روايات نجيب محفوظ التاريخية

روايات نجيب محفوظ التاريخية

الرواية التاريخية بشكل عام، هي الرواية التي تترك الحدود الزمنية لعصرها إلى عصر أو عصور سابقة عليه، ويرجع الفضل في وجود هذا النوع إلى المدرسة الرومانسية في الأدب الإنجليزي، ففي ظل هذه المدرسة، نشأت الرواية التاريخية بوصفها جنساً مستقلاً له قواعده الفنية الخاصة به، ويعد الكاتب الإنجليزي سيروالترسكوت Sir Walter Scoot 1771- 1832 م)، رائد هذا اللون من الكتابة لأنه هو الذي أسهم الإسهام البارز في وضع الأسس الفنية لهذا الجنس بروايات من مثل إيفانهو Evanhoe التي كتبت سنة 1820 والطلسم Talisman التي كتبت سنة 1852، وكلتاهما تتعرض لتاريخ العصور الوسطى والحروب الصليبية.

وقد انتقلت الرواية التاريخية إلى فرنسا حيث وجدت في ألكسندر دوماس الأب أشهر من يمثلها هناك، ثم امتدت إلى أمريكا وروسيا حيث وجد من تأثر بسكوت، وحاول أن يتخذ من أحداث التاريخ أساساً لقصصه، ولكن مع مرور الوقت وانتشار المذهب الواقعي في الأدب، تغيرت النظرة إلى القصة التاريخية، وبدأت مكانة سكوت القاص تقل كثيراً عما كانت عليه، ومن ثم تقل مكانة هذا النوع من القصص، ويكفي لبيان ذلك أن ننقل رأي ناقد من نقاد الرواية المحدثين، وهو إدوين موير، حيث يقول عن روايات سكوت: "إن أبطاله وبطلاته فيها جامدون غير حقيقيين، والحدث عنده يكاد يكون دائماً ذا أصل مصطنع، لا ينبع من عواطف البطل الذي هو، بوجه عام في كتابات سكوت، لا عواطف له، كما أن الحدث ليس نتيجة حتمية لميوله، ومخاطر البطل رومانتيكية بعيدة تماماً عن واقع الحياة العادية". وأهم ما كان يقصد إليه الرومانسيون من كتابة القصة التاريخية هو إحياء ماضيهم التاريخي، ولذلك كانت القصة التاريخية عندهم مجالاً للتغني بالوطنية إلى جانب عرض القضايا الاجتماعية، فكانوا يختارون أبطالهم من الماضى البعيد أو من العصور الوسطى ويجتهدون في إحياء تلك العصور بكل تقاليدها وعاداتها ومقوماتها المختلفة ، مستعينين على ذلك بمعرفتهم الواسعة بالتاريخ إلى جانب خيالهم الخصب الذي يتمم لهم أجزاء الصورة التاريخية، فتنبعث العصور القديمة من جديد بكل ما فيها من قوة وحماسة وفروسية وحب، لكن من منظور الكاتب الذي يصنع التاريخ على عينه، ولم يكن هذا الكاتب يلتزم بأحداث التاريخ التزاماً حرفياً، بل كان يغير أو يعدل فيها، كي تتلاءم مع قصته وأهدافه التي تحركها، وقد هوجم والتر سكوت لذلك، واتهم بأنه يعبث بأحداث التاريخ، لكن الشاعر الفرنسي ألفريد دي فيني دفع مثل هذا الاتهام، وقرر حرية الفنان في التعامل مع أحداث التاريخ ، مؤكدا أن الحقائق التاريخية وحدها لا ترضي العقل، وأن الفن يتدخل في هذه الحقائق فيغيرها ويؤولها ويعيرها جمالاً مثالياً، فتصير حقائق فنية بعد أن كانت حقائق تاريخية.

وقد تأثر أدباؤنا العرب في بدايات النهضة الأدبية بما قرأوه أو ترجم لهم من الروايات التاريخية ، وأخذ بعضهم يحاكيها، ولعل أرزهم في ذلك جورجي زيدان الذي أخذ عن المدرسة الرومانسية اتجاهها إلى التاريخ واختلف معها فى الغاية، إذ الغاية عنده تعليم الشباب التاريخ ، ولذلك كان عرض الحوادث التاريخية وصحتها في المحل الأول من اهتمامه، أما باقي حوادث الرواية نفسها فلم يكن يأتى بها إلا تشويقا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وتدمج فيها قصة غرامية تشوق المطالع إلى استتمام قرائتها فيما يقول زيدان، وذلك لكي يصبح الاعتماد على ما يجيء في هذه الورايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ.

التيار الفرعوني

كتب نجيب محفوظ رواياته التاريخية الأولي في ظل التيار الفرعوني الذي انتشر في مصر بعد ثورة 1919، والذي ساعد على إذكائه كثرة الاكتشافات الأثرية اللاحقة التي وضعت مجد الفراعنة أمام الأنظار، الأمر الذي خلق في مشاعر المثقفين رغبة قوية في استطلاع حياة الأجداد وأمجادهم، ولم يكن من قبيل المصادفة أن أول كتاب نشره نجيب محفوظ (سنة 1932)، هو كتاب مترجم بعنوان "مصر القديمة"للكاتب جيمس بيكي الذي حاول صياغة التاريخ الفرعوني صياغة قصصية تأثر بها نجيب محفوظ، يضاف إلى ذلك، تأثره الواضح بالروايات التاريخية المترجمة التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وهي روايات وجدت صدى واسعاً، وكانت سبباً من الأسباب التي قرنت الدعوة إلى كتابة "أدب قومي" بالكتابة عن التاريخ القومي القديم، ومن ثم دفعت جيل نجيب محفوظ إلى مواصلة المسعى الذي بدأه الجيل السابق، والمضي قدماً في كتابة روايات تبعث التاريخ الوطني وتدفع به إلى مناطق الحضور من الذاكرة الثقافية للأمة.

وكان ذلك يعني تحويل هذه الروايات إلي مرايا للحاضر الذي يستلهم ماضيه، وأقنعة للكتاب الذين يتوسلون بالماضي ليكشفوا عن مثالب الحاضر، كي يدفعوا بقوي التغيير الإيجابي فيه إلى الأمام، ولذلك أصبح الماضي الفرعوني عند نجيب محفوظ أحداثاً يعاد إنتاجها إبداعياً لصياغة رسائل مرتبطة بالحاضر ومتولدة، وفي الوقت نفسه، كان تعدد صور الحاضر في سلبه وإيجابه دافعاً لتعدد صياغات الرواية التاريخية التي يحدثنا نجيب محفوظ نفسه عن مشروعها الذي وضعه صوب ناظريه ولم يحققه كاملا بقوله: هيأت نفسي لكتابة تاريخ مصر القديم كله في شكل روائي على نحو ما فعل والترسكوت في تاريخ بلاده، وأعددت بالفعل أربعين موضوعاً لروايات تاريخية رجوت أن يمتد بي العمر حتى أتمها، وكتبت ثلاثا منها بالفعل هي "عبث الأقدار"و "رادوبيس"و " كفاح طيبة" ( عشرة أدباء يتحدثون).

ويعنى ذلك أن رؤية نجيب محفوظ لمصر القديمة، خلال أعماله الروائية الأولي، كانت معبرة عن التيار الوطني الذي كان يهدف إلى بعث الماضي، والبحث فيه عن العلامات التي ترسم طريق المستقبل، وطبيعي أن تتضح رؤية الكاتب في اختياره لأحداث معينة دون غيرها، وترتيبها بطريقة دون غيرها، وتلوينها خاصاً يساعد علي إيصال ما يريده الكاتب من رسائل مضمنة إلى القاريء وقت صدور الرواية، وإذا نظرنا إلى الأحداث التي اختارها نجيب محفوظ من تاريخ مصر الفرعونية، داخل إطار هذا المنظور، لاحظنا للوهلة الأولى أنه لا يختار اللحظات التاريخية العادية، بل يختار اللحظات التاريخية المشعة التي تنبض بالبطولة والقوة، والتي تفجر لمجرد استرجاعها قيما ثبت الحماسة في نفوس قارئيها، وكان نجيب محفوظ في اختياره لهذه اللحظات لا ينجذب إلا إلى ما يتجانس ورؤيته الليبرالية الإصلاحية للعالم، حصوصاً من المنظور السياسي لحزب الوفد الذي انتسب إليه، وظل مخلصاً لمبادئه الأساسية على امتداد مرحل ممارساته الإبداعية، والرؤية الليبرالية تدفع صاحبها الروائي إلى الإعلاء من شأن الفرد، ومن ثم التركيز علي الأبطال الذين يصنعون التاريخ بقدراتهم الاستثنائية، سلباً أو إيجاباً، وذلك ما فعله نجيب محفوظ في رواياته التاريخية التي تدور حول أبطال إيجابيين يتحولون إلى مثل أعلى يتطلع إليه الكاتب، أو أبطال سلبيين يجعل منهم الكاتب مثالاً دالاً على نهاية أشباههم في الزمن الحاضر للكتابة.

ومن هذا المنظور، تكشف روايات نجيب محفوظ التاريخية عن تحيزاته السياسية بأكثر من معنى، كما تكشف عن القدوة التي يرى الكاتب ضرورة الاحتذاء بها في أمور السياسة على وجه التحديد، وفي المقابل، إبراز نهاية النموذج السلبي للحاكم الفاسد في الدائرة نفسها.

وآية ذلك أن أحداث "عبث الأقدار" تقع في فترة من أنصع فترات التاريخ الفرعوني القديم، وهي فترة بناء الهرم الأكبر في عهد خوفو، هذا الهرم الذي ظل خالداً يذكر بعظمة الحضارة القديمة ، ودالاً على شخصية حاكم جليل عادل من ناحية أخرى، و"كفاح طيبة" تتحدث عن فترة لا تقل خطورة عن فترة بناء الهرم الأكبر، بل تزيد عنها كثيراً، إذ تصور كفاح شعب مصر في سبيل استرداد حريته وطرد الغزاة المستعمرين من أرض النيل، ومن ثم تبرز أبطال التحرر الوطني المأمولين بواسطة أقنعة التاريخ الفرعوني القديم. أما "رادوبيس"، فإنها تتحدث عن فترة قلقة من فترات تاريخ الفراعنة، مقدمة صورة الشعب عندما يستشار ويستباح حماه فيهب ثائراً لينتقم من ظالميه، وصورة الملك اللاهي التي كانت معادلاً فرعونياً للصورة التي انتهى إليها الملك فاروق- ملك مصر والسودان- وقت صدور الرواية.

عبث الأقدار

وتدور رواية "عبث الأقدار" (صدرت سنة 1939) حول نبوءة ساحر عجوز، تنبأ لخوفو بأنه لن يجلس على عرش مصر أحد من ذريته بمن في ذلك ولي عهده، وأن من سيتولى عرش مصر من بعده طفل حديث عهد بالوجود هو ابن الكاهن الأكبر لمعبد أون، ويبدأ تصاعد الأحداث من تحدي خوفو لهذه النبوءة ومحاولته قتل ذلك الطفل ، لكن الأقدار تنتصر عليه، فلا يموت الطفل، بل يحيا إلى أن يصل إلى أعلى المراتب، ويوليه خوفو بنفسه عرش مصر بعد أن قتل ولي عهده وتزوج ابنته، هذا من حيث ظاهر الرواية، أما باطنها فيقدم لنا صورة الحاكم الإيجابية التي ينبغي أن يكون عليها من يحكم مصر، إذ يجب عليه أن يكون محباً لشعبه باراً به، قادراً على السمو على عواطفه الخاصة والتضحية برغباته الشخصية في سبيل مصلحة شعبه وأمته، فخوفو منذ البداية يتألم عندما يرى آلافاً من أبناء شعبه يتحملون العذاب في سبيل أن يبنوا له هرمه الخالد، ويحدث نفسه قائلاً: "هل ينبغي أن تشقى ملايين النفوس الشريفة من أجل مجده؟ هل ينبغي أن يولي ذلك الشعب النبيل وجهه قبلة واحدة هي سعادته ، ويسأل حاشيته:" من الذي ينبغي أن يبذل لصاحبه: الشعب لفرعون أم فرعون للشعب؟"، ولا يتحرج أن يقول للملأ من حاشيته:" ساءلت نفسي صباح يوم: ماذا صنعت من أجل مصر، وماذا صنعت مصر من أجلي؟ ولا أكتمكم الحق أيها الأصدقاء، فقد وجدت أن ما صنعه الشعب لي أضعاف ما صنعته له، فأحسست بشيء من الألم- وكثيراً ما أتألم هذه الأيام- وذكرت المولى المعبود مينا الذي وهب الوطن وحدته المقدسة، فلم يهبه الوطن بعض ما وهبني، فاستصغرت نفسي وأقسمت لأجزين شعبي إحساناً بإحسان وجميلاً بجميل"، وعلى الرغم من أن الأقدار التي تحداها خوفو تهزمه وتجعل من ولي عهده خائناً يسعى لاغتياله، كى يعتلي عرش مصر، فإنه يتسامى فوق أحزانه من حيث هو أب ، ويولي الشاب الذي قتل ابنه عرش مصر قائلا:" إني في هذه الساعة الرهيبة أجد من نفسي قوة عظيمة على السمو على العواطف البشرية، وأحس بأبوتي للعباد تغلب في أبوتي للأبناء"، وتكون آخر كلماته قبل أن يموت :" إن فرعون تربة صالحة كأرض مملكته يزدهر فيها العلم النافع"، وقارن بين هذه الصورة النبيلة لما ينبغي أن يكون عليه الحاكم بما كان موجوداً في مصر سنة 1939 عندما نشرت الرواية، وستدرك كيف كان التاريخ القديم عند نجيب محفوظ يخدم هدفاً وطنياً بعينه، هو بعث الجانب الموجب من حضارة مصر ليقارن القارىء بين جلاله، والانحدار الذي دفعت إليه مصر من ضعف وظلم، ومن ثم المقارنة بين صورة خوفو النبيلة وصورة من كان يحكم مصر في ذلك الوقت.

وإذا كانت "عبث الأقدار" تقدم لنا الحاكم المثالي، فإن رواية "رادوبيس" (صدرت سنة 1934)، تقدم لنا نموذج الحاكم العابث الذي يلقى جزاء عبثه واستبداده بسهام شعبه، والجانب الرمزي في الصورة أوضح من أن يعلق عليه، إذ تبدأ الرواية بفرعون الشاب الجامح ذي الأهواء العنيقة، المتهتك الذي يهوى الإسراف والبذخ، وهو يكشف عن نفسه:" أريد أن أشيد قصوراً ومقابر، وأن أتمتع بحياة سعيدة عالية، ولا يقف في سبيل رغباتي إلا أن نصف أراضي المملكة في أيدي الكهنة"، ولذلك يعلن رغبته في الاستيلاء على أراضي المعابد التي تعود خيراتها على الشعب والفقراء وتنفق في وجوه التعليم والتربية الخلقية، ولا يقبل- بما طبع عليه من استبداد وعنف- أن يعارض أحد رغبته حتى لو كانت أخته الملكة، فهو يملي أوامره على من حوله كما لو كان رباً من الأرباب لا ينتظر إلا التنفيذ والطاعة، فمصر في نظره تعبدفرعون ولا ترضي عنه بديلاً، ويقول غاضباً عندما يعارضه الكهنة في رغبته:" كيف تنظر عيناي إلى أراضي مملكتي فيتصدى لي عبدويقول لي لن يكون هذا لك".

ومن الطبيعي أن يندفع هذا الحاكم الذي ملأ حريمه بعدد لا يحصى من الجواري والمحظيات في حب جامح عنيف عندما يلتقي برادوبيس غانية بيجة الشهيرة، ويهجر زوجه وحريمه، بل شئون دولته ووزراءه، مندفعاً في حب غانيته بجنون، فيسوق إلى قصرها خيرات مصر جميعاً حتى يتهامس الناس" بأن قصر رادوبيس يتحول إلى مثوى من الذهب والفضة والمرجان، وأن أركانه تشهد هوى جامحاً يتقاضى مصر أموالاً لا تعد ولا تحصى" ، ويحاول رئيس الوزراء المخلص "خنون حتب" أن ينفذ مصر من شرور فرعون، ولكن فرعون الذي لم يكن يحتمل بأي حال أن يري إنساناً غير ما يري يطرده من منصبه ، وتزداد الأوضاع سواء، فالحاكم يسلب أموال الشعب وخيراته ويبعثرها تحت قدمي راقصة، والكهنة غاضبون وهم يتسلطون على عقول الشعب وقلبه، وهم قد يئسوا من عطف فرعون، وقنطوا من إصلاح الأمور التي لم يروها قط تسير في طريقها الذي تسير فيه في أي عهد من العهود المجيدة التي طواها الماضي الخالد، والشعب يهمس فيما بينه بأن فرعون يأخذ أموال الآلهة وينفقها على راقصة، وتتسع الهوة بين الملك وشعبه ، ويندلع لهيب الغضب في نفوس الشعب على الحاكم العابث الذي لا يأبه إلا بملذاته، ويتشاور حكام حكام الأقاليم فيما بينهم ، ويقر رأيهم على مقابلة فرعون ومصارحته بما يرونه صالحاً له وللشعب ، فيقول له حاكم طيبة : "يا مولاي إن الكهنة غاضبون ، وقد انتقلت عدوى غضبهم إلى نفوس الشعب المنصت إلى حديثهم في الصباح والمساء، وكان من جراء ذلك أن اتفقت كلمة الجميع على وجوب رد الأراضي إلى أصحابها، فبذا الغضب على وجه الملك، وقال بحنق: هل يصح أن يذعن فرعون لإرادة الناس؟ فقال الرجل بصراحة وجسارة : مولاى ، إن سعادة الشعب أمانة عهدت بها الآلهة إلى ذات فرعون ، فلا إذعان، لكن تعطف من مولي قادر علىعباده فضرب الملك الأرض بصولجانه، وقال: لا أري في التراجع سوى الخنوع.

ويغذى عناد الملك نار الثورة في كل مكان، فتندلع وتقترب النهاية: شعب ثائر يريد أن ينال حقوقه، وملك مستبد عزلته نزواته عن شعبه فلا يملك إلا أن يقول لنفسه: "إني أعيش وسط شعبي كالأسير، ألا لعنة الآلهة جميعاً على الدنيا وعلى الناس"، وتنفجر ثورة الشعب عارمة يوم الاحتفال بعيد النيل، وتهتف الحناجر :" ملكنا يلهو ، نريد ملكاً جاداً "، ويقتحم الشعب قصر فرعون صائحا :" ليسقط الملك العابث"، ويسقط الملك العابث بسهم غاضب من سهام الشعب، وينتهي حكم الاستبداد بثورة الشعب الذي لابد أن يثور على ظالميه.

كفاح طيبة

أما "كفاح طيبة" ( صدرت سنة 1944) ، الرواية الأخيرة فى هذه المرحلة ، فمن الصفحة الأولى فيها تقابلنا الروح المصيرية القوية التي تمجد الشعب المصري واستبساله وعدم قبوله للذل والخنوع، وحتى لو بدا هذا الشعب خاملاً مستسلماً لمستعبديه، فأنه يظل يحمل في أعماقه بذرة الثورة التي سرعان ما تتفجر عندما تجد زعيماً أو قائداً يحركها، وأتصور أن هذا العنصر الدلالي في الرواية يصل بين "كفاح طيبة" رواية توفيق الحكيم "عودة الروح" التي صدرت سنة 1931، خصوصا في الدائرة الدلالية التي ترد وحدة الأمة إلى القائد الذي يجمع شملها ، ويقودها إلى النصر على أعدائها والصلة بين الروايتين نابعة من التأثر بثورة 1919 التي أشار إليها الحكيم مباشرة في روايته، والتي استلهمها نجيب محفوظ بأكثر من معنى في بحثة الروائي عن نماذج الانتصار القومي على الاستعمار في التاريخ المصري القديم ، ولذلك فإن كل جزء من الأجزاء الثلاثة الصغيرة للرواية يصور مرحلة من مراحل كفاح طيبة طالباً للاستقلال : الجزء الأول يصور هزيمة سيكنزع أمام الهكسوس لعدم تسلحه الكافي، والجزء الثاني يصور كفاح أسرته التي هربت إلى النوبة لتعد العدة للثأر وتحرير أرض مصر، أما الثالث ، فهو يصور النضال المسلح لشعب مصر ضد المستعمر، وينتهي بجلاء الهكسوس عن أرض النيل العزيزة، وهو القسم الذي يبرز شخصية "المخلص" أحمس الذي تجسدت بحضوره وحدة الأمة، واستطاع بحفاظه على هذه الوحدة أن يحقق الحرية والاستقلال. والجزء الثاني من الرواية بوجه خاص، يلفت الانتباه بتورياته السياسية حيث يقدم نجيب محفوظ صورة مصر الفرعونية من وجهة نظره الوطنية، حتى ليشعر القارئ أمام كل سطر من سطورها بأنها صورة مصر المعاصرة في هذه الفترة بما فيها من حكام أجانب يحتقرون أبناءها وينهبون خيراتها، فمصر الفرعونية كمصر الحديثة في فترة كتابة الرواية، بلد حكامها الأجانب يعاونون المستعمر الجاثم على استعباد أبنائها، ومن الطبيعي في مثل هذه الحال أن تنقلب موازين القيم فتصبح السرقة حلالاً للأغنياء وحدهم، خذ مثلاً هذا الجزء من "كفاح طيبة" الذي يسأل أحمس فيه أحد اللصوص : "ألا تخشى الخفراء؟ فيجيبه اللص قائلاً : أخشاهم أكبر خشية ياسيدي ، لأنه غير مسموح بالسرق في هذا البلد لغير الأغنياء والحكّام ، فأمن طونا على قول اللص قائلاً: القاعدة في مصر أن يسرق الأغنياء الفقراء، ولكن لا يجوز أن يسرق الفقراء الأغنياء" ، وما دام الأمر على هذه الحال، فلا غرابة أن نعرف أن القانون في هذا البلد يقف إلى جانب الأغنياء والحكام وحدهم، أما الفقراء فإلى الجحيم بفقرهم وذلهم، فالقاضي يحكم للضابط الأجنبي على حساب امراة فقيرة شريفة، رفضت أن تسلّم نفسها لهذا الضابط فتُتهم بالسرقة والاعتداء عليه، ويشعر القارئ أن هذا الضابط الهكسوسي، بل كل الهكسوس في " كفاح طيبة " يرمزون إلى الاحتلال الأجنبي في مصر ومن يعاونونه من ذوي الأصول التركية، وكانوا في حكم المستعمرين في الوعي الوطني الثائر للأمة وذلك منذ أن استعان الخديو توفيق بالاحتلال البريطاني على قومه. واقرأ هذه الفقرة التي تصف حال مصر الفرعونية في أيام الهكسوس وستجدها تنطبق على مصر الحديثة تحت حكم الأتراك والإنجليز: " المصريون عبيد يلقى إليهم بالفتات ويُضربون بالسياط، أما الملك والقواد والقضاة والموظفون والملاك جميعاً فمن الرعاة، السلطان اليوم للبيض ذوي اللحى القذرة، والمصريون عبيد في الأراضي التي كانوا بالأمس أصحابها"، وعندما يبدأ كاموس وولي عهده أحمس في تحرير المصريين من الظلم، يقف هؤلاء ذاهلين ، ويسأل بعضهم بعضا : " هل انتهت عبوديتنا حقاً؟ وهل نرد اليوم أحراراً ، هل مضى زمن السوط والعصا وتعييرنا بأننا فلاحون؟".

ونستطيع أن ندرك من هذ الفقرات- وغيرها كثير- أن الاحداث التاريخية في روايات نجيب محفوظ لا تقصد لذاتها، وإنما لما تثيره من حماسة وطنية، حماسة تدفع القارئ إلى محاولة الثورة على الأوضاع الفاسدة ، ثم إن هذه الأحداث أيضاً كانت تقدم بصورة تنقل لنا الكثير من أراء الكاتب التي أراد أن يشجب بها الحياة الراكدة لمصر بمختلف جوانبها في هذه الفترة، ويحدد من خلال استبطانه التاريخ القديم الطريق السليم للمستقبل، فإذا كان الماضي مزدهراً مليئاً بالعظمة والمجد فلماذا ، إذن لا نغيّر من صورة الحاضر الآسنة، ونعيد صورة الماضي العظيم، ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل ، : " لا ينفع البكاء ، فإن الماضي المجيد يوغل في القدم والفناء ما دمتم تقنعون بالتحسّر عليه، وما يلبث مجده أن يصبح قريباً إذا توثبتم للعمل له"، وإذا كان العمل هو الطريق الوحيد لأصحاب الأرض وحدهم، ولذلك نسمع في "كفاح طيبة" الشعار نفسه الذي رفعه أحمد لطفي السيد وأقرانه في هذه الفترة، خصوصاً حين يقول أحمس لأحد قواده : " أعلم أن آليت على نفسي منذ اليوم الذي سعيت فيه إلى أرض مصر في ثياب التجّار أن أجعل مصر للمصريين، فليكن هذا شعارك في حكم هذا البلد، وليكن رائدك أن تطهره من البيض، فلن يحكم بعد اليوم إلا مصري ولن يملك إلا مصري ".

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات