أساتذة طب.. من عالم الحيوان

أساتذة طب.. من عالم الحيوان

الطب خبرة متراكمة من مواجهات الداء والدواء فهل كان الحيوان سباقاً في إعطاء الإنسان بعض هذ الخبرة؟

منذ القدم، عرف أن الدواء الذي يحفظ الصحة ويذهب المرض، وكذلك السم الذى يتلف الدماغ ويشل الأعصاب، ويؤذي الإنسان ويعطبه، وجدا أصلاً في النباتات التي درس الإنسان خصائصها، بعد أن دلته المصادفة على بعض تأثيرات تلك النباتات كما في القصة التي ذكرها ابن اصيبعة على لسان حبيس بن الأعسم، بأن رجلاً اشترى كبدا طرية من جزار، ولكنه لأمر ما، اضطر أن يضع الكبد على أوراق نبات مبسوطة على وجه الأرض، وعندما عاد ليأخذها بعد فترة، وجدها قد ذابت وسالت دماء منها، فعرف ذلك النبات وأخذ يبيعه دواء معطباً متلفاً للإنسان، حتى فطن الناس إليه وأمر الحاكم بقتله.

وذكر أيضاً ابن إصيبعة أن أحد فقراء مدينة دمشق استلقى على أعشاب وغفى، وعندما مر عليه جماعة وجدوه سابحاً في دمه النازف من أنفه ومخرجه، فتبين لهم أن السبب هو العشبة التي نام عليها، التي كانت تشبه الهندباء، ولكنها مرة المذاق، وأنها تحدث الرعاف لكل من يقربها إلى آنفه، ويستنشقها مرات عديدة، وتعرف الأقدمون على نبات يشبه الزنجبيل رطبا ويابسا، يحتوى سما قاتلا لكل حيوان، وان ترياقه المضاد هو قاتل فأرة البيش التي تتغذى به، وكانت أول ترياق استعمله الإنسان مزيجاً من حب الغار والعسل، وقد عرف الإنسان قديماً تأثير بذر الصبر والسقمونيا كمادة مسهلة ، وأن نبات شحم الحنظل يفيد بذره في لسمع الأفاعي، وقد يوسع العروق الدموية، وقد عرف الأطباء العرب الأدوية والأعشاب النباتية المسهلة والملينة، والقابضة والمنبهة، والمخدرة والمعرقة، والمرقئة والمسكنة.

أعشاب وأفاع

والتاريخ يدل على أن الإنسان تعلم الكثير من الطب على أيدى بعض الحيوانات بما تمتلكه من قدرة على مداواة نفسها واتقاء أعدائهـا، مما يجعلنا نتساءل إن كان الحيوان هو أستاذ الطب الأول للإنسان ، مع أن الغريب أنه عندما يحاول أن يسخر أحدهم بطبيب يلقبه بالبيطري، أى طبيب الحيوان قاصداً بذلك الغمز ببراعته الطبية والانتقاص من مقدرته العلاجية، مع أن طب الحيوان يتطلب براعة في استقراء التشخيص وابداعاً في أثناء المعالجة، ومهارة فى المداواة والمتابعة مضاعفة، لأن الحيوان لا يستطيع أن يعبر عن إحساسه ولا يمكنه أن يصف مرضه أو يعطي قصة معاناته كما هو الأمر عند الإنسان المريض، وفي حالة خاصه قد يلجأ الطبيب البشرى الماهر لتطبيق معالجاته الدوائية والجراحيه على بعض الحيوانات في ظروف خاصة، كان يجري طبيب العين عملية لاستخراج الساد من عين صقر أو كلب، اصيبت عدسته البللورية بكثافة، كما يحدث في داء الساد عند الإنسان.

وفي القرآن الكريم ما يثبت أن الحيوان هو الذي علم الإنسان آداب دفن موتاه واحترام الميت وإكرامه، فعندما قتل قابيل هابيل، أرسل الله غراباً ليعلمه كيف يواري سوءة أخيه، والنمل يعطي مثلاً رائعاً في نظام سحب موتاه من العراء، وأخذ الجثث في انتظام واحترامها وسحبها من المكان، وفي نظام مملكة النحل روائع ودروس كثيرة من الأجدى أن يتعلمها الإنسان، ومن النحل العسل الذي فيه شفاء للناس، ومازالت الأبحاث تعمل على كشف الكثير من أسراره، ولكننا نجد في الطب أمثلة صارخة على علاقة مسيسة بين الحيوان والطب.

الأفعى كمثال صارخ لها دور مميز في تاريخ الطب يشتق أولا منابعه من الأساطير البابلية، إذ تروى ملحمة جلجامش أن الحية رمز الشفاء، ورمز الطب، لا لسمها القاتل والممرض، ولكن بسبب ما قيل من أنها أكلت عشبة الحياة التي تعيد للمخلوقات الشباب وتجدد فيها الحيوية، وهي بذلك تقشر جلدها وتخلعه مرة كل عام حين يتجدد جلدها وينمو صقيلاً جميلا كالسابق، وهي لاتهرم ابدا كما في الاساطر، و لأن سمها قاتل، أحيانا تحوم حول الحية أساطير كثيرة بعضها إغريقى المصدر، فقد قيل إن الحية سبقت الإنسان باكتشاف التداوي بالأعشاب الطبية، فهى حين تمضى فترة الشتاء خبيثة فى ظلمة الأرض، تظلم عيناها لبقائها طويلاً في الظلمة، وعندما تخرج من مخابئها أيام الربيع تمرد عينيها على نبات (الرازيانج) فيعود لها الإبصار وتقوى حدة الرؤية لديها.

وذكر أن شخصاً نهشته أفعى فى ذراعه، وكاد أن يغمى عليه من الجزع والالم، فشرب من ماء تجع فى جونة من أصل شجرة ، فإذا بألامه تهدأ ويسكن وجعه، ويبرأ ويشفى من ضربة الأفعى ، وعندما فتش فى أصل الماء الذى شرب منه، وجد فيه حيتين وقعتا فى الماء مهترئتين، مما استدل منه على أن لحم الأفاعى يفيد ترياقاً فى لدغ الأفاعى والحيات والسباع الضاربة.

ويذكر ابن أبي اصيبعة هذه القصة اليونانية الطريفة: كان للملك بيولوس غلام شرير غماز خمان فيه كل بلاء ، وكان كبيرا عند الملك يحبه لذلك، ولكنه آذى الكثير من الناس، فأجمع الوزراء والأمراء والرؤساء على قتله، ولكنهم خافوا من الملك، فاحتال بعضهم وقال: اذهبوا واسحقوا وزن درهمين من الأفتيمون واجعلوه فى طعامه أو اسقوه فى شرابه، فإن الموت السريع يلحق الناس كثيراً، فإذا مات حملتموه إلى الملك وليس بجراحه ولابقتله، ولما فعلوا ذلك تهاوى الغلام وسقط وقارب الهلاك، فوضعوه في محبس ريثما يرسلون للملك مخبرين بموته، ولاحظ حارس السجن أن حية اندست خلسة ودخلت غرفة السجين الميت ، ولكنهم فوجئوا بعد ذلك بالغلام يصبح بهم أن يفتحوا الباب ويطلقوه، فقد نهشته الأفعى فى ذراعه، فعرفوا أن سم الأفعى غلب على سم الأفتيمون وعدل من سميته، فعاش بعدها الغلام طويلاً بعد أن أنقذه ترياق السم .

ومن غرائب الحيوان الطبية، أن الدواب إذا أكلت الدفلى أثناء رعيها وأضرها، تسارع إلى حشيشة (بادزهر) فترتعها وهي مضادة لسم الدفلى ، ويكون بها برؤها، وقيل إن القلق يعشش فى أعلى القباب والمواضع المرتفعة ليؤمن بها بيضة، وهنالك عدو متربص له يتقصده دائماً ويأتى إلى عشه ويكسر البيض الذي فيه، فيستحضر اللقلق إلى عشه حشيشه يضع عليها بيوضه، إذا شم عدو اللقلق را ئحتها يغمى عليه فيؤمن شره، ولوحظ أنه إذا جرح اللقلق داوى جراحة بالزعتر الجبلي، فترقأ ويشفى، وقيل عن الثيران إنها تفرق بين الحشائش المتشابهة في صورها وتعرف ما يوافقها فترعاه، وما لا يوافقها فتتركه، على الرغم من نهمها وكثرة أكلها وبلادة ذهنها.

حقنة الطائر

ذكر جالينوس في كتابه (الحقن) عن أرودوطي، أن طائراً يدعى (أيبس) هو الذي علم الإنسان طريقة المعالجة بالحقنة الشرجية، فهدا الطير كثير الاغتذاء، يأكل ما يصادفه من اللحوم، فيحتبس بطنه، فإذا اشتد عليه ذلك يتوجه إلى البحر فيأخذ بمنقاره من ماء البحر- ويحقنه في دبره ، فيخرج بذلك الأخلاط المحتقنة في بطنه ثم يعود إلى عادته في الاغتذاء.

وقد ذكر الرازي في كتابه (الخواص) أن طائر الخطاف إذا أصيبت فراخه باليرقان، يجيء بحجر اليرقان، وهو حجر أبيض صغير يضعه في عشه فتبرأ صغاره، فإذا تحايل أحدهم وصبغ فراخ الطير بالزعفران، ظن الطائر أن اليرقان أصابها فيأتي بذلك الحجر ويجمعه في عشه، وقد أخذ الإنسان عن الطائر تلك العادة بتعليق ذلك الحجر الصغير الأبيض على من أصيب باليرقان، لعله يبرئه، وكذلك الأمر في طائر العقاب، إذا تعسر بيض الأنثى، يأتي الذكر ويحضر حجراً يعرف بالقلقل، إذا حرّك تقلقل كأن في داخله حجراً، ويسمي الناس ذلك الحجر، حجر العقاب، يستعملونه في عسر الولادة محاكاة بالعقاب.

وذكر ديسقوردس أن المعزى البرية إذا رميت بالنبال وبقيت في أبدانها، فإنها ترعى النبات الذي يقال له المشكطرامشير، وهو نوع من الفوتنج أنو نعنع الماء، فيتساقط النبال عنها وتشفى دون أن تؤذيها الإصابة.

لقد استوحى الإنسان مبادئ الطيران من الطيور، وربما كان العربي عباس بن فرناس أول من جرب محاكاتها وذهب ضحية لذلك، كما تعلم من الطير طريقة التفريخ فصنع الحاضنات لتكثير الطيور، وتلعم منه طريقة السباحة وكيف يطفو على سطح الماء، وتعلم من الحيوان المناطحة والمصارعة والهجوم، والمخاتلة والمباغتة، وتعلم من الحشرات والزواحف كيفية التنكر بألوان الأرض والشجر للحماية من الأعداء المتربصين. إنها الدروس الأولى التي تعلمها الإنسان منذ سار خطوته الأولى ، وشق طريقه فى حقل الطب الغنى، معتمد آلاف الأمثلة التي عرضها النبات وقارفها الحيوان، وهو مازال يتبع الطريقة نفسها في الاستنباط من الملاحظة و التجربة، البرهان والتحقيق، ويسخر الحيوانات لتجاربه المخبرية في معرفة تأثيرات الدواء أو مقاديرها العلاجية وحدودها السمية، وتأثيراتها الجانبية، قبل أن يطبقها على الإنسان في معالجاته السريرية.

 

سري سبع العيش

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات