قصة قصيرة: ماذا قال القميري؟

قراءة نقدية في رواية "الخباء".. وملامسة عالم الصحراء

في لغة شاعرية تقدم هذه الرواية شهادة عن مجتمع بكر يعيش على حافة الصحراء.

تقدم رواية "الخباء" للكاتبة الموهوبة، والشابة "ميرال الطحاوي"، تصور العالم بكر ومميز من خلال عيني طفلة ذات السنوات الخمس، فكأن القارئ يكتشف بعيني تلك القطة الصغيرة، أو الجروة- كما كانت تطلق عليها شقيقتها صافية "نامي مثل الكلاب في أي مطرح، العبي مع ساسا ونامي سردوب يا جروة".

فالقارئ يطالع كل تفاصيل الرواية عبر تلك العين المندهشة لدى الطفلة، مما مد الرواية بقدر من الزخم الإنساني شاع في كل أنحائها، فأكد على طزاجة الاكتشاف، ولقد استطاعت "ميرال الطحاوي" أن تجعل القارئ يجري وراء تلك الصغيرة متنقلاً في كل الأمكنة الخلاء، وتحت الشجر، وبين غرف الدوار القائم في البادية، فهو من البيوت التي يبنيها السكان خارج الحضر، مما أعطى للمكان الكثير من قسماته الخاصة، التي أشعت الجمال في الرواية، فالأسرة أو الجماعة ليست منتمية للمدن، هي من أهل البادية، وذلك ما أكدته تلك المكونات التي احتشدت داخل الرواية منذ الصفحات الأولى مثل التلال، العشب، الجبل، النخلات، الصحراء، الرمال، الخيمة، الخباء، مبرك الجمال، المضيفة، العباءة، الغزلان، الخيل، المهرة، المرعى.........إلخ، وحتى المقاطع الغنائية البدوية التي ميزت بها الكاتبة أجزاء روايتها، والتي أوصلت كل معاني البكارة والصفاء النابع من صفاء البيئة والمكان، كما تقول:

"وحطيتك على بابهم غفير

وين يا حجر بيت غاليين"

خصوصية الرواية

ولعل القارئ يفاجأ بتلك الخصوصية الواضحة، التي لا بد أن يعايشها ويتماشى معها في الرواية، والتي تنبع من المظاهر الثلاثة التالية:

- بكارة المكان: حيث تلك البيئة جديدة على الرواية المصرية التي نبتت أصلاً كفن برجوازي، يعبر عن صعود الطبقة الوسطى في المدن والريف، مثلها مثل الرواية الأوربية، فهي في المدينة.

- اللغة المستخدمة: وهي اللغة التي جاءت تتسم بالشاعرية النابعة من أن الكاتبة عملت على تجسيد صور مختلفة من حياة بطلتها، تلك الطفلة، التي كانت مصابة بنوع من شلل الأطفال، فهي لا تركض مثل أقرانها أو تسير مثلهم، رغم جمالها الواضح، كما كان يراه الجميع ويعبرون عنه، ولذا بدا الكثير من الشاعرية على العبارات واللغة التي استخدمتها الكاتبة.

- مفاجأة الاكتشاف: وهي الوسيلة التي نجحت بها الكاتبة في جذب القارئ إلى عملها طوال الصفحات، فيرى بعين الطفلة التي تكشفت كل شيء، وتعبر عن ردود أفعالها تجاهه بسبل عديدة، فكان القارئ في كل المواقف مع تلك الطفلة الجميلة، يعيش كل حالاتها متفاعلا معها، ومع مشاعرها التي لم يعق انطلاقها ذلك العجز الملحوظ، والذي لم يكن له أدنى أثر في نفسية الطفلة.

والمؤكد أن "الخباء" أوصلت لنا عالماً به من الطرافة بقدر ما به من البكارة والبراءة، عماده مجموعة أفراد يشكلون تلك الأسرة الكبيرة، التي تتفرع من قبيلة من تلك القبائل التي تسكن الصحراء، ويربطها بالقبائل الأخرى كل مفردات عالم الصحراء، وما يصاحبه من أساليب مختلفة في المأكل والمشرب والترحال، وعلاقات الزواج والطلاق، والانتقال في أرجاء الصحراء الرحبة، التي كانت مسرحاً يتحرك الجميع على أرضه.

ولعلنا نرصد تلك العلاقة الجدلية بين الخيمة والأب في الصحراء، كما أبدته شخصية الأب في الرواية، فالخيمة لا بد لها من عمود واحد كبير ترتفع فوقه يكون هو بمنزلة الوتد الأساسي، لكي تقوم بوظيفتها كمسكن وكملجأ، وكذلك كان الأب الشيخ في الأسرة، فهو عمادها الذي يرتبط به الجميع، حتى الجدة حاكمة، تلك العجوز التي كان لها رأي في كل شيء حولها، فضلاً عن النساء الأخريات والفتيات من الأبناء، وهي صافية وفوز وريحانه، والخادمة سردوب، وزهوة وسقيمة، وكان الجميع يتحركون وفق الحركة الرئيسية والأساسية للأب / الشيخ، الذي ينتقل هنا وهناك، بعقاله وفرسه السوداء، التي يجب ألا يعطيها اسماً معيناً، رغم أن المفضل أن يكون لكل فرس اسمها الخاص بها، ولا تنسى الكاتبة أن توضح علاقة الأب بالطفلة، حيث كان يدللها بقوله:

"أهلاً يا غزالة أبيك....."

أو بعبارة...

"فاطمة يا صغيرة أبيك، هل أغضبك أحد"

ولا تغفل الكاتبة تصوير مشاعر الصغيرة البريئة، نحو الأب / الشيخ... وتقول:

"مزاجه تلك المرة رائق، قبلني كثيراً وحملني ودخل، إنهم بانتظاره، تقدمت "صافية" فقبلت يده، وتبعتها "فوز" ثم "ريحانة"، أحنين رءوسهن بانكسار...

- لماذا لا تقبلهن؟

- يا فاطمة كبرن، حينما كن صغاراً، كنت أحملهن على كتفي مثلك؟

- لا أريد أن أكبر يا سردوب، لا أريد أن أكبر... تمسد يده خصلات شعري ويحكي....".

ولعل صورة الشيخ / الأب أمام عيني الطفلة، لم تتضاءل أم تتكسر أبداً إلا في مواجهة العجوز، وهي الجدة حاكمة، التي تشتم الجميع وتوجه لعناتها لهم، حتى الصغيرة، فهي بمنزلة أكبر شخص في تلك الأسرة، وعملها الدائم ينحصر في التفتيش عن الخزين، وإحصاء عدد البط، والحمام، كما تفتح كل صوامع الغلال حتى تتأكد من عدم إصابته بالسوس، ثم تعود لتفترش صدر المجلس على المقعد المميز المبطن، وتربع ساقيها، وتبدأ في لف ورق التبغ، وحين يأتي الأب تسأله عن رحلته ومرعاه، بينما هو يجلس أمامها ضئيلاً، وتلك هي سمات الأخلاق البدوية، فالصغير ينشأ على احترام وتقدير الكبير، حتى أن الطفلة / الراوية، ترى الأب / الشيخ في هذا المنظر، وكأنها لم تره من قبل، فالكل في غياب الجدة يركض من رهبته، والجدة لا تصف البنات إلا بأنهن من خلفة سوء أو حرام، بينما هي توزع ما جاء به الأب من رحلته من صابون وأقمشة، وتصف أم الطفلة بأنها محسوسة، وحران فيها الزاد لأنها جلابة للخلفة الحرام.

ومثل تلك الأوصاف، لم تكن تثير أي عواصف، فالكل متقبل للجدة بكل صفاتها، مادام الأب يتقبل ذلك في صمت، بينما هن يلعنها في سرهن، وتقول الكاتبة:

"تركض فوز وريحانه، تقولان عن الجدة.. الهبلة، ولا تكترثان إلا بطبعة الثوب، أو سواده أو صباغته الحلبية المشرقة.

غداً ستبدأن في القص والتطريز، صندوق غرفتهما مليء بالأثواب والمفارش، تركت صافية حصتها بلا خياطة، تحمل معها نصيب أمي ونصيبها وتركنهما في الصوان الكبير، وستبدو أكثر حزناً واستسلاماً، وسوف تبدأ في البرطمة إذا أوت لفراشها.

- الله يا خدك ما توعي بليل ولا نهار، والله ما ممسوس غيرك يا غراب الشؤم، أربع صبايا وثلاثة رجال، ماذا تفعل؟ ماذا تفعل في إرادة الله وعيونك المسمومة، والله ما حسدهم غيرك يا غراب الشؤم".

وتقول عنها الكاتبة على لسان الطفلة.......

"قلبي يمتلئ بالمخاوف من أسنانها الذهبية الشرسة التي تلاحقني في المنامات فأركض وأركض ثم أسقط في بئر بلا قرار، وأظل أشعر بالهبوط وجسدي يهوي بحدة في البئر.....".

ولعل رواية "الخباء" تتأسس على تلك العلاقة الخاصة، التي كانت بين الصغيرة، والأب / الشيخ، فهي تراه مركز الكون، ومن خلاله هي تحب كل شيء رغم إهماله لأمها المريضة دائما، والتي كانت تعيش في حالة حزن دائم، ونشيج دائم دون أن ترحمها عبارات الجدة الجارحة، وتعلن عن ذلك في كل المواقف بل ترتبط به رغبتها الدائمة في الاكتشاف، وتقول عنه:

"أحبه أكثر، أحب صمته وشروده، وأزحف ونشيجها يطاردني حتى الشرفة، حتى السلمات، والليل يخيفني، لكن نشيجها أكثر لماذا؟".

ورغم ذلك الحب الذي كانت توليه الطفلة للأب، فإن علاقتها بالجدة لم توصل أي مشاعر، رغم تعنيف الجدة ولها وقذفها دائماً بوصفها خلفة الشؤم، بل كان ذلك موقف الجدة من كل شقيقاتها، حيث تقول عن الفتيات:

"يكفينا الله شر بلاياهن، والله ما عاشت لي بنت، قالوا يا حاكمة أين تذهب بناتك؟ قلت: الله يكفيني شرهن، مصلية والله مصلية وداعية.

وقدر الله يا بنت داعية ومصلية، ما تبقى لي منهن شيء، مسافة البنية توأوأ يأتيها ستار الصبايا، يحمل ويشيل، ولكن وليدي ابتلاه الله....... ابتلاه وهو صابر........".

ورغم موقف الجدة حاكمة من الصغيرة، فالأب لا يدفع الجدة، بينما حبها للأب لم يتناقص، كما لم يؤثر زواج الأب بأخرى حتى تنجب له الولد بعد فشل الأم عدة مرات، والعروس الجديد كثيراً ما كانت تتدلل على الأب، هو ابنة عم الجدة حاكمة- التي تقول له:

"يا مخرف يا عجوز....... كيف تترك عروسك، تغور أمها في داهية جلابة الشؤم، وتقول- أيضاً- المهرة نافرة ولازمها سياسات، وأمها بنت عمي وعمك، ما هي طريدة من الطريد، وذلك في الوقت الذي أصبح للزوجة الجديدة لسان طويل تتطاول به على الجميع، والأب لا يفعل شيئاً....".

بكارة المجتمع

ولعل الكاتبة بهذا تكونت قد قدمت للقراء الكثير من سمات ذلك المجتمع البدوي في بكارته، ونبله، وبدويته بوصفه مجتمع الرجل، المرأة فيه تابعة والرجل متبوع، هو الحق دائما، والكلمة الأولى والأخيرة وصاحب الخطوة، كما أنها لم تنس أن توظف لغة شديدة الشاعرية، مما أضفى على رواية "الخباء" الكثير، مع الأغاني الشعبية البدوية التي تناثرت هنا وهناك، فضلاً عن تلك القسمات الخاصة التي رسمت صورة مجسدة للشخصية البدوية في إطار معتقداتها وأخلاقها البدوية، مثل الإيمان بالجن، والأرواح الشريرة التي تتجسد في الأرنبة البرية، والقاعود الصغير، والنعجة التي يتبعها ولديها الصغير، والتي تنزف دماً، والممسوسين، بالإضافة إلى ما تم من طقوس أثناء حفل زواج الأخت أو الأب، بوصفه عالماً مميزاً بطقوسه وعاداته، مما جعل من رواية "الخباء" رواية شديدة الجمال، لم تضن صاحبتها بشيء حتى تأتي في المستوى الملائم بتسجيل ذلك العالم، الذي ربما خشيت عليه الكاتبة من الاندثار، فسجلته في قالب الرواية، وشكلها الفني الذي اتسع فاحتوى الكثير من أبعاد الشخصيات الروائية من الناحية التاريخية والأنثربولوجية، والنفسية، والاجتماعية، وعلاقات تلك الشخصيات بالأمكنة وبالبيئات التي تعيش فيها.

 

شمس الدين موسى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الرواية