بنت الشاطئ وتحقيق التراث

بنت الشاطئ وتحقيق التراث

تحقيق النصوص علم له قوانينه وأعرافه ومدارسه، وقد برزت فيه أسماء لعلماء كبار، مستشرقين وعرب- ومن المعروف أن المستشرقين كانوا أسبق منا نحن العرب، في إذاعة تراثنا ونشره- فمن المستشرقين تبرز أسماء: ديرنبورج، ناشر "كتاب سيبويه"، وهو فرنسي، ووليم رايت الإنجليزي، ناشر "الكامل" للمبرد، وتشارلس لايل الإنجليزي ، ناشر "شرح المفضليات" للأنباري ، وبيفان الإنجليزي ، ناشر "نقائض جرير والفرذدق"، ومن المستشرقين الإنجليز أيضاً كرنكو، وهو أغزرهم إنتاجاً، وأبقاهم أثراً في نشر النصوص التراثية ، ومن المستشرقين الأسبان : كوديرا وريبيرا، ناشراً المكتبة الأندلسية ، ومن المستشرقين الهولنديين: دوزي، وقد نشر نصوصاً أندلسية كثيرة، بجانب عمله العظيم : تكلمة المعجمات العربية ، ودي خويه ، ماشر المكتبة الجغرافية.

ومن المستشرقين الألمان: فلوجل، ناشر "كشف الظنون" للحاج خليفة، ثم هو صاحب كتاب "نجوم الفرقان من أطراف القرآن" ، وهو أصل المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، الذي صنفه محمد فؤاد عبدالباقي.

ومن أشهرهم وأعلاهم ذكراً: وستنفلد، ولإيدانيه أحد من المستشرقين في كثرة ما نشره من نصوص، وقد قضى عمره كله مكبا على العربية، في لغتها وأدبها وتاريخها وجغرافيتها، وقد ألف وحقق في ذلك كله نحو مائتي كتاب بين صغير وكبير، ومن أبرز ما نشره: السيرة النبوية لابن هشام ، والمعارف لابن قتيبة، ومعجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان لياقوت. ومن مشاهير المستشرقين الألمان أيضاً: كارل بروكلمان، وهلموت ديتر.

ومن المستشرقين الروس: كراتشوفسكي، ناشر "الأخبار الطوال" لأبي حنيفة الدينوري، ومن أنفس آثاره ، تاريخ الأدب الجغرافي العربي.

ومن العلماء العرب برزت في هذا المجال أسماء كبيرة ، منها في مصر: أحمد محمد شاكر، ومحمود محمد شاكر، وعبد السلام هارون ، والسيد أحمد صقر، وفي سوريا: محمد كرد علي وعز الدين التنوخي وعزة حسن وشكري فيصل ، والعلامة أحمد راتب النفاخ- على قلة في انتاجه- ومن علماء العراق: محمد بهجة الأثري ومصطفي جواد، ومن علماء المملكة العربية السعودية: حمد الجاسر ، ومن علماء المغرب: محمد أبي شنب في الجزائر ، وفي تونس حسن حسني عبد الوهاب ، وفي المغرب الاقصى عبد الحي الكتاني ومحمد المنوني.

ويبرز من بين علماء الهند: العلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي ، والسيد بدر الدين العلوي ، والسيد محمد يوسف، وحبيب الرحمن الأعظمي، وعبدالصمد شرف الدين.

هل هو علم الرجال؟

فهذا العلم إذن هو علم الرجال، لا نكاد نرى للمرأة فيه كبير أثر، ولم تظهر أسماء النساء في هذا المجال إلا من خلال بعض الأطروحات الجامعية، وهو في ميدان تحقيق النصوص باب ضيق جداً، لأن الأصل في تلك الأطروحات الدراسة ، ثم يأتى نشر النصوص ملحقاً بتلك الدراسة وذيلاً لها.

ونقرأ من أسماء المحققات وناشرات النصوص عدداً محدوداً من الأسماء، ففي مصر: سيدة كاشف، التي شاركت في نشر كتاب "المغرب في حلي المغرب" قسم مصر، لابن سعيد، وفوقية حسين محمود، التي نشرت من آثار إمام الحرمين الجريني: "لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة" و"الكافية في الجدل" وهدى قراعة ، التي نشرت: "ما ينصرف ومالا ينصرف" للزجاج، و"معاني القرآن" للأخفش.

وفي البلدان العربية أيضاً، برزت أسماء محققات نابهات، ففي العراق: ابتسام مرهون الصفار، وفاطمة حمزة الراضي، وناجية عبد الله إبراهيم، وبهجة عبد الغفور الحديثي، وفي سوريا: أسماء الحمصي، سهام الفريح، وفاطمة الراجحي.

ويدور معظم نشاط هؤلاء النسوة في مجال الدراسات الجامعية، ولا أعرف من النساء من مدت يداً في نشر التراث خارج هذه الدائرة إلا الأديبة اللبنانية وداد القاضي ، التي زاحمت كبار المحققين الرجال، ولا عجب في ذلك، فقد تلقت أصول هذا الفن على يد شيخها إحسان عباس، وقد أعانته في نشر موسوعات تراثية كبار، مثل: وفيات الأعيان وفوات الوفيات، وذخيرة ابن بسام، ونفح الطيب، ومن أبرز تحقيقات وداد القاضي: "البصائر والذخائر" لأبي حيان (عشرة أجزاء)، وكان نشر هذا الكتاب عزمة من عزماتها، إذ كان أحمد أمين والسيد أحمد صقر قد نشرا منه جزءاً واحداً عام 1953 م ثم توقفا عن نشره، ومن تحقيقاتها أيضاً : الأجوبة المسكتة، لابن أبي عون، والإشارات الإلهية لأبي حيان ، ورسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان ، كما شاركت في نشر كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي، بتحقيق الجزء السادس عشر.

ومن هؤلاء النسوة اللاتي عملن في تحقيق النصوص خارج دائرة الدراسة الجامعية: العراقية خديجة الحديثي، فقد نشرت "ديوان أبي حيان النحوي" ، ثم شاركت في تحقيق "البرهان في وجوه البيان " لابن وهب، وهو ذلك الكتاب الذي نشر قديما ً خطأ باسم: نقد النثر لقدامة بن جعفر، و "التبيان في علم البيان" لابن الزملكاني، و"البخلاء" للخطيب البغدادي.

ثم السورية سكينة الشهابي ، التي حققت "تلخيص المتشابه في الرسم وحماية ما أشكل فيه عن بوادر التصحيف والوهم" للخطيب البغدادي، وكتاب "وجوه القرآن" لإسماعيل بن أحمد الضرير النيسابوري الحيري، و"المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" للزبير بكار، والجزاء الخاص بتراجم النساء من "تاريخ دمشق" لابن عساكر. وفي عالم الاستشراق برزت أيضاً أسماء نساء عملن في مجال تحقيق النصوص ونشرها، منهن الفرنسية جاكلين سوبليه، التي نشرت الجزء العاشر من "الوافي بالوفيات" للصفدي ، "وتالي كتاب وفيات الأعيان" للصقاعي، وهو في تراجم من توفى بمصر والشام من سنة 660 هـ إلى 725 هـ، والفرنسية جانين سورديل، التي نشرت "الإشارات إلى معرفة الزيارات" للهروى الرحالة، والأسبانية مانويلا ماريني، وقد نشرت "كنز الفوائد في تنويع الموائد" وهو في علم الطبيخ، لمؤلف مجهول، والإيطالية ماريا نللينو، وقد نشرت ديوان النابغة الجعدي رضي الله عنه، وهي ابنة المستشرق الكبير نللينو، صاحب "تاريخ الفلك عند العرب"، وله دراسات في تاريخ اليمن والمعتزلة، وهو من المستشرقين الذين درسوا في الجامعة المصرية، في أول نشأتها.

وكذلك الإيطالية كليليا سارنيللي، وقد نشرت جزءاً من "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي، والألمانية سوسنة ديفيلد- فلزر- ونشرت "طبقات المعتزلة" لأحمد بن يحيى بن المرتضى، والألمانية دورتيا كرافولسكي، وقد شاركت في نشر "مسالك الأبصار" و "الوافي بالوفيات"- الجزء السابع عشر، ثم تأتي من تايوان مستشرقة جادة، تسمى: هدى جنهويتشى، فتنشر ديوان عامر بن الطفيل، نشرة جيدة.

فهولاء أبرز النساء اللاتي عملن في ميدان تحقيق النصوص ونشرها، وتبقى الملاحظة التي ذكرتها من قبل، وهي أن معظم نشاط هؤلاء النسوة إنما كان في مجال الدراسات الجامعية ، فلم نجد عند واحدة منهن أعمالاً خارجة عن هذه الدائرة، كتلك الأعمال التي بها الرجال ، إلا ما كان من أمر وداد وخديجة وسكينة.

وفي رأيي، أن ذلك الإحجام من النساء عن خوض هذه اللجج إنما يرجع إلى جهد المئونة وعناء المكابدة التي يلقاها من يتصدى لتحقيق النصوص ونشرها، لأن العمل في هذا المجال محوج إلى مراجعات كثيرة في بطون الكتب، ومفاتشة المصادر ، ومعرفة التعامل معها واستنطاقها، ثم هو عمل يحتاج إلى صبر شديد وحسن أناة ، ودربة على قراءة المخطوطات، وفك معمياتها، ثم ما يكون من التعليق على النص وإضاءته وربطه بالكتب التي تدور في فلكه، أو تكون منه بسبب، ثم صنع الفهارس الفنية الكاشفة لكنوز الكتاب، وكل ذلك مما لا يقوى عليه ولا يقوم به إلا أولو العزم من الرجال.

مرحلة النشر العلمي

ثم نأتي إلى العالمة الأدبية الراحلة "عائشة عبد الرحمن" الملقبة "بنت الشاطئ" ولها في تاريخ نشر النصوص مكان ومكانة ، وقد دلفت إلى ذلك المجال التراثي من باب الدراسات الجامعية أيضا، ولكنها دخلت ولم تبرح ، فقد أقامت أطروحتها للدكتوراه، بعنوان "الغفران- دراسة نقدية، مع تحقيق رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، و"الرسالة" هذه أشهر آثار أبي العلاء، وأخلدها على الأيام، وكان المشرف على هذه الأطروحة الدكتور طه حسين، وقد نوقشت في الخامس من أبريل عام 1950م، بكلية الآداب- جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، وأجيزت بتقدير "ممتاز" ثم حصلت بهذا التحقيق على جائزة مجمع اللغة العربية في تحقيق النصوص.

وأحب أن أنبه ها هنا إلى أن بنت الشاطئ حين أقدمت على تحقيق هذا النص- وكان ذلك في أواخر الأربعنيات وأوائل الخمسينيات- كان تحقيق النصوص قد استقر علما له مناهج ومدارس، وكان المستشرقون قد مدوا فيه يداً مبسوطة، وفي البلدان العربية العربية والإسلامية، كان نشر النصوص قد انتقل من مراحله الأولى- أعني مرحلة مطبعة بولاق ومطابع استانبول والشام ، ثم المطابع الأهلية المصرية والناشرين المصريين والشوام الذين وفدوا إلى مصر ، واتخذوها دار مقام ، كالحلبي والخانجي ومحمد منير الدمشقي وحسام الدين القدسي ، والخشاب، انتقلوا من هذه المرحلة إلى مرحلة النشر العلمي ، من حيث التوثيق وجمع النسخ المخطوطة، ثم دراسة الكتاب المحقق وبيان مكانته في المكتبة العربية وفهرسته، وكانت ديار مصر في ذلك الوقت بالذات تؤسس هذا العلم وتقيمه على عمد ثابتة، وذلك فيما عُرف بمدرسة أحمد زكي باشا شيخ العروبة، ودار الكتب المصرية ، ثم مرحلة الأفذاذ من رجال (أحمد محمد شاكر ومحمود محمد شاكر وعبد السلام هارون والسيد أحمد صقر) ، وقد فصلت ذلك كله في كتابي: "مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي".

فكانت جرأة عالية، وهمة جسورة من بنت الشاطئ أن تبحث لها عن مكان بين هؤلاء الأفذاذ من الرجال في ذلك الزمان، وقد اقتحمت وما وهنت وما قصرت ، فقد أخذت للأمر أخذه، وأعدت له عدته ، فجمعت أصح النسخ وأوثقها من "رسالة الغفران" المخطوطة، ثم عرضت للنشرات السابقة من الرسالة، وكشفت عن أوجه النقص فيها، ثم قدمت نصا محرراً مضبوطاً، مضاء ببعض التعليقات ، وأزالت عنه عوادي الناس والأيام، ولئن كان بعض شيوخ التحقيق قد عرضوا لعملها فيما بعد بالنقد والتصحيح، فسيظل لهذا العمل مكانته في خدمة تراث أبي العلاء، ثم في تاريخ المكتبة العربية كلها.

وقبل أن أستطرد إلى ذكر باقي الأعمال التراثية لبنت الشاطئ ، أحب أن أقف عند أمرين، لابد من بيان القول فيهما، لما نراه الآن من اضطراب وتخليط في أمر تحقيق النصوص :

الأمر الأول : أن بنت الشاطئ لم تقدم على تحقيق "رسالة الغفران"، إلا أن عاشت مع أبي العلاء، وخبرت حياته ونفسيته، وعرفت لغته ومدارج القول عنده ، وقد أنبأتنا هي أنها عرفت "رسالة الغفران" أيام الطلب حين قرأتها مع أستاذها طه حسين بالجامعة ، في طبعة "أمين هندية" وهي طبعة مؤوفة، غير محررة، ثم أخرجت لنا ثلاثة أعمال حول أبي العلاء: الحياة الإنسانية عند أبي العلاء- مع أبي العلاء في رحلة حياته- أبو العلاء المعري.

وهذا درس جيد لمن يروم تحقيق نص من نصوص التراث: أن يعيش مع مؤلفه، فيخبر حياته وأسلوبه، ويعرف مكانة كتابه في فنه، ثم صلته بكتب العربية الأخرى ، وهكذا صنع الشيخ أحمد محمد شاكر حين أخرج "الرسالة" للشافعي، وشيخنا محمود محمد شاكر حين أخرج "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام، وأستاذنا عبد السلام هارون يوم أن توفر على كتب الجاحظ، والسيد أحمد صقر، يوم أن اظهر كتب ابن قتيبة ، والشيخ بهجة الأثري حين أخرج "فريدة القصر" وعبد العزيز الميمني الراجكوتي في تحقيق "سمط اللآلي". وكذلك كان صنيع المستشرقين ، أما ما نراه اليوم من جرأة بعض خلق الله على نشر كتب التراث دون معرفة سابقة، أو دون إلف ومخالطة للمؤلف، فشيء يأباه العلم، ولايقدم للتراث شيئا ذا بال ، وأستطيع أن أقول دون توقف أو تردد : إن كثيرا من هذا الذي يخرج الآن من تراثنا محققا لا صلة له بالعلم، ولا بعلم تحقيق النصوص، سواء كان هذا الذي يحقق لدراسة جامعية للحصول على شهادة عليا ، أو كان نشراً علمياً يراد به العائد المادي ليس غير.

الأمر الثاني، وهو وثيق الصلة بالأمر الأول، أن بنت الشاطئ خاضت لجة هذا البحر، وهي مؤمنة بقضية كبرى، هي قضية ذلك التراث العربي، وواجبنا نحو إبرازه وكشفه وإضاءته، لتقوم عليه الدراسات الصحيحة، فلا دراسة صحيحة مع غياب النص الصحيح المحرر.

الإرث العظيم

ويتصل بتلك القضية الإيمان بقيمة ذلك الإرث العظيم الذي انتهي إلينا، وما فتئت بنت الشاطئ تصرح بذلك فيما دق وجل من كتاباتها، وأعرف بعض من يشتغلون بنشر النصوص لا يؤمنون بذلك التراث، بل يسخرون منه ويستهزئون به إذا خلوا إلى شياطينهم ، ولكنها الضرورة الملجئة، وسبحان ربك رب العزة الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

ولقد عادت بنت الشاطئ مرة أخرى إلى صاحبها أبي العلاء، فنشرت له أثراً غالياً من تراثه، هو كتاب "الصاهل والشاحج" ويتكلم فيه أبوالعلاء، على لسان فرس وبغل، وقد نشرته عن نسختين أصليتين موثقتين، احتفظت بهما الخزانة الملكية بالرباط ، وللمغاربة فضل عظيم في الحفاظ على مخطوطات نفيسة ذوات عدد، من تراثنا الموزع في مكتبات العالم، وقد قدمت بنت الشاطئ لتحقيق هذا النص بدراسة ماتعة ، شملت مدخلا تاريخياً، وآخر موضوعياً، ثم قارنت بين كليلة ودمنة والصاهل والشاحج.

ومن القضايا التي شغلت بنت الشاطى زمنا طويلا، ومازالت تعتادها وتكرر القول فيها ، وتستأنف حولها كلاماً لأدنى ملابسة : قضية توثيق المرويات النقلية التي وصلت إلينا في أول الأمر شفاها إلى عصر التدوين، وهذه المرويات قد تعرضت لهزات عنيفة ، وبخاصة ما يتصل بقضية الشعر الجاهلي ، والقول بانتحاله ووضعه بعد ظهور الإسلام ، وهي القضية التي أزعجت الجلة من شيوخنا، وعلى رأسهم شيخنا محمود محمد شاكر، وقد رأى هؤلاء الشيوخ أن التسليم بالشك في الشعر الجاهلي يفضي- لا حالة- إلى الشك في مرويات أخرى جائتنا مشافهة ، كنصوص السنة النبوية والسيرة الشريفة ، وكتب تاريخ الصحابة ، وعلوم الاسلام كلها، وقد وجدت بنت الشاطئ ضالتها ومفزعها عند علماء الحديث ، فيما أصلوه من قواعد منهج توثيق المرويات ، وفحص الأسانيد، ونقد المصادر ، فيما عرف بعلم الجرح والتعديل ، ثم وقفت عند كتاب واحد من كتب علوم الحديث، ورأت أنه جدير بالنظر والخدمة والتحقيق، ذلك هو "مقدمة ابن الصلاح" وهو تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن المتوفي سنة (643 هـ)، وقد رأت في هذا الكتاب مجلى ذلك العلم ، فنهدت لنشره نشرة علمية، فجمعت منه أصولا خطية موثقة جيدة، ثم صدرته بمقدمة محكمة، أبانت فيها عن مناهج المحدثين، ثم نقدت النشرات السابقة للكتاب ، وقد رأت من تمام الفائدة أن تلحق بالكتاب نصاً يتصل به، هو "محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح" لسراج الدين عمر بن رسلان البلقيني المتوفى سنة (805 هـ)، ومن أعمال بنت الشاطىء التراثية أيضاً تحقيق الجزء الثالث من "المحكم في اللغة "لابن سيده.

فهذه نصوص أربعة من أصول علومنا، نهضت بها بنت الشاطئ ، تحقيقا وضبطا، مع تأليفها لكتاب نافع، هو : "تراثنا بين ماض وحاضر"، ولولا اشتغالها بالتدريس والتأليف لكان لها في ميدان تحقيق النصوص أثر كبير .

ولا يبقى من حديث الدكتورة بنت الشاطى إلا أمر شغلني زمانا، ومازلت في عجب منه إلى يوم الناس هذا: إن بنت الشاطئ لا تفتأ تذكر فضل شيخها وزوجها الأستاذ أمين الخولي ، فهو الذي علمها كيف تقرأ، وهو الذي هداها إلى المنهج ، إلى أشياء كثيرة تسميها كلما جاء ذكر الشيخ ، لكني أجد مباينة شديدة بين التلميذة وشيخها فيما يتصل بالبيان وطرائق القول- أو فن القول، كما كان الشيخ يقول- فأسلوب بنت الشاطئ أسلوب عذب ندي، يترقرق فصاحة وصفاء وإشراقاً، وهو أسلوب ترى فيه أثر القرآن الذي تلقته صبية من فم أبيها الشيخ الصوفي ، ثم هو من بعد ذلك أسلوب عال موصول النسب بأساليب أصحاب البيان ، كالجاحظ وأبي حيان ومصطفى صادق الرافعي ومحمود محمد شاكر، أما أسلوب الشيخ ، فهو أسلوب حاد صارم ، كأنما يستمد صرامته من صرامة المنهج الذي أخذ به نفسه ، وهو ذلك المنهج الذي مازال تلاميذه يحمدونه له، ويجهرون به ويردونه إليه، ولو شئت لقلت: ويبجحون به (أي يفتخرون)، وهؤلاء الكتاب الذين يسرفون في قيود ما يسمونه المنهج وضوابطه، يصعب عليهم- عن عمد أو غير عمد- أن يرطبوا ألسنتهم، أو يزينو أقلامهم بشيء من نداوة الكلام وسماحته ويسره، كأنهم يريدون أن يظلوا بمنجاة من الذاتية أو التأثرية (أو كلام الإنشا) فتأتي عباراتهم وفيها قدر غير يسير من الجفاف والعشر، لأنهم يغرقون في العقلانية، وقد نجا من هذه المهواة كثير من الأدباء قديما وحديثا، منهم أديب العربية الكبير أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، فكتبه تعلم العقل- كما يقول أبو الحسن المسعودي- ثم هو أمير البيان العربي غير مزاحم ولا مدفوع.

وقد اعترف تلاميذ الشيخ أمين الخولي بذلك، فيقول الدكتور حسين نصار:

"ووصلت الدقة بعبارة الخولي أن كان يتعب قارئه أشد التعب، ليصل به إلى المفهوم الدقيق الذي يريده"، ويقول أيضاً: "وعلى الرغم من ذلك يجب الاعتراف بأن من لم يتصل به في أعماله ويتابع أفكاره ويألف لغته ، كان يجد مشقة في فهمه"، انظر كتاب الدكتور حسين نصار: أمين الخولي ص 40 و 92- المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1996، ولله في خلقة شئون!

رحم الله بنت الشاطئ رحمة واسعة سابغة ، وجعل كل ما قدمته لتراثها ولدينها في موازينها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا.

 

محمود الطناحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بنت الشاطئ





الدكتورة بنت الشاطئ