المعادن المشبوهة

المعادن المشبوهة

للعنف تفسيرات مختلفة، اجتماعية، فكرية وعضوية، وها هي معالجة علمية تتهم في ذلك بعض المعادن.

العنف ظاهرة عالمية نمت وترعرعت واستشرت في الثلث الأخير من القرن العشرين، وقد تناول الظاهرة بالبحث الكتاب والمفكرون وعلماء الاجتماع والنفس والاقتصاد وغيرهم.

ولكن ماذا يقول علماء الكيمياء؟

إن معرفة لماذا قطع الفنان المصور الهولندي فان جوخ أذنه قد تزودنا بمفتاح مهم لتفسير جرائم العنف، ويقول بعض العلماء إن لديهم دليلاً قوياً على أن ثورات الغضب العنيفة يمكن أن تنبثق بسبب تراكم بعض المعادن الضارة في المخ.

ولذلك يعتقد البعض أن ثورة العنف التي دفعت فان جوخ لأن يقطع أذنه موسى حادة ربما كان سببها المعادن التي في الألوان كان يستعملها في صورة، وليس من المصادفة أن المناطق التي تنتشر فيها جرائم العنف تزداد فيها نسبة التلوث بالمعادن.

تأثير معدن الكادميوم

إن تشريح الجثث بعد وفاة أثار اهتمام العلماء بوجود علاقة بين المعادن العنف، وعندما يموت المجرمون أثناء ارتكابهم جرائم العنف، فإن أجسادهم تختبر لمعرفة ما إذا كانوا واقعين تحت تأثير الخمور أو المخدرات، وفي بعض الحالات تجري اختبارات على شعر فروة الرأس، لأن هذا الشعر الذي ينمو ببطء يعمل كمخزن للمواد الكيميائية التي يتعرض لها الإنسان، وهذه الفكرة هي التي دفعت أطباء التحاليل إلى تحليل عينات من شعر السفاح جيمس أوليفر هيوبرتي الذي مات في عام 1948 بسبب إطلاق رجال الشرطة الرصاص عليه بعد أن قتل 21 شخصا في أحد المطاعم بولاية كاليفورنيا.

وقد قال وليم وولش رئيس مركز فايفر للعلاج بمدينة نابرفيل بولاية إلينوي الأمريكية:

"إن جيمس أوليفر كانت عنده أعلى نسبة من معدن الكادميوم رأيتها في حياتي، وأذكر أنني تلقيت مكالمة من مساعد طبيب التحاليل الذي أجرى الاختبار، قال لي أثناءها "عندي سؤال واحد لك، إذا كان جيمس أوليفر يحمل في جسمه هذه الكمية الهائلة من الكادميوم، فلماذا لم يمت من التسمم بهذه المادة؟".

إن معدن الكادميوم يقتل الإنسان بتدميره الكليتين، وعندما درس المحققون بعمق حالة جيمس أوليفر اكتشفوا أن الكادميوم، في واقع الأمر، كاد أن يقتله مرتين، وفي كل مرة أنقذ فريق من أطباء الطوارئ حياته من الموت بسبب الفشل الكلوي.

ولم يكن هناك أي سر حول مصدر الكادميوم، فقبل مجيئه إلى كاليفورنيا اشتغل جيمس أوليفر بلحام المعادن، وقبل استقالته من هذا العمل، سأله صاحب العمل عن سبب استقالته، فأجابه بأن الأدخنة المتصاعدة من اللحام كانت تجعله في حالة جنون.

وبالرغم من غرابة هذه الحالة، فإنها بالنسبة لوليم وولش تعتبر عادية، فقد سبق له أن رأى معدلات من الكادميوم أعلى بكثير من المعدلات الطبيعية في عينات الشعر التي استخرجت من رأس أشهر القتلة والسفاحين، وقد دفعت هذه التجارب وليم وولش إلى الاعتقاد بأن مقدرة الجسم أو عدم مقدرته على التعامل مع عدد من المعادن قد تكون هي الحد الفاصل بين ممارسة الخير أو الشر.

ومنذ عام 1989 يهتم وليم وولش وفريق العمل الذي يصاحبه ببحث حالات الأطفال الذين يعانون مشكلات السلوك المنحرف، مثل أولئك الذين يشكلون رعباً لأسرهم في السنة الأولى من عمرهم، وفي السنة الثانية يعذبون القطط، وقد استطاع بضبط مكونات غذاء أولئك الأطفال أن يعالج انحرافاتهم السلوكية ويمنعهم من أن يصبحوا مجرمين عند دخولهم في سن البلوغ.

أبحاث أخرى ومعادن أخرى

ولكن وليم وولش ليس هو الوحيد الذي يربط بعض المعادن والسلوك المنحرف، فإن روجر ماسترز وهو أستاذ بجامعة دارتماوث مهتم أيضاً ببحث هذا الموضوع في مجال المسجونين، وفي حين أن وليم وولش، وهو مهندس كيميائي يهتم بمشكلة عدم توازن المعادن داخل جسم الإنسان، فإن روجر ماسترز يبحث المشكلة من ناحية تأثير المعادن الضارة على المجتمعات الإنسانية، وفي هذا الصدد يقول: "إن النظريات السائدة عن جرائم العنف تدور حول المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية، ولكن هذه العوامل وحدها لا تفسر لماذا تختلف نسبة جرائم العنف من ولاية لأخرى في الولايات المتحدة، ففي بعض الولايات تبلغ هذه النسبة أقل من مائة في كل مائة ألف شخص، بينما تصل في بعض الولايات الأخرى إلى أكثر من ثلاثة آلاف في كل مائة ألف شخص.

ولكي يفسر ماسترز هذا الاختلاف، قرر أن يركز أبحاثه على اثنين من المعادن: الرصاص والمنجنيز، وهما منتشران بكثرة في بعض المناطق دون المناطق الأخرى.

وبالإضافة إلى ذلك وجدت أدلة علمية قوية على أن هذين المعدنين يستطيعان أن يغيرا كيمياء المخ بطريقة تسبب عجزاً في القدرة على التعلم وضعفاً في القدرة على ضبط النفس، وزيادة الميول العدوانية.

لقد لاحظ أبو قراط ومن بعده بنيامين فرانكلين أن الرصاص الذي كان يستخدم قديماً في تحلية الخمور الرديئة، له تأثيرات ضارة على القوى العقلية، وقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن الرصاص يؤدي إلى تخفيض معدل الذكاء لدى الأطفال في المدن، كما أن التعرض لمعدن الرصاص لمدد طويلة يؤدي إلى عدم الاكتراث بالقانون وعدم الخوف من العقوبة، ويؤيد ذلك العقوبات القاسية التي تفشل في ردع المجرم عن العودة إلى ارتكاب الجريمة.

ويقول ماسترز: إنه بالرغم من أن القوانين التي تمنع إضافة الرصاص إلى بنزين السيارات وإلى البويات قد خفضت مستويات الرصاص في الدم بنسبة 78% منذ عام 1976، فإن التلوث بالرصاص الناتج عن مواسير المياه القديمة، وعن المصانع والمناجم مازال مشكلة تتطلب الحل.

أما معدن المنجنيز، فهو متهم أيضاً بالتسبب في الاضطرابات السلوكية التي تشمل فقدان القدرة على ضبط النفس وانطلاق السلوك العدواني تحت تأثير الضغوط النفسية، وهو مثل الرصاص أيضاً له تأثيرات ضارة على القوى العقلية.

وفي أوائل القرن الحالي، كان حديد الزهر هو المادة النموذجية للمواسير، وهو يحتوي على أربعة إلى ستة في الألف من معدن المنجنيز، ويقول ماسترز: إن قدم المواسير أو تعرضها للصدأ يؤدي إلى إطلاق سموم مثل الرصاص والمنجنيز في موارد المياه وخاصة في المدن الداخلية التي يسكنها حالياً الفقراء.

وجهة نظر جديدة

يقول ماسترز: إن أبحاثه أثبتت أن الوسائل التقليدية لمكافحة العنف تحتاج إلى إعادة نظر، إن مفتاح السلوك العدواني يتمثل في انهيار وظيفة المخ في عملية قمع وكبح جماح الميول العدوانية، ومن أهم عوامل هذا الانهيار تلوث البيئة بالمعادن والمواد الضارة.

ويعتقد المتابعون لأبحاث ماسترز، أن نتائج هذه الأبحاث يجب أن تؤدي إلى احتضان نظرة جديدة إلى وسائل مقاومة العنف والجريمة، ويؤيد هذا الاعتقاد مايكل تسيمرمان عميد جامعة ويسكونسين بقوله "إن المحافظين الذين طالما نادوا بالتشدد في التعامل مع الجريمة سيؤيدون الآن علماء البيئة في تشددهم ضد الملونين في مجال الصناعة".

 

أنيس فهمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات