاً ، ولكن نتائجه الاجتماعية والسياسية سوف تصبح كبيرة، وستظل تتفاعل لفترة طويلة من الزمن.

هذا الإنجاز المحلي ذو الدلالة العالمية يؤكد أن القيادة السياسية في الكويت مؤمنة- على عكس ما حاول البعض التشكيك فيه إثر حل مجلس الأمة- بأن الديمقراطية والمشاركة هي هنا لتبقى، لأنها الطريق الوحيد إلى تنمية حقيقية يحققها المجتمع ككل ، وهي قائمة على المشاركة والتعددية وأيضاً الشفافية، وهي مكاسب مازالت القيادة السياسية تضيف إليها- وعن وعي مسبق وإصرار حضاري- المزيد من خبرتها وحسّها بروح التحديث والتغيير التي أصبحت المجتمعات الإنسانية تقف في مواجهتها، فالقيادة بطبيعتها مطلوب منها أن تقود لا أن تخضع للأهواء التي تنبع أحياناً من أبعاد مصلحية ضيقة. فهناك علاقة متداخلة بين أفكار ومخططات النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي، ومفهوم العدالة بمعناها العميق والواسع، فالتطور الديمقراطي يضع آليات محددة لنشر العدالة بين الناس عبر شكبة من الأمان السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الذي يحققها ، وأحد أسرار نجاح آليات الديمقراطية ، أنها تصحح أخطاءها أولا فأولا، ومن أول هذه الأخطاء حرمان المرأة الكويتية من حقها الطبيعي في المشاركة في الحياة السياسية ، وها هي قد فازت به، ونحن على مشارف الألفية الثالثة، لأن هناك فئة من الناس دأبهم الاهتمام بهذا المعنى الشمولي للعدالة.

لقد بدا وكأن الديمقراطية في الكويت تولد من جديد مع السماح للمرأة بممارسة حقها السياسي، لأن نصف المجتمع سوف يساهم فيها بحيوية بداية من السنوات الأولى من القرن القادم، كما أنها أعادت النقاش بين المحافظين والمطالبين بولوج العصر الذي نعيش، والتكيف مع المكان والزمان بالطريقة الصحيحة.

ديمقراطية الأعراف الاجتماعية

ولكن هذ لا ينفي أن موضوع السماح للمرأة في الكويت بالانتخاب والترشيح قد أعاد من جديد طرح العديد من القضايا الساخنة سخونة أيام صيف الكويت، وعلى رأسها قضية العلاقة بين الدين والديمقراطية، وهو طرح ليس بالجديد، ولا هو خاص بالبيئة السياسية الاجتماعية الكويتية، وإن بدت بعض تفاصيله كذلك، ولكنه موضوع عام يخص معظم- إن لم يكن كل- المجتمعات الإسلامية والعربية، وهو على علاقة وثيقة بكل قضايا التنمية الشاملة التي تواجهنا كعرب ومسلمين.

فقد وضع البعض مسألة نيل المرأة حقوقها السياسية وكأنه عمل "مضاد" للشريعة الإسلامية، وهو البعد الأخطر في نقاش من هذا النوع، فمثل هذه النقاشات لاتنصب على موضوعات سياسية أو اجتماعية، ولكنها تضع الفكر الإسلامي في مأزق حين تصوّره وكأنه مضاد للحقوق والحريات "الإنسانية"، وهي مقارنة غير موضوعية على أقل تقدير، لأنها تنبع من محاولة احتكار تفسير تعاليم الإسلام العظيم، وليست هناك مشروعية لاحتكار طرف من الأطراف تمثيل الإسلام والمسلمين حصراً، وهو خلط لا يجوز بين الإسلام المطلق ذي الأبعاد الإنسانية والممارسة الإسلامية المحلية الخاضعة لظروف البيئة، وهي مفارقة ليست خاصة بالكويت ولكنها موجودة في الكثير من الدول الإسلامية بعد أن احتلت القوى السياسية لبلدان إسلامية عديدة.

ويقول لنا الواقع الموضوعي إن هذا الأمر ينتمي إلى تقاليد البيئة الاجتماعية، وليس خاصاً بتعاليم الإسلام. فبلاد مثل إيران أو مصر أو المغرب أو الأردن أو بنجلاديش أو باكستان أو غيرها لا يشك في هويتها الإسلامية قد أعطت المرأة كامل الحقوق السياسية، وبلاد مثل أفغانستان فرضت فيها البيئة المحلية والصراعات العسكرية نوعاً من الممارسات التعسفية ضد المرأة، والتي صوّرها منفّذوها وكأنها تعاليم "الإسلام" وهو منها براء.

ومن البديهي أن تأتي بعض التفسيرات الدينية مصاحبة للبيئة الاجتماعية والسياسية التي تخرج منها، وتلك حقيقة موضوعية منذ أن غير أحد الفقهاء العظام وهو الإمام محمد بن إدريس الشافعي بعضاً من اجتهاداته وفتاواه وفق التغيرات التي تشهدها البيئة الاجتماعية من مكان إلى آخر من رقعة العالم الإسلامي الممتد، فهي في المدينة غيرها في الكوفة، ومن ثم غيرها في مصر! لذا فقد خضع نيل المرأة لحقوقها السياسية لعوامل كثيرة أهمها تلك التطورات التي شهدها المجتمع المدني في البلاد العربية مع اختلافات طفيفة في درجة التقدم والتأخر، وتواريخ نيل المرأة لتلك الحقوق هو الدليل على ذلك فقد كانت المرأة السورية هي أول من حصلت على حق الانتخابات وفق شروط مقيدة في عام 1949، وقد أزيلت هذه القيود في عام 53، وأصبح من حقها التصويت والترشيح، ولقد لحقت بها المرأة اللبنانية في عام 1952، بينما لم تظفر المرأة المصرية بهذا الحق إلا في عام 1956، وشهدت الستينيات طفرة كبيرة في نيل المرأة لحقوقها في المغرب 63، وفي ليبيا والسودان عام 64، وفي اليمن الجنوبي 67، وتأخرت رياح التحديث حتى التسعينيات قبل أن تهب على بلدان الخليج العربية فنالت المرأة الإماراتية حقوقها عام 97، أما المرأة في قطر والكويت فقد نالت حقوقها هذا العام (1999) قبل أن يغلق القرن أبوابه.

ويختلط الأمر على البعض بين الشأن الديني المقدس والشأن السياسي الوضعي، فيدخلون دون علم أوروية في تعطيل المصالح المرسلة للناس وتضييق أفق الحياة التي يسعون في رحابها، فالفرق بين الاجتهاد ومواءمة العصر بأهداف الشريعة الإسلامية السمحة، ورفض التعامل مع الواقع تأكيداً على هوية غير متغيرة، هو أن الخيار الأخيرة تجميد يرفضة الواقع كما رفضه الإسلام من قبل، بل والأعجب أن هذا البعض يقبل بمؤسسات جديدة يمارس من خلالها عمله مثل الأحزاب والجمعيات المختلفة، وهي أحد أشكال المجتمع المدني، ولكن إذا حاول هذا المجتمع أن يستكمل أركانه ويضع دعائمه بمشاركة النصف "العاطل" منه اعتبر البعض ذلك خروجاً على الشريعة، أي أنه يقحم الشريعة في إطار مؤسسات ليست الشريعة طرفاً فيها، وهو تضيق متعسف ووضع للشريعة في غير إطارها.

مثل هذه الرؤية "المحافظة"، تقف حجر عثرة ضد الاجتهاد، مثل مشاركة المرأة في الحقوق السياسية، كمثل "علمانية" تركيا التي تمنع المرأة المحجبة من دخول البرلمان، كلاهما "مقلد" بمعنى من المعاني، إما مقلد أصولي أو مقلد علماني وكلاهما يرفض اجتهاد الآخر لأنه لا يتوافق مع ما يراه، وكلاهما يريد أن يسير المجتمع بشكل يرغبه هو وإن كان مخالفاً لما يراه الآخرون.

الأمر يطول في هذا المنحى من الحوار، فالإسلام منذ نشأته دين العقل والحرية الفردية، ويشمل العدل أصلين هما: الحرية والعقل، فلا عدل دون أن يكون الإنسان حرّاً عاقلاً، وتأتي الحرية قبل العقل، فالعقل سند للحرية، والعقل أصل النقل، بل إن العقل مصدر من مصادر التشريع يسمى القياس ، وقياساً على ذلك، يفرض علينا هذا الزمن مع تطورّاته العلمية والعملية أن يكون للمرأة مكانها في المجتمع في كل مناحي الحياة، وعلى رأسها السياسي منها، وعلينا أن نتذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية، قد أعطت للمرأة حق الترشيح منذ عام 1788 أي أنها سبقتنا بحوالي 210 من السنوات، ومن الأرجح أنها قد سبقتنا بنفس الدرجة في تطورها الاجتماعي والحضاري والعلمي أيضاً.

البعض الآخر- وهو الاتجاه الأقل خطورة- يبني "معارضته" لحقوق المرأة السياسية على تفسير لمنطوق الدستور، وهو الدخول في ما هو العاجل من الأمر من الآجل، وهذا أمر يخوض فيه القانونيون، ولكن هناك من يرى- وأنا من بينهم- أنه لو ترك الأمر (حقوق المرأة الكويتية السياسية) لأعضاء البرلمان، فإن القضية سوف تضيع في دهاليز السياسة والمناورات والحسابات الانتخابية والمصالح الشخصية الضيقة، ومن هنا، فإن الأمر هو أمر عاجل وليس فيه أي شبهة دستورية، لأنه لا يحقق فقط مصالح فئة اجتماعية أهدر حقها في الماضي، وهي نصف المجتمع، ولكنه بجانب ذلك يحقق مكسباً حضارياً للوطن.

التاريخ الفكري... والقطيعة

تاريخ الفكر والتقافة العربية يعاني- كما يقول المفكر العربي محمد أركون- من قطيعتين مؤلمتين- كأنه لا يكفينا قطعة واحدة- القطيعة الأولى بدأت من القرن الثالث عشر الميلادي عندما قطعت الفكر والثقافة العربية عن جذور تاريخها الخاص، أي عن فترة التأسيس، ثم عن الفترة الكلاسيكية الغنية والمبدعة من التراث من جهة، ومن جهة أخرى، فإن القطيعة حصلت بالقياس إلى انبثاق الحداثة وتوسعها في الغرب. لقد حاول العرب وبعض الشعوب المسلمة أن يتعرّفوا الحداثة الأوربية في قرن ممتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، كما حاول بعضهم أن يستكشف التراث بطريقة تاريخية تجعل فعلاً ماضياً غير قابل للتكرار، ولكنهم فعلوا ذلك بشكل جزئي، كما تم درسه باستخدام المنهجيات التاريخية الضيقة، ووقعوا أسرى موقفهم المعرفي.

لذلك يبقى البحث عن أسباب ضيق الأفق الفكري الذي أوصل العرب والمسلمين إلى ما وصلوا إليه اليوم، بمعنى آخر أنه ينبغي علينا أن نقوم ببحث تاريخي دقيق كي نفهم سبب وطأة تلك الأطر الاجتماعية التي لا ينتج عنها سوى نوع المعرفية السلبية، وهي التي تسود بصرف النظر عن الأشكال السياسية التي تأخذها الدولة في مجتمعاتنا، وقد سادت محاربة التفكير الحر إلى درجة إشاعة مقولة مغلوطة هي "من تمنطق فقد تزندق"!

ولقد وجدنا أن الفكر العربي والإسلامي منذ التصف الثاني من القرن العشرين- إن لم تكن جذوره قبل ذلك- في الكثير من المناطق الإسلامية يسعى حثيثاص لتزاوج فكرتين هما "الصحوة الدينية والدمقرطة"، وهما فكرتان تسعيان معا للحفاظ على "الهوية" وأيضاً للولوج إلى "الحداثة"، لكن تجليات تزاوج هاتين الفكرتين اختفت باختلاف البيئة السياسية والاجتماعية، ولم تجد حتى الآن محصلتها النهائية، ولكنها تحاول بإصرار.

في البلاد الإسلامية ذات الثقل البشري والكثافة السكانية تبدو القضية حادّة أكثر، بلاد مثل الجزائر وإيران على سبيل المثال لا الحصر تعاني من محاولة تفكيك هذه المعضلة وتركيبها من جديد، لقد ظهرت هذه القضية، وهي محاولة المزج بين التراث والحداثة في الفترة الأخيرة وبقوّتها التي نشهد بسسب الثورة الإيرانية في السنة الأخيرة من العقد السابع الميلادي لهذا القرن، وكانت واحدة من الانتفاضات الشعبية القائمة على الفكرة الدينية ضد التسلطية الحديثة والتي حاولت المزج بين التراث والشكل الديمقراطي الغربي. وفي التسعينيات ظهرت حركة الإنقاذ في الجزائر، والتي أطيح بها بعد تحدّيها لجبهة التحرير الجزائرية التي تعتبر نفسها الامتداد الشرعي لفعل التحرير من فرنسا.

في أغلب المناطق الإسلامية اليوم إحدى القضايا الرئيسية والمركزية لتحديد المستقبل السياسي لهذه المجتمعات هي العلاقة بين قوى الإسلام السياسي وتطوير نظام ديمقراطي، وتختلف التجارب وتتنوع نتائجها، إلا أن لب القضية يتشابه، فالحكومات والقادة السياسيون يستجيبون إلى الرغبة الشعبية في الموافقة على مشاركة جماهيرية أوسع في معظم الدول الإسلامية ومنها العربية، يحدث هذا في إندونيسيا وتركيا وإيران مع بعض الدول ومناطق أخرى، ولكن تظل المعادلة الصعبة قائمة: ما حدود "الديمقراطي"، وما حدود "القطعي" التي يرغب بعض الناشطين في الحركات الإسلامية السياسية أن يحققوها، في الوقت الذي يعترف الفكر فيه بأن الديمقراطية هي نسبية وليست قطعية، والمفارقة واضحة فأي خطأ فى المعادلة يطيح بأحد أركانها، تم ذلك في المعادلية الإيرانية، وتم بشكل آخر في المعادلة الجزائرية.

والحركة السياسية الإسلامية تواجه من جهة أخرى موقفاً صعباً، فهي عديدة الاجتهادات، بل متناقضة في الكثير من الأحيان، كما أن اجتهاداتها في العمل السياسي متناقضة، بل صارخة التناقض، بعضها يتبنى التغيير بالعنف واستخدام القوة، وبعضها الآخر يتبنى المعارضة السياسية السلمية، كما أنه في بعض البيئات تنجو بعض هذه الجماعات لتبني الديمقراطية كحق خاص وحصري للرجال فقط، وبعضها يشمل المواطن المسلم رجلاً كان أو امرأة، بل إن بعضها يعتبر الديمقراطية رجساً من عمل الشيطان، وبدعة غربية وغريبة!

نظرة تاريخية

التنافس والتعاون والصراع والتحالف هي مفردات مطروحة ومستعملة بكثرة في المجتمعات الإسلامية منذ منتصف هذا القرن، وسوف تمتد إلى سنوات قادمة في القرن الذي ننتظر قدومه، والموضوع هو السياسة والإسلام، وكثيراً ما توصف بأنها "جمع المقدس والسياسي"، وفي عرف العديد من الحركات الإسلامية أن الإسلام "دين ودولة"، كما أن الكثير من المدارس الإسلامية الفكرية تتحدث عن أن الإسلام طريق شامل للحياة، وفي الغالب فإن الاختلاف على الشعارات قليل، ولكن الاختلاف على التفاسير هو المعضلة الحقيقية.

في سنوات صعود الحضارة الإسلامية إبان الدولتين الأموية والعباسية، كانت هناك مؤسسات دينية خارج "الدولة" وجدت وتطورت وأصبح لها نفوذ في شئون الدين والفتوى، وقد أكسب ذلك طبقة العلماء نوعاً من النفوذ في المجتمع الإسلامي، وما تطوّر مدارس الفقه وظهور الاجتهادات المختلفة في بعض التفاسير إلا دليل على هذه "الاستقلالية" عن السلطة الحاكمة، كما أنها كانت في الوقت نفسه جزءاً مهماً من التطور التاريخي لتجربة الحكم الإسلامي، ولم يكن هذا يعني أن هناك "طبقة" دينية لها أعراف وتقاليد جامدة، ولكن كانت لها اجتهادات استقلالية، لقد تولد عن هذا الاستقلال الحركات الصوفية وبعض الحركات الباطنية، ولعلنا نذكر أن من أدخل جهاز الأزهر الشريف تحت عباءة الدولة هو محمد علي في القرن التاسع عشر، وقد قاده هذا إلى مرحلة من التخلف والاهتمام بالشكل والتقاليد الجامدة حتى جاء الشيخ محمد عبده، فبعث فيه روحاً جديدة، ولم يكتسب الأزهر شكله الحديث إلا مع قدوم عبد الناصر، في النصف الثاني من القرن العشرين.

وقد اختلفت أشكال الحكم في العالم الإسلامي في بداية العصر الحديث، بعض الدول كانت تحكم بسلطة القائد الأعلى للإمبراطورية متمثلة في سلاطين آل عثمان، والإمبراطورية المغولية في الهند، في إيران الحاكم كان "الشاه"، وفي أماكن أخرى كان "الإمام" كما في اليمن، ومن اللافت أن التطور الهيكلي الأساسي في البلاد الإسلامية خلط السياسة بالدين، وقد تطورت أشكال الحكم من خلال إصلاحيين كبار في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، منهم محمد علي في مصر، ومصطفى أتاتورك في تركيا، وعبدالعزيز بن سعود في الجزيرة العربية، الذين طوّروا المؤسسات التقليدية القائمة، وحدّثوها بما يناسب روح العصر، ورغم اختلاف سرعة التطوير ومداه ومساحته، فإنها لم تمر دون مقاومة، وقد ظلت العلاقة بين الدين والسياسة موضوعاً أساسياً في كل هذه التغيرات خلال القرنين الماضيين.

فقد كان هناك دائماً شيء من التوتر بين قوى التحديث والإصلاح، وبين قوى المحافظة، بين الممارسة الأقدام القائمة على التقليد والنقل- لدرجة المطالبة بنقل الممارسات الاجتماعية لما قبل الحياة الإسلامية- وما تفرضه ظروف العصر من تكيّف وإعادة فهم وتفسير.

لم تمر هذه التغيرات- كما قلت- دون مقاومة، فأول مصلح في العهد العثماني كان سليم الثالث الذي أطيح به سنة 1807 بتحالف مكون من القوى المحافظة، كما أن العلماء المحافظين في مصر قاوموا إصلاح التعليم، ليس على مستوى الإدارة فقط، بل وحتى لبس الملابس الإفرنجية، كما قاوموا التغيرات في مناهج الأزهر الشريف، بل إن بلداً مثل الكويت كانت القوى المحافظة فيه تعارض نشر المجلات في العشرينيات وتعليم المرأة في الثلاثينيات وإنشاء دور السينما في الخمسينيات.

بهذا المعنى، كان هناك توتر دائم بين قوى التحديث التي يطلق عليها البعض "غربية" أو في بعض الأحيان "علمانية" وتلك القوى التي تزعم احتكار تمثيل "الإسلام" والتي كثيراً ما توصف بانها "قبل حداثية" وربما "مضادة للحداثة".

صحوة جديدة

في القرن العشرين، ظهرت حركات جديدة تدعو إلى صحوة العالم الإسلامي تبلورت في جماعتين مهمتين ظهرتا بمشروع جيد ومختلف، كانت أولاهما هي جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي أسسها المرحوم حسن البنا في مدينة الإسماعلية على ضفة قناة السويس سنة 1928، وسرعان ما انتقلت هذه الدعوة إلى القاهرة وانتشرت كذلك في مصر وخارجها، أما الجماعة الثانية فهي "جماعة الإسلام" التي أسسها في شبه القارة الهندية أبو الأعلى المودودي في سنة 1941، هاتان الجماعتان هما مثلان مبكران على محاولة التمثيل والهضم والتوافق بين ما هو تراثي وما هو حديث، واللافت أن هذه الجماعات لم تلق تأييداً من القوى المحافظة في مجتمعاتها في بداية الأمر، بل استقطبت من قطاعات المجتمع القوى الأحداث مثل الطلاب والمعلمين وأصحاب المهن الحرة، ومعظمهم حصل على درجة ما من التعليم الحديث، كما يعملون في المؤسسات الحديثة في مجتمعاتهم، ولم تطالب هذه الجماعات بالرجوع إلى ما قبل الحداثة، بل طالبت في برامجها بإقامة هياكل اجتماعية وسياسية تعمل بأصول إسلامية في أطار البنى الحديثة.

في النصف الأول من القرن العشرين، كانت هذه الجماعات موجودة ولكنها ليست بالقوة المؤثرة، كما أنها انخرطت مع القوى الاجتماعية الأخري في مقاومة الاحتلال الأجنبي، في الحالتين في الهند ومصر، كان الوجود بريطانياً، كما زاحمت هذه الجماعات أخرى مثل الجماعات القومية، والتي كان لها طابع إسلامي، ولكنها مؤطرة على شاكلة الدعوات القومية التي نشأت في الغرب، كما زاحمت هذه الدعوات دعوات أخرى مثل الاشتراكية والماركسية، وما إن ظهرت الدولة المستقلة بعد النصف الثاني من القرن العشرين، حتى أصبح النقاش حول أطر الدولة الحديثة أكثر جذرية وعمقاً وربما سبب هذا افتراقاً بين الآراء المختلفة، ففي مصر هيأت حركة الإخوان المسلمين مع غيرهما من الحركات السياسية لأجواء الانقلاب على النظام القديم، الذي أخذ الشكل الملكي الدستوري، دون أن يعمل بمقوماته، بل ولقد وجدت الجماعة الحاكمة الجديدة في أول الأمر أن السند الأول هو بقاء جماعات الإسلام السياسي حتى في ظل حل الأحزاب، ولما وجدت الأولى أنها لم تعد ترى صدى لبرامجها فيما تنفذه "الثورة" حصل الفراق والخصام ثم القطيعة.

البحث عن توليفة

البحث عن "توليفة" تجمع بين الإسلام والشكل الحديث للدولة هو بحث جرى منذ بداية هذا القرن ومازال مستمراً، ظهر ذلك في كتابات محمد عبده في مصر، وفي كتابات أحمد خان في الهند، وفي كتابات مالك بن نبي في الجزائر، وقد تعددت مدارسه واجتهاداته، وما التطور الذي نشهده على مستوى الممارسة والفكر في الجمهورية الإيرانية إلا مظهر من مظاهر هذا البحث المضني، وليس من المتوقع ولا من المعقول الحصول على شكل واحد من هذه الاجتهادات بل هو عملية تطور دائمة.

نلحظ هذا التطور في مسيرة بعض البلدان الإسلامية، فهي تأخذ بالأطر التقليدية ثم تسير بها في درجات التحديث، حدث ذلك في ليبيا عندما نالت استقلالها في سنة 51- 52، فقد أصبحت مملكة متحدة يرأسها السنوسي وهو ابن حركة صوفية. في السودان، نرى أن مجموعات إسلامية تقليدية كالخاتمية والأنصار، قد نظمت نفسها في أحزاب سياسية جماهيرية وخاضت انتخابات بنجاح في فترات المراحل الديمقراطية التي مرّ بها السودان بعد استقلاله سنة 1956، في مناطق أخرى حدث مثل هذا التكيّف بين الدعوات السياسية الدينية ذات الجذور الاجتماعية وبين هياكل الدولة الحديثة، وهي أشكال ناجحة لتآلف الهوية وتطورّها.

ولقد حصلت هذه الدعوات المطالبة بتزاوج السياسي والتراثي على دفعة قوية بعد أن فشلت الأيديولوجيات السائدة في تقديم الإنجاز المبتغى، وأصبح عدد كبير من المفكرين يجدون في الإسلام بمعناه الواسع مصدراً أساسياً لدفع الآمال الوطنية والشعبية إلى الإنجاز، وشكلت هذه الدعوات عمليات "جذب وتفريخ"، فخرجت من جناحها مع الاحتكاك المباشر في ساحات قتالية مثل أفغانستان جماعات جذرية تطالب، ليس فقط بمحاربة الآخر، بل بمحاربة الوطن والقائمين عليه بدعوى تكفيرهم، وتحوّل بعضها من الدعوة بالحسنى إلى الممارسة بالعنف، وفي الثمانينيات والتسعينيات اختلطت الصورة إلى درجة التشوّش.

ونجد اليوم بعض حركات الإسلام السياسي تطالب بالديمقراطية وتمزج بينها وبين تحقيق مبادئ الإسلام، وتقوم هذه الجماعات بمبادرات فكرية وعملية ليست فقط مستجيبة لمبادرات الآخرين، بل نابعة من تفكير جديد، كما يحدث مع الخاتمية في إيران، هذه الحركات تجذب المتعلمين والنشطاء المطالبين بالتغيير، وهي تطالب وبشكل سلمي بالمشاركة في العملية السياسية في أوطانها، ولكن بعضها مازال يغلب ما هو اجتماعي وتقليدي ومحلي على ماهو عام وابتكاري.

بعضها الآخر مازال يكتنف دعواتها بعض الغموض، وتقف أمام بعض مظاهر التحديث موقف المعارض المتشدد، وهي جماعات تظهر في دول عربية أو إسلامية طرفية.

وسوف تظل كل هذه الاجتهادات مادامت سياسية فهي خلافية بالضرورة، تأخذ من النصوص والتفسير ما يلائمها، ومن تاريخ طويل من الصراع تارة والتآلف تارة أخرى، ولكن المحصلة التي يراها بعض المفكرين أن التزاوج بين الديمقراطية والهوية الإسلامية هو الطريق الأسلم، إن عرفنا تاريخنا كما يجب أن نعرفه، وعرفنا واقع العالم كما يجب أن نعرفه.

المرأة... ديمقراطية البقاء

وأعود بالحديث إلى التجربة الديمقراطية في الكويت التي أظهرت بهذه الخطوة قدرتها ليس على البقاء فقط، ولكن أيضاً التطور، فهي البرلمان الوحيد المنتخب في كل دول الخليج، وحكومتها تقوم على نظام تمثيل كامل، وهي من الدول القليلة في العالم التي لا تواجه أي معارضة في الخارج لأن كل من يريد أن يعارض له مساحة كبيرة في أن يفعل ذلك داخلياً دون حجر.

والخلاف على موضوع حقوق المرأة السياسية هو خلاف يمكن فهمه في ضوء أن الديمقراطية هي مفهوم غربي أساساً، لم يراع في الكثير من تطبيقاته البعد المكاني والزماني في كثير من الأحيان، ولكن موضوع حقوق المرأة في السياسة قد حسم في الكثير من البلاد الإسلامية، مثل إيران واليمن ومصر والمغرب والأردن وباكستان وإندونيسيا ودول إسلامية عديدة.

من جهة أخرى، لا يمكن تهميش حصيلة التطور التاريخي لبلد مثل الكويت، أصبح جيلها الرابع على مقاعد الدراسة، وأضحت المراة فيها تقوم بواجبها في كل المناحي الاجتماعية والاقتصادية، فأصبح، والأمر كذلك، ضرورة من ضرورات الديمقراطية، إدخال المرأة في العملية التشاورية من أوسع أبوابها، ولقد تنبه الآباء واضعو الدستور لإمكان مساهمة المرأة الكويتية في وقت ما في هذه العملية الحضارية، فاستعد لهذه اللحظة، وأدرك أن رياح التحديث سوف تهب على هذا البلد فأبقى أشرعته متأهبة حتى يستطيع الإبحار نحو المستقبل.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سمو أمير البلاد





سمو ولي العهد