رسالة ماريك هواسكو

أآترجمها للعربية: الدكتور هناء عبدالفتاح

كنت في انتظار رسالة. لم يكتب لي أحد رسالة، لا قريب لي، هنا ولا في بلدي ولا حتى في العالم كله، أصبحت عجوزا.. إنسانا وحيدا: "كنت أفكر أحيانا، ليس من الضروري أن يكون للجميع في هذا العالم أقرباء ومعارف: هذا أمر طبيعي، فالبشر - الوحيدون - هم أيضا ضروري وجودهم، حتى يفهم الآخرون، كيف أن الوحدة شيء قاس، وليكون في مقدورهم التخلص منها".

ومع ذلك فقد كنت في انتظار رسالة. كنت أعرف أن هذه الرسالة لن تأتي بأي حال من الأحوال، ولكني آمنت كذلك أنه ليس من المنطقي ألا يكون ثمة شخص من الأحياء في عالمنا هذا، لا يرغب يوما ما في أن يكتب لي رسالة. حتى أولئك التعساء جدا، لا يؤمنون إيمانا كاملا بتعاستهم المطلقة، إنهم في حاجة إلى "كوة" صغيرة يكون بمقدورهم أن يتنفسوا من خلالها، وينطبق الأمر نفسه مع أولئك البشر "الوحيدين" مثلي، نحن نملك دائما "نافذة صغيرة" نرى من خلالها. لقد كنت في انتظار رسالة.

كان البيت - الذي كنت أسكن في غرفة صغيرة به - واحدا من تلك البيوت القديمة التي تقبع في وسط المدينة. كان بيتا ذا حوائط أقرب إلى السواد، بداخله درجات سلم متآكلة، وفناء قد اخضر من الرطوبة، وفي سطح البيت بنى بعض الفتيان الفارعي الطول أبراجا لتربية الحمام، أما الفتيان الأقصر طولا فكانوا يهرولون إلى ساحة البيت حيث يمارسون لعبتهم، وإذا لم تخني الذاكرة، لعبتهم المفضلة نفسها "عسكر وحرامية"، والفتيات كن يقفزن فوق حبلهم ذات اليمين وذات اليسار، ويلعبن كذلك لعبة "السماء والجحيم" في الصيف تنام القطط السمان، دائما ما تلف الحي روائح الكرنب المطهي والغسيل الندي، ومن وقت لآخر نشاهد حارس البيت ثملا، وهو يعزف على آلة الأكرديون، عندئذ يتجه الأطفال نحوه، محيطين إياه في دائرة مغلقة، ناظرين كيف تهرول أصابعه بمهارة على أصابع آلته الموسيقية، بينما يميل "المنجد" برأسه الأصلع من النافذة راجيا الحارس: "اعزف (كلاريسا) يافرانشيشيك!"، عندئذ يرميه الحارس بنظرة تلفها حلاوة الكبرياء، ليعزف لهم ذلك "التانجو" الغريب الحزين. يبدأ يومنا هنا مبكرا، يعمل نصف سكان بيتنا في مصنع "سباكة الحديد"، منذ الخامسة صباحا "يقرقعون" بأقدامهم فوق درجات سلم البيت، وفي السابعة صباحا يقوم كل من الخياطين بتحريك مكائنهما، أما صانع الأحذية غليظ الصوت، فكان يصرخ عاليا متحدثا مع الصانع الشاب الذي يتعلم أصول الحرفة على يديه، يملك هذا الشاب وجفا تغطيه الحبيبات الصغيرة، وأذنين أقرب إلى أذني خفاش، وهو - كما يؤكد صانع الأحذية - خليفة للغباء بعينه ولأم أقرب إلى البومة، عند "المنجد" تدق المطارق، وتقترب القافلة الأولى من عربات الأجرة من محل إصلاح السيارات. ويتثاءب الحارس خارجا إلى الساحة في اللحظة التي يرفع فيها سرواله. للحياة هنا وجه واحد!

أما موزع البريد - السيد جويمبيوفسكي - فيأتي إلينا حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرا، في هذه الساعة بالذات تتغنى الطاهيات، في هذه الساعة أيضا ينتهي تنظيف سجاد البيت، وتطير الروائح الكريهة المتبقية من طهي وجبات الغداء، خارجة من النوافذ، في هذه الساعة كذلك أشاهد من على بعد، كيف أن موزع البريد - راكبا دراجته المتعبة - يمسك بيد مقود دراجته، ويخرج باليد الأخرى رسالة من حقيبته الضخمة. عندئذ يقترب الجميع داخل الساحة منتظرين، يصعد موزع البريد - ذلك الرجل العجوز مثلي - تلك الدرجات المتآكلة بصعوبة بالغة، يضع نظارته فوق أرنبة أنفه، قارئا أسماء أصحاب الرسائل:

- شيميونتكوفسكي!

- ياشتيك!

- مالينوفسكا!

يتلقف الجميع رسائلهم، ويعودون من حيث أتوا، حينئذ أتساءل:

- ألا توجد رسالة لي؟

- نعم - يجيبني موزع البريد - لا يوجد شيء لك يا سيدي. ربما في الغد.

- فلتبحث ثانية - أرجوه - أنت تعرف يا سيدي كيف ينسى الإنسان أحيانا. يعتقد المرء أنه لا يوجد شيء على الإطلاق، وفيما بعد يكتشف أنه - مع ذلك - يوجد شيء ما قد تبقى. صدقني يا سيدي، أحيانا ما يحدث ذلك. أرجوك أن تبحث ثانية!

مد موزع البريد يده إلى الحقيبة، غير أن وجهه ارتسمت عليه علامات الشك. بحث كثيرا ليقول بعد ذلك:

- كلا، اليوم ليس ثمة رسالة إليك. ربما في الغد. هل ستنتظر يا سيدي؟

- أجل - أجبته - سوف أنتظر. من المؤكد أنني سأنتظر. هناك شخص ما سيكتب لي رسالة، ولكنه يسكن بعيدا عن هنا. أتعرف يا سيدي، عندما يسكن الشخص بعيدا...

- بالطبع - استطرد موزع البريد - يسكن أقاربي بعيدا جدا عن هنا. إنك حتى يا سيدي ليس بمقدورك أن تدرك أين يسكنون بعيدا. مع الأسف، عليك أن تنتظر. قد تأتي هذه الرسالة غدا.

- سوف أنتظر. لا بد أن تأتي هذه الرسالة، انتبه يا سيدي فقط إلى الرسائل الواردة. أرجوك رجاء حارا يا سيدي! سوف أنتظر.

- هكذا يكون الأمر دائما ما ينتظر الإنسان رسالة ما. ودعني موزع البريد، وعاد من حيث جاء. رأى كل منا الآخر يوميا، رأينا بعضنا البعض خلال سنوات عديدة، صيفا يحضر إلينا محموما، يتبخر عرقا كمقطورة القطار، شتاء تتجمد شواربه من الجليد، أما في الخريف فيكون حزينا مقهورا، تنهمر منه حبات المطر، ودراجته زاخرة بالطين، والبقع الصدئة، وفي الربيع ربما يكون الأول في مدينتنا الذي يفتح قميصه، لأشاهد شعره الغزير، الناصع البياض فوق صدره القوي، توالت فصول الربيع، والصانع الشاب الذي يعمل عند صانع الأحذية، يقيم ورشته الخاصة، ويتزوج، وأسمع من العاشرة صباحا، كيف يصيح بصوته الغليظ مناديا الصانع الذي يعمل عنده، أما الفتيان الذين كانوا يلعبون لعبة "عسكر وحرامية" في الزمن الماضي، فإنهم اليوم يقومون بتأدية الخدمة العسكرية، ومن هناك يكتبون رسائلهم التي ينقصها الدقة للفتيات، اللائي كن يقفزن - ذات يوم - من فوق الحبال الملونة، ليصبحن الآن فارعات، رشيقات، يرتدين فساتين ملونة، ويتحدثن مع أمهاتهن - ببرود وبشكل عارض - عن أنهن لا يسألن عن رأيهن في اختيار زوج المستقبل، أما حارس البيت فقد أصيب بالصمم، وبدأ يخطئ عزف لحن "التانجو"، "والمنجد" فإن قادومه غالبا ما يدق به يده، وليس فيما يقوم بدقه. تساءلت:

- أهناك رسالة لي؟

- كلا - أجاب موزع البريد - لا يوجد أي شيء. من المؤكد أنه ستأتي رسالة في الغد.

- أفحصت الحقيبة جيدا يا سيدي - سألت. ارتسمت على وجه موزع البريد نظرة غاضبة وأجاب:

- إنني دائما ما أفحص حقيبتي جيدا. عليك يا سيدي أن تنتظر.

- بالطبع - أجبته - سوف أنتظر.

- هذا بالضبط ما ينبغي عليك فعله. دائما ينتظر الإنسان رسالة ما. فالرسائل تأتي من حيث لا نعلم، فالناس تكتب من بعيد. أحيانا، من الضروري على الإنسان أن ينتظر رسالة ما.

كنت عاتبا عليهم، عاتبا على جميع سكان هذا البيت، أولئك الذين يتلقون رسائل، كنت أكره وجوههم في اللحظة التي يتسلمون فيها من يد موزع البريد رسائلهم. كنت أشعر أن تلك الكلمات التي سطرت في هذه الرسائل، قد سرقت مني، وأنها ملكي، كان علي أن أقرأها، أبكي من أجلها، أو أضحك بسببها، وأنه فقط لسبب غير مفهوم لي، تأتي هذه الرسائل إلى أيادي الآخرين، في الوقت الذي كنت أعتبر كل رسالة منها هي رسالتي. تذكرت كل أولئك البشر الذين تعرفت عليهم في حياتي، أشرقت الحياة من جديد ممل صداقاتي، تلك اللحظات القصيرة مع أولئك الأصدقاء، الذين لم يكن بمقدوري تذكر وجوههم اليوم. عاودت التفكير طويلا في امرأة ما، أحببتها حبا عظيما عندما كنت في العشرين. في خلال بضعة أيام استعاد ذهني صورة شخص ما، وتهيأ لي أن هذا الشخص سيكتب لي. وصلت إلى مرحلة من اليقين المؤكد، بأنني سأتلقى رسالة منه، لقد بعثت الحياة في داخلي كل اللحظات الخيرة والشريرة التي عايشتها معه: النزاع، النزهات، الأحاديث المسائية، المناقشات، الاعترافات، لقد هبت الحياة كذلك في إيماءاته، في كلماته وضحكاته. كنت أدرك أنه "هو"، "هو" فقط الذي سيكتب رسالة لي، هكذا دار في نفسي هذا الخاطر عبر أيام عديدة، لكنني أفقت من حلمي فيما بعد، عندما أدركت أن هذا الشخص قد مات منذ سنوات مضت، وأنني بنفسي قد نثرت ثلة من الرمال من قبضتي فوق قبره.

آه، أجل أجل! إن هذه الرسائل التي يحملها موزع البريد، إنما قد سرقت مني، شعرت بذلك، إنني رجل عجوز، كل يوم أقوم بتحية الشمس في السماء، أعرف تماما أنني أكثر اقترابا من الموت، أعرف كذلك أنني لو تلقيت رسالة اليوم، فإنني لن أموت شعورا بالوحدة. كنت أكره أولئك المتلقين رسائل، كان هذا شعور إنسان، يدرك سعادة الآخرين، أما هو- نفسه - فليس بمقدوره أن يعانقهم، يعانق سعادتهم، إنه شعور متعب، هو مزيج من الحب والكراهية.

"... ما الذي يقومون بفعله بهذه الرسائل؟- كان هذا هاجسا يقلق راسي - وما الذي يفيدون منه من هذه الرسائل؟ لديهم بيوت، أطفال، يتحرك في محيطهم عدد غير ضئيل من البشر، أما أنا، فإنني في انتظار رسالة فقط!".

كنت أعرف من ومن أين يتلقى الآخرون رسائلهم، كنت أعرف أن تلك الفتاة الشقراء، التي تجلس في الشرفة وفي يدها دائما كتاب، تتلقى رسائل من خطيبها. إنه يعيش في مدينة بعيدة عن مدينتنا. أما رسائله فتأتي إليها في ظروف زرقاء زرقة السماء، في كل ورقة من أوراق رسالته يرسم دائرة في المكان الذي يقبل فيه جزءا من هذه الورقة، تقرب الفتاة هذه الرسائل من شفتيها وتبتسم. أما الرجل المسن وحرفته كاتب حسابات - وهو يسكن في الطابق الأول، وينتقل كل يوم أحد في أرجاء شقته بملابسه الداخلية - فيتلقى رسائل من أخيه، الذي يعمل كذلك ككاتب حسابات، يكتب كل منهما للآخر حول المشاكل التي يتعرضان لها في مهنتهما. أما تلك المرأة العجوز المتأنقة، فتتلقى رسائل من ابنها الذي يؤدي الخدمة العسكرية، لقد توقف بصرها عن الرؤية، وأنا أقرأ لها رسائلها، تبكي المرأة العجوز، عندما تقدم لي صورة ابنها الفوتوغرافية لأشاهدها، إنه فتى كبير وجميل في آن واحد، تشعر المرأة العجوز بالأسف الكبير، لأنهم في الجيش قد قصوا "شعر" ابنها، وهي لا تحتفظ به، فهي تحتفظ في مكان ما بشعر ابنها المقصوص منذ أن كان طفلا!.

لم يكتب أحد رسالة لي. تساءلت:

- هل جاءني شيء اليوم؟

- كلا - أجابني موزع البريد - لم يكن ثمة رسالة إليك اليوم، قد تأتي إليك رسالة غدا يا سيدي. عليك أن تنتظر.

لاحظت في نهاية الأمر، أن موزع البريد يغيب عن مرمى بصري، يختفي عني، لا ينظر في عيني مباشرة، يودعني سريعا، يجيب عن أسئلتي باقتضاب. لم أعرف السبب. كنت أشعر بالقلق وعدم الارتياح، فقد كان موزع البريد الشخص الوحيد الذي بمقدوره يوما ما، أن يحمل لي مع رسائله بارقة الأمل.

لم أعرف السبب الذي جعلني أشعر بالخوف من أن أنظر إلى وجهه، فهمت ذلك فيما بعد، عندما أصغيت - عن غير قصد - إلى حوار دار بينه وبين سيدة ما، قال موزع البريد:

- لا أستطيع أن أذهب إلى هذا الرجل، إنه دائما ينتظر رسالة ما. إنني حتى لا أحمل إليه بارقة أمل. أتعرفين يا سيدتي ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم يأت الإنسان بأمل لإنسان؟ إن هذا لأسوأ له من أن يكون سببا في فقدان بصر الآخر أو قتله. إنني أعرف أنه ينتظر هذا الأمل، وبالتحديد ينتظر منى هذا! لا أستطيع التحدث إليه، أشعر أنا نفسي بأنه ليس من اللازم لي أن أحيا. ما الذي تعنيه حياة إنسان إذا لم يكن بمقدوره أن يمنح أملا لأناس آخرين؟

بعد بضعة أيام، أتى موزع البريد برسالة لي. في هذا اليوم جاء إلينا فوق دراجته على عجل، صاح بي من على بعد، أزاح الآخرين عن طريقه في نفاد صبر، وأعطاني رسالة. أخرج من حقيبة رسائله زجاجة نبيذ، منحني إياها قائلا:

- احتفظ بهذه الزجاجة يا سيدي! لقد اشتريت هذا النبيذ، وقلت لنفسي، إننا سنشرب معا هذه الزجاجة عندما تتلقى رسالتك. فور انتهائي من عملي سآتي إليك، ولنحتسها معا. من المؤكد أنه نبيذ جيد، نبيذ معتق. لماذا تبكي يا سيدي؟

- يا للجحيم! - صرخت قائلا - يا للجحيم! ألا تعرف يا سيدي، أنه دائما ينتظر الإنسان رسالة ما؟ فتحت الظرف، نظرت طويلا نحو سطور الحروف وهي تتراقص أمام عيني، حتى هدأت واستقرت لتمنحني معنى مفهوما:

"لا تكن سببا في انقطاع فقرات سلسلة السعادة - قرأت - اكتب هذه الرسالة من عشر نسخ، وأرسلها إلى معارفك. ضع "جروشين" في كل ظرف. ولا تكن سببا في انقطاع فقرات سلسلة السعادة!...".

سقطت يدي، ونظرت نظرة ثاقبة جامدة نحو موزع البريد.

- خلاصة القول، أنك يا سيدي قد تلقيت رسالتك - استطرد قائلا - هذا هو أهم شيء. سآتي إليك فور انتهائي من عملي.

ركب دراجته المتهالكة، واختفى عن مرمى بصري رويدا رويدا...!