أضرار

أضرار "المحمول" حقيقة أم تهويل؟

هل هناك مخاطر صحية يمكن أن يسببها استخدام التليفون المحمول؟ سؤال يتردد كثيراً، وتثور بشأنه حيناً ثم تخفت أحياناً، لكنها لا تلبث أن تبعث من جديد.

من المعروف أن الاتهام الموجه إلى الهاتف المحمول ينصب على ما يصدر عنه من موجات كهرومغناطيسية خاصة تعرف باسم الموجات الدقيقة أو الميكروويف، على أن الهاتف المحمول ليس وحده بين مخترعات العلم الذي ينفرد بإنتاج الميكروويف، إنما يشاركه في ذلك أنظمة التحكم والاتصال في المطارات، وأجهزة الرادار، وأنظمة البث الإذاعي من الأرض إلى الأقمار الصناعية، وأفران الميكروويف المنزلية، وبعض المعدات الطبية، كأجهزة إنفاذ الحرارة (داياثيرم)، وبرغم ذلك الشيوع لأجهزة الميكروويف، فإن العلماء يتفقون على أن ما يصل إلى الجسم في الحياة اليومية من هذه الموجات غير المرئية هو بالفعل ضئيل، ولذا، فإن السؤال المطروح هو: هل التعرض لهذا القدر الضئيل من الميكروويف يمثل خطراً علينا؟

مراجعة دورية

لقد كان اختراع الرادار إبان الحرب العالمية الثانية إيذاناً بانطلاق تكنولوجيا الميكروويف على طريق التطور السريع، الأمر الذي زادت معه احتمالات تعرض البشر لأشعة الميكروويف، ومن هنا بدأ الحديث الجاد للمخاطر المحتملة لتطبيقات هذه التقنية الجديدة، وأصبح لزاماً أن توضع الضوابط وترسم حدود الأمان.

وبالفعل تم في الولايات المتحدة في عام 1953 أول تقدير لحدود الأمان، والذي أوصى بألا يزيد ما يتعرض له الجسم من طاقة الميكروويف على مائة وات لكل متر مربع، وهو مقدار يفوق كثيراً ما يصدر عن الهاتف المحمول، وتأثيره يناظر تقريباً عشر تأثير أشعة الشمس المباشرة، أو ما قيمته جزء من خمسين جزءاً من طاقة أجهزة الداياثيرم، وواضح أن هذا المستوى للأمان بني على حسابات خاصة بالتأثير الحراري للموجات.

وفي عام 1982 عندما حان وقت المراجعة الدورية لهذا الرقم من قبل الجهات المسئولة في الولايات المتحدة، كانت بعض الأبحاث التي أجريت على الحيوان قد سجلت حدوث أضرار من جراء تعرض الحيوان لجرعات مختلفة من الميكروويف، وكان من بين ما شملته قائمة الأضرار حدوث تغير في تركيب الدم وفي نفاذية أغشية المخ، وارتفاع حرارة سوائل العين، وتدمير الخلايا التناسلية، بالإضافة إلى الإصابة بالأورام.!

والطريف أن نشر تلك النتائج تباعاً كان له أثره في إذكاء هواجس ذات طابع سياسي، إذ تزامن مع أخبار وتقارير تزعم أن الاتحاد السوفييتي (السابق) دأب لعدة سنوات على تسليط أشعة الميكروويف على السفارة الأمريكية في موسكو، وفي ذلك الوقت أيضاً، كان معروفاً أن المسئولين في الاتحاد السوفييتي السابق ودول شرق أوربا قد قرروا سقفاً للتعرض للميكروويف يقل مائة مرة على الأقل عما هو متبع في الولايات المتحدة.

المهم أن المراجعة جاءت أثر تغير نوعي في نظرة العلماء إلى كيفية تأثير الميكروويف، حيث تبين أن مقدار ما يمتصه الجسم من طاقة تلك الموجات يعتمد على عوامل عدة، من بينها حجم الإنسان واتجاهه بالنسبة لاتجاه الموجة، فما يمتصه الجسم إذا واجه الموجات من الأمام يختلف عما قد يمتصه إذا أتته الموجات من أعلى مثلا، وكذلك إذا تعرض رجل وطفل للقدر نفسه من الأشعة، فإن ما يمتصه جسم الرجل يختلف عما يمتصه جسم الطفل، وبناء على ذلك، قرر العلماء حداً للتعرض لا يعتمد على طاقة الأشعة ذاتها، بل على ما يمتصه الجسم منها، واستقر الرأي على ألا يزيد ما يمتصه الجسم من طاقة الميكروويف على 4 وات لكل كيلوجرام من وزن الجسم لكل ساعة.

بيد أن المراجعة التي انتهت إلى تقرير مستوى الأمان عند هذا الرقم كشفت، من ناحية أخرى، عن تضارب شديد في نتائج البحوث العلمية فيما يتعلق بتأثير الميكروويف على الأنسجة الحية، ولهذا سارعت الولايات المتحدة برصد ميزانية كبيرة بلغت نحو عشرة ملايين دولار سنوياً (في عقد الثمانينات) للإنفاق على الأبحاث المتعلقة بتأثير المجال الكهرومغناطيسي، سواء ذلك الناشئ عن تقنية الميكروييف أو عن أجهزة البث الإذاعي أو خطوط الكهرباء وما إليها، ولذا فقد حظي ذلك الموضوع بنصيب من اهتمام الباحثين قلما توفر لغيره من الموضوعات المتعلقة بالمخاطر البيئية، فما الذي أدت إليه البحوث المستفيضة؟

مع مولدات النبض

لقد تبين أن أغلب النتائج المخيفة التي سجلتها دراسات سابقة كان بعضها مفتقراً إلى الدقة العلمية، والكثير منها كان راجعاً إلى ظروف تجريبية خاصة يصعب توافرها في بيئتنا الطبيعية، ويمكن القول إن الاستنتاج العام الذي تخلص إليه مجمل الدراسات هو أن أجسام الأصحاء يندر أن تتضرر من ذلك القدر من الميكروويف الذي نتعرض له في الحياة اليومية. يضاف إلى ذلك أن هذه النتائج الحديثة تعززها معلومات بديهية قديمة، فالضرر الناجم عن التعرض لأي نوع من الأشعة يتحدد بالطاقة التي تحملها موجات تلك الأشعة، وبشكل عام، يمثل تردد الموجة دليلاً على طاقتها وقوة نفاذها في الأجسام، والمعروف أن تردد الميكروويف يزيد على ترددات موجات البث الإذاعي والتلفزيوني التقليدي، لكنه أدنى من تردد موجات الأشعة تحت الحمراء والضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية، كما أنه- بالطبع- أقل كثيراً من ترددات أشعة إكس وأشعة جاما، ولذا، فإن الطاقة المصاحبة للميكروويف أضعف من أن تحطم الروابط الكيميائية بين الذرات المكونة لجزيئات أجسام الكائنات الحية، ومن ثم، فالأمر من حيث المبدأ يبعث على الاطمئنان.

ربما كان الشيء الوحيد الذي يحذر منه العلماء صراحة هو أن الهاتف المحمول يمكن أن يشكل خطراً على مرضى القلب، وبالتحديد، أولئك الذين يستخدمون جهاز الميقاع، أو مولد النبضات Pacemaker، فالموجات الصادرة عن جهاز الهاتف- هكذا تقول الدراسات العلمية- يمكن أن تتداخل مع المجال المغناطيسي لمولد النبض، فتسبب خللاً في أدائه، وقد شهدت السنوات الأخيرة عدداً من البحوث المتلاحقة في هذا الصدد، لعل أبرزها ذلك الذي أجري حديثاً في ألمانيا، وفيه درس العلماء 231 طرازاً من مولدات النبض، تنتجها عشرون جهة مصنعة، وتبين أن أكثر من مائة طراز "44.6%" من تلك المولدات تتأثر بالموجات الصادرة عن الهواتف المحمولة التابعة لشبكتين من بين ثلاث شبكات اتصال عاملة في ألمانيا، ومن ثم فالنصيحة التي يوجهها العلماء للمرضى هي ضرورة ألا تقل المسافة بين جهاز التليفون ومولد النبض في جسم المريض عن عشرين سنتيمتراً، وذلك فيما يتعلق بالهواتف المحمولة في اليد، أما التليفون النقال فينصح بإبعاده مسافة نصف متر.

وواضح هنا أن توفير الأمان لا يتطلب أكثر من تجنب وضع جهاز الهاتف في جيب السترة، أو في أي جيب قريب من الصدر، وتقول الدراسة السابقة إن وضع الهاتف في جيب جانبي أو تعليقه في الحزام يمكن أن يضمن سلامة أداء مولد النبض بنسبة 99%، كذلك يقدر العلماء أن نسبة الخطر من التليفون المحمول لا تتجاوز حالة واحدة فقط من بين كل مائة ألف شخص ممن يستخدمون مولدات النبض في العالم حالياً.

ولأن التجارب كشفت عن أن بعض مولدات النبض لا تتأثر بالموجات التي تصدر عن الهاتف المحمول، فإن العلماء ينصحون الأطباء بألا يزرعوا مستقبلا في أجسام مرضاهم سوى الطرازات المنيعة من تلك المولدات، على أن تقدم الجهات المصنعة لها ضماناً صريحاً بذلك، ولا شك أن هذا يقودنا إلى الاستنتاج بأنه من الأفضل أيضاً أن يبتعد مستخدمو مولدات النبض قدر الإمكان عن أفران الميكروويف المنزلية، كما ينبغي عدم التصريح ببناء محطات التقوية أو هوائيات الإرسال الخاصة بشبكات الهاتف المحمول على أسطح المنازل، وذلك تجنباً لبث المزيد من الميكروويف في المناطق السكنية.

ولكن ماذا عن الذين لا يستخدمون مولدات النبض؟

الوخز الكهرومغناطيسي

إن أجسام الكائنات الحية، بما فيها جسم الإنسان، تشع هي الأخرى موجات كهرومغناطيسة، وتتميز الأشعة التي يطلقها الجسم البشري بأنها ليست عشوائية، بل تتحلى بنوع خاص من الاتساق والانتظام، ويعتقد العلماء أن هذه الاتساق مرجعه انتظام آليات الوظائف الكيميائية بالجسم، وعلى ذلك، يمكن اعتبار مدى انتظام المجال المغناطيسي الذي يولده الجسم مقياساً لصحته، وبعبارة أخرى، نقول: إن الجسم البشري يشبه مولد نبض منتظم كبير الحجم، ولما كان لكل إنسان طيفه الكهرومغناطيسي الخاص- هكذا يقول العلماء- فهناك احتمال أن يتوافق نمط موجات الميكروويف مع نمط الإشعاع الجسمي لشخص ما، وعندئذ قد يمثل الرنين Resonance الناتج خطورة على الجسم، على أن مثل هذه الحالات نادرة جداً، وهي مصادفات سيئة حقاً.

والجدير بالذكر أن البحوث المتواصلة في مجال الميكروويف قد أفرزت عدداً من الأفكار الإيجابية، منها ما يجول بخواطر العلماء حول إمكان استخدام الميكروويف كوسيلة لبحث بعض آليات المعقدة في الدماغ البشري، أو كأداة للتشخيص، أو لإحداث تأثيرات علاجية، ويشير تقرير نشر أخيراً على الانترنت أن بعض العلماء في روسيا يقومون حالياً بتجربة ما أسموه "الوخز الكهرومغناطيسي" Electromagnetic Acupunture، وفيه يتم توجيه أشعة الميكروويف إلى نقط الوخز المعروفة في محاولة العلاج المرضية، ويذكر التقرير أنهم يحرزون نجاحاً لا بأس به، كذلك معروف أن هناك أنواعاً من الفاجات ( الفيروسات القاتلة للبكتريا)، توجد داخل البكتريا في حالة كمون، ومن هنا يفكر بعض العلماء في إمكان استخدام الميكروويف لإيقاظ تلك الفاجات النائمة، وبذلك يمكن تدمير البكتريا بآليات من داخلها، ولا شك أن مثل هذا التصور إذا تحقق عملياً فسوف يكون خطوة ذات شأن كبير، خصوصاً في وقت تزداد فيه مقاومة البكتريا لأنواع من المضادات المألوفة.

وبعيداً عما يخبئه المستقبل من تطبيقات جديدة للميكروويف، فإن النظرة المحللة إلى نتائج الدراسات التي أجريت حتى الآن تشير إلى أن ما تبثه أجهزة الاتصال حولنا من الميكروويف، لا يشكل خطراً يدعو إلى الذعر بقدر ما يدعو إلى مواصلة البحث على طريق تعظيم الفائدة من هذه التكنولوجيا الرفيعة، وتقليل الأضرار المحتملة لها قدر الإمكان، وإذا أخذنا في الاعتبار سهولة الوقاية في الحالات المعرضة التي سبق ذكرها، فسوف يتضح أن الخوف من الهاتف المحمول ليس له ما يبرره من الناحية الموضوعية، صحيح أن بعض العلماء يرون أن عدم توافر الدليل على خطورة ما يصل إلى أجسامنا من الميكروويف- مع ما لهذه الأشعة من تأثير حراري مؤكد- لا ينفي إمكان حدوث الضرر، إذ ربما يكون هناك مخاطر مجهولة يصعب رصدها بأدوات العلم الحالية، ولكن المستقبل سوف يكشف عنها آجلاً أو عاجلاً، وواضح أن أولئك العلماء يستندون إلى حقيقة أن غياب الدليل ليس دليل نفي، لكن التشبث بمثل هذا المنظور الصارم والمتوجس في التعامل مع التكنولوجيا كفيل بوأد منجزات العلم. إن التليفون المحمول في يد طبيب قد يكون وسيلة لإنقاذ حياة العشرات، وهو أمر قمين بأن يحملنا على التخلي عن الجزع من أضرار خفية، أو باهتة الملامح، لم يقم عليها دليل صلب.

 

مدحت صادق

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أضرار المحمول حقيقة أم تهويل