نيبال من وادي كتماندو إلى قمة إفرست: الصعود إلى المطهر

نيبال من وادي كتماندو إلى قمة إفرست: الصعود إلى المطهر

تصوير: سليمان حيدر

كانت الدهشة عنواناً لرؤانا في وادي كتماندو، حيث المعابد بعدد البيوت، والأساطير وراء كل شيء، والاحتفالات والموسيقى لا يتركان شارعا ولا ميداناً إلا وملآه بالصخب. لكننا عندما صعدنا إلى ارتفاع ثلاثين ألف قدم عندما لنحدق مبهورين ومذهولين في أعلى قمة عند سقف العالم، انقلبت رؤانا، وصرنا مدهوشين من سابق الدهشة.

هل يمكن أن نكون في نيبال ولا نرى قمة إفرست؟ لم يكن ذلك ممكناً، ولم يكن ممكناً أيضاً أن نتسلق إلى هناك بأجسادنا المتعبة، ووقتنا القليل، وتجهيزاتنا التي لا تسمح، لكن إنجازات العصر أسعفتنا، وقدمت لنا خيمة نضربها في السماء ونتعلق، لنحدق ما شئنا في القمة المستحيلة وبقية قمم الهملايا التي تضم في أفق نيبال ثماني من أعلى عشر قمم في العالم، وهو منظر رهيب الجلال، دفعنا لأجله آخر ما معنا من نقود، ولو خيرنا ثانية، وثالثة، ورابعة ... إلى مالا نهاية، لاخترنا أن نصعد ولو ببطون خاوية، فثمة شيء هناك لا يضارعه أي شيء على سطح الأرض، ولا مبالغة في ذلك لمن بلغ نهاية الرحلة، أما من لم يخضها، فلا سبيل إلى محاولة إقناعه، إلا بالعودة إلى البدء ... فلنعد.

في مطار دلهي، كان لابد من تقديم بعض الروبيات ، للتأكد من الحصول على مقعد في الجانب الأيسر من الطائرة، فالاطلال من نوافذ هذا الجانب في الرحلة النهارية ( دلهي- كتماندو) يتيح بعض الإلمام بتضاريس نيبال، وهي مدهشة، حيث نرى- تباعاً- أرض التيراي المنخفضة متعددة الألوان، وتلال السيوليك المكسوة بغابات الأشجار الخشبية، ومدارج منحدرات المهابهارات، والأخاديد العميقة التي تنحدر فيها أنهار الهملايا الصاخبة في مواسم الفيضان، ثم تتوالى طبقات وراء طبقات التلال المقعية عند أقدام سلسلة جبال الهملايا، فتزداد ألوانها زرقة مع الابتعاد، وفي أقصى الأفق الشمالي وراء ذلك كله تحلق ذرى الهملايا التي لا تصدق، متألقة بأنصع بياض مضيء يمكن مشاهدته تحت ضوء الشمس وفي زرقة السماء العالية، بينما نحن على مبعدة خمسين ميلاً، فكيف تكون عند الاقتراب؟

الطائرة لا تخفض ارتفاعها بتدرج معتاد، بل تبدو كأنها تهبط في هوة تحدق بها جبال صخرية سمراء تتماهى في هواء ضبابي أزرق، وفي القاع المعرق بالأخاديد تنبسط كتماندو فوق هضبة خضراء محفوفة بالغابات.

تتلاشى رومانسية الجو سريعاً بعد أن تحط الطائرة على المدرج ونغادر مبنى المطار البسيط، فنشق زحام البشر النحاف السمر رقاق الحال في الساحة الخارجية، ثم نهبط ونصعد متقافزين بسيارة تاكسي بائسة في شوارع معتورة تعبق بالغبار، تطل علينا معابد متربة سقوفها القرميد، وبيوت رقشت الطحالب الداكنة جدرانها، نبصر بين الحين والحين أحواضاً كبيرة مكعبة تغوص في الأرض، مبطنة الجدران بالآجر ومتدرجة الهبوط، بمصاطب موصولة بدرج من الآجر ذاته، وفي قيعانها مياه راكدة مغطاة السطح بطبقة كثيفة من الطحالب الخضراء، سألت السائق، فقال إنها "خزانات مياه ... للاستحمام والغسيل، وأحيانا للشرب"، فمكثت صامتاً حتى استراحت أجسادنا في الفندق المتواضع رغم نجومه العديدة ! فنجوم كتماندو تنتمي إلى سماء القرون الوسطى، رغم وقوعها عند سقف العالم، فربع مساحة نيبال، البالغة أكثر من 145 ألف كيلو متر مربع، تقع على ارتفاع أكثر من 3000 متر، وخط الثلوج يبدأ عند 5000 متر، ومن ثم فإن تبايناً بيئياً هائلاً يمكن ملاحظته في مساحة صغيرة، يبدأ من الثلوج الأبدية عند قمم الجبال، ويهبط نحو أشجار المناطق الباردة، فمصاطب المحاصيل الآسيوية، ولا تعدم أرض نيبال وجود الغابات المدارية على مدارج تضاريسها، وبرغم أن ما يسقط علي تيبال من أمطار موسمية يعادل ثاني أكبر معدل لهطول الأمطار في العالم فإن قلبها- الممثل بوادي كتماندو- يكاد يموت من العطش، وهو مما لاحظناه مع أول جولة لنا في كتماندو العاصمة.

دخان ...دخان ... دخان

طلبنا من مسئولة مكتب السياحة استئجار سيارة بسائق يعرف الإنجليزية ولديه خبرة جيدة بملامح كتماندو المهمة، وبعد عشرين دقيقة حضرت السيارة والسائق الدليل، كان اسمه "كيران" وعمره ثلاثون سنة، وإن كانت النحافة والسمرة تبديه أصغر من ذك.

كان لابد أن نخترق منطقة (ثاميل) المزدحمة ذات الشوارع الرفيعة المتعرجة، وكانت أعجوبة أن ننجح- بين أرتال عربات الريكشو وأسراب السيارات وأمواج البشر- في عبور الشوارع والمفارق بأقل قدر من الانتظار، وبأكبر درجة من براعة المناورة.

منطقة(ثاميل) هي غابة الفنادق، ومقصد السياح، وكانت من قبل (جنة) الهيبز الذين لم يبق منهم إلا القليل، بعد أن ضيقت عليهم الحكومة النيبالية الخناق، وتجاوزهم الزمن، كانت نيبال وكتماندو تحديداً، بقعة جذب لهم لا تقاوم، فزحفت عليها جحافلهم من لندن وباريس وسان فرانسيسكو، وكل مكان وصلت إليه صرعتهم المتمردة آنذاك، فكتماندو كانت تقدم لهم كل ما يحلمون به، أو يتوهمونه، الفضاء (الروحي) الأسطوري في الهندوسية الشيفية (نسبة إلى شيفا المدمر أو المتمرد متعدد الوجوه) وبوذيه المهايانا (المتسامحة مفتوحة الحدود) والأرواحية (التى تقدس الروح حتى في الجر والحجر)، والتانترية (التي تخلط طقوس الروح بشهوات الجسد على درب الخلاص)، ذلك إضافة إلى الجو المعتدل، والحياة الرخيصة، والناس الطيبين، وأهم من ذلك كله- للهيبز- الحشيش الذي كان ينمو بريا على مصاطب الجبال، وكان يباع علناً في حوانيت مرخص لها بذلك.

كانوا يأتون ملتحين أو حليقين، بشعور سائبة، وحلقان في آذانهم وأنوفهم، وعقود خرزية في أعناقهم وسلاسل أو أساور معدنية في معاصمهم، أما ملابسهم فهي أقل القليل، وكانوا يستمرئون المشي حفاة وأحياناً يستعيرون خلع الرهبان زعفرانية اللون لتسترهم، وفي أحيان أخرى، يتزيون بزي الحداد الهندوسي الأبيض.

لقد ذهبوا وبقيت بعض آثارهم في حي (ثاميل) الذي طلبت من سائقنا "كيران" أن يتمهل ويمعن في الدوران داخل تلافيفه، في شارع كان يسمى شارع "النزوات" لا تزال بعض الحوانيت تعلق شعار الهيبز "الحب والسلام" منسوجاً أو مطبوعاً على لافتات من الحرير النيبالي، وأغنيات تلك الحقبة الهيبية تتصاعد من بعض الأركان"لا تهملني"،" نعم...نعم"،"العيون الجوعى"، (يا قمر أغسطس"، "دخان دخان دخان"، لكن الدخان الأزرق لم يعد يتصاعد بصحبة الموسيقى الصاخبة،فقط ثمة دكاكين لبيع الكتب القديمة من آثار ذلك الزمن الذي تلاشى، ويقال إن الملك "بيرندرا" وصل استياؤه من جحافل الهيبز إلى اعتبارهم "وباء"، وسارعت السلطات عام 1975 إلى تجريم تعاطي وبيع الحشي، وإلغاء تأشيرات إقامة ودخول الهيبز، وتم ترحيل الكثير منهم خارج البلاد ولو على نفقة الحكومة النيبالية الفقيرة، وكان ذلك بلا جلبة، وبلا استئصال جماعي، بل في صمت وبتدرج متسارع حتى أنهم تلاشوا كالدخان الذي كانوا ينفثونه ويغنون له، ولقد رأينا في المطار أن الإجراءات الوقائية مازالت مستمرة لقطع الطريق على وباء فلول أشباه الهيبز، فالذين يرتدون الجينز المخرم واللائي يرتدين القليل على الصدور، يتم توقيفهم في المطار طويلاً قبل أن يتقرر مصير تأشيرة دخولهم مهما كانت جنسيات جوازات السفر التي يحملونها.

أنهار الرماد

"كيران"، سائقنا الدليل الذي شددنا عند طلبه أن يكون عارفاً بالإنجليزية وعارفاً بنقاط الجذب في كتماندو، لم يكن يعرف إلا جملة واحدة فهمناها بعد تكرار كثير، وبعد أن طلبنا منه إعادتها بالسرعة البطيئة، كلمة كلمة، فكانت:" في كتماندو ثلاثة أنهار: باجماتي، ومانوهارا، وهانوماتي".

وظلت هذه الجملة افتتاحية مرحة قبل الانطلاق إلى المكان الذي نعينه لكيران، وكان المكان الأول هو:"باشوباتي على نهر ياجماتي".

لم يكن السجع مقصوداً ، لكن المقصود هو معبد (الإله) شيفا على ضفاف ذلك النهر، ويسمى المعبد (باشوباتي ناث) اشتقاقاً من إحدى صفات شيفا وهي "باشوباتي"التي تعني (إله القطعان)! فشيفا لدى الهندوس الذين يشكلون الأغلبية الدينية في نيبال هو (إله التكوين) لأنه (مدمر) و (خالق) في الوقت ذاته، لأنه إذ يدمر القديم ينشيء الجديد، ولعل هذا هو المعنى الذي جذب هيبز الغرب إليه في تمردهم على (شكل) مجتمعاتهم الغربية، أما في وادي كتماندو، فهو أكثر (آلهة) الهندوس رهبة وأكثر من يطلبون عونه! وهو يجسد في صورة إنسان نحيف عار، رقبته زرقاء، وله خمسة وجوه، وأربع أذرع، وثلاث عيون! يحمل في إحدى أياديه رمحاً ثلاثي الشعب (رمزاً للتنوير)، وفي الأيادي الأخرى : سيفاً، وقوساً، وصولجاناً تتوجه جمجمة، وغالباً ما تصحب صوره وتماثيله بصور وتماثيل ولده ومساعدة جانيش (الإله) ذي رأس الفيل.

انطلقنا إلى (باشوباتي ناث) التي تقع على مسافة خمسة كيلومترات شرقي العاصمة كتماندو، وسلكنا طريق (الحجاج) الذي يربط جغرافياً ورمزياً بين مكان الملك ومكانة شيفا، خلفنا القصر الأبيض المتواضع والفسيحة حدائقه وراءنا، وانطلقنا صعوداً وهبوطاً في الشوارع الضيقة الملتوية بين بيوت ضئيلة وجدران يسودها فطر الرطوبة، عبرنا جسراً حديدياً صدئاً فوق نهير يابس ووصلنا إلى مفرق على جانب منه ثمة عرائش يستظل تحتها (الحجاج) ووراءها فناء داخلي واسع مخصص للموتى من البقرات (المقدسات) أوقف "كيران" السيارة وترجلنا لنجتاز طريقاً ترابياً بين تلة غبراء العشب والأشجار وصف من الأكشاك الخشبية يمتد أمامها وحتى نهاية الطريق صف من المناضد تبيع المصنوعات اليدوية للسياح والزهور والسكاكر والمسابح للمتعبدين.

(الأكشاك) كانت مرتفعة على حافة ممشى خشبي كشرفة ممتدة صعدنا إليها، ثمة جماعة من النساء أو الرجال في كل (كشك) في حالة عكوف على ما يبدعونه من مطرزات أو عرائس ملونة أو لوحات (دينية)، وانخرط سليمان حيدر في تصوير الوجوه، إذ كانت الوجوه لافتة بالفعل وهو مغرم بتصوير (البورتريهات) وسبقته أنا مستكشفاً على مهل، وبينما كنت أمعن في فنان من فناني هذه الأكشاك مستغرق في الرسم بإصبعين لم يكن في يده غيرهما، وهو منكفيء على لوحته لا يرفع رأسه، انتبه داخلي الطبيب وهمس بفزع: "جذام"، فسارعت بالانسحاب وتذكرت الأطراف المتآكلة والملامح المتساقطة في وجوه معظم فناني هذه الأكواخ الخشبية، وهرولت باتجاه سليمان حيدر أحذره أن ينتهي فوراً من التصوير لنبتعد، وعندما ابتعدنا وهو يتساءل مدهوشاً عن الأمر، رددت على مسامعه :"فر من المجذوم فرارك من الأسد"، ومن بعيد، قرأنا فوق الأكشاك لافتة باللغتين النيبالية والإنجليزية، تقول إن المنشأة مشروع لتشغيل ومساعدة المصابين بالجذام وأسرهم.

وكان ذلك مدخلاً رمادياً مقبضاً لمشاهد أكثر رمادية وإقباضاً في (باشوباتي ناث).

وبشوباتي ناث ليست معبداً واحداً، بل هي مجمع (مقدس) يتكون من سلسلة من المعابد ذات السقوف الحديدية الصدئة تتحلق حول المعبد الرئيسي العالي بمظلاته القرميدية، ولا يسمح لغير الهندوس بدخول هذه المعابد التي تعتبر مزارات (للحج) يقف عند عتباتها وأبوابها حراس مسلحون.

نهر بجماتي الذي يعتبره الهندوس النيباليون مقدساً يشق المكان، على ضفته الغربية مجموعة المعابد وأمامها على حافة النهر مجموعة أبنية حمراء منطفئة الاحمرار وقميئة، تواجه مصاطب مبنية على النهر مباشرة، لإحراق الموتي، وهي تسمى (غات).

أما الضفة الشرقية، فهي ربوة تسمى كاليش بنيت على مدارجها في مواجهة النهر سلسلة من الصوامع المخروطية البيضاء ذت القمم المزخرفة، وكل طابق من الصوامع يحف به ممشى يحاذي النهر ويطل عليه، أما القمة، فهي غابة مشجرة وممشاها المطل على النهر يشكل شرفة تطل على (بانوراما) المكان كله.

ثمة جسران يربطان بين الضفتين طول كل منهما أمتار قليلة بعرض النهر محدود المجرى، وعند مدخل الجسر الأقصى يصطف بائعو الحلوى والزهور الصفراء، فالعبور يقود إلى ضفة المعابد والدفن حرقاً.

شققنا زحام بائعي الزهور إلى الضفة الأخرى، وكان هناك دخان يتصاعد من بقايا نيران إحدى المصاطب حيث يتلاشى في الفحم والرماد إنسان، بينما كانت تعد مصطبة تالية لاستقبال ميت جديد.

هبطنا إلى الممشى السفلي بين غرف الانتظار ومصاطب الحرق على ضفة النهر، في إحدى الغرف التي تشبه زنزانة حمراء ببوابة من القضبان الحديدية كان أهل المتوفي يقتعدون (دكة) خشبية لصق الحائط ويطرقون في عتمة ووجوم بينما بقايا المتوفى المتفحمة يقلبها في الجمر الرجل القيم على الإحراق والذي يرتدى أسمالاً بائسة و(برفش) حديدي صدىء كان يقلب المحرقة التي انكمشت واختزلت إلى رماد، وكتل متفحمة وبعض الجمر، ويدفع بالرماد والفحم إلى مياه النهر (المقدس) تحت مصطبة الحرق مباشرة ، وكان النهر بلون الفحم والرماد، أسود متسخاً والماء القليل الذي يجرى فيه ينحدر في مجرى وسخ بين ركام من الأوحال السوداء تملأ المجرى.

وعلى مسافة قريبة كانت هناك امرأة تخوض حتى وسطها في الماء، تجمع كتل الفحم الطافية وتعبئها في جوال تركته على الشاطيء، اقتربت منها ففزعت إذ إن القطع المتفحمة التي كانت تجمعها ليعاد بيعها كوقود في المدينة لم يكن ممكناً التيقن مما إذا كانت بقايا خشب الحريق أم قطعاً من جسد المحروق.

اتجهنا إلى المصطبة الأخرى التي يجري تجهيزها لإحراق ميت لم يصل بعد، وكان (الدفان) يرتب خشب الحرق بتؤدة وفي نسق معين: صف بالطول يعلوه صف بالعرض حتى تتكون منصة أو سرير عال من الخشب يسجى عليه الميت وتبدأ طقوس (الدفن حرقاً)، وفي انتظار وصول الميت، كان هناك وقت لأتقصي (الحكاية)، من أولها، أي من نهاية حياة إنسان هندوسي من نيبال، وهي حكاية في بعض جوانبها مثيرة.

تحدث الوفاة فيوضع قنديل زيت إلى جوار الجثة حتى لا تتسلل روح هائمة لتتقمص جسد الميت، ويسجى الجسد على (مكان نظيف) أى ممسوح بروث بقرة (مقدسة) ! وبجوار الجثة التي تأخذ اتجاه الشمال- الجنوب، توضع حزمة من نبات الماء(المقدس) في وعاء به ماء (مقدس) من نهر (مقدس)، ويحشى الفم بحفنة من أوراق هذا النبات حتى لا يستدرج من فمه إلى الجحيم.

تتلى بصوت مرتفع مقاطع من ملحمة (الرمايانا) ليسمعها الميت، ويوصي الأهل ألا يسفروا عن حزنهم بصراخ أو بغيره، توضع قطعة من الحديد أو سلاح ما إلى جوار الجثة حتى لا تدخل روح خبيثة (بريتا) إلى الجسد الذي يغطى بثوب حريرى أصفر مطبوع عليه اسم (الإله) راما، وتوزع على المعزين كرات من الأرز المطبوخ بزبد ولبن، ثم يحمل الميت على محفة من بوص البامبو الأخضر الذي يعتبر نباتاً مقدساً، ويراعى أن تكون قدما الميت في المقدمة ورأسه في الخلف، تؤدى صلاة موجزة تسمى (بوجا) ويخرج الميت من البيت عبر فتحه في الجدار تغلق وراءه حتى لا تعود روحه إلى البيت، ثم يحمل المحفة أبناء أو أقارب المتوفي ويسيرون إلى المحرقة في موكب تتقدمه الموسيقى ويهتف خلاله المشيعون (رامانام ساتيا هاي)، ومعناها: ما من اسم حقيقي غير اسم الرب، وأثناء الطريق، يحذر اقتراب الحيوانات من الموكب، ويحظر نقل الجثة في زورق أو العبور على جسر فوق النهر، كما أن المشيعين ينبغي ألا يتحدثوا معاً، وفيما الجنازة تعبر الشوارع يطلق أهل الميت حيواناً أو طائراً للحرية تضحية عن روح الميت، وقبل الوصول إلى مكان الحرق (غات) ، (يطهر) المكان بماء النهر وروث البقر! ثم تقام عليه منصة الحرق من سبعة طوابق من خشب الأشجار طابق طولي وطابق عرضي فوقه والعدد يمثل الأسباب السبعة التي تقود إلى النجاة، أما الخشب، فهو من أشجار المانجو والصندل، ويكتفي الفقراء بشظايا منه، تحمل الجثة عن المحفة وتسجى على لوح حجري مال إلى الماء حتى تبتل قدما الميت من مياه النهر (المقدس) التماساً للانعتاق، ثم تنقل الجثة إلى منصة الحرق مع توجيه الرأس جنوباً حيث يأوي (إله) الموت (ياما).

وتجلب كل ملابس الميت وأدواته التي استعملها وتوضع على منصة الحرق معه، (يتطهر) أبناء الميت وأقرب أقاربه في ماء النهر ويرتدون أزراً بيضاء تعقد حول خصورهم، تشعل نار صغيرة من خشب عاطر على جانب المنصة، ويكشف وجه الميت حيث ينبغي أن يكون موضعاً للنار الأولى، ويكون الابن الأكبر الذي يتعين عليه حلق راسه تعبيراً عن الحداد هو المنوط به إشعال هذه النار في وجه أبيه! ولا حول ولا قوة إلا بالله!

كانت مناظر قاسية لنا، بينما أصحابها يؤدونها بتقبل يشبه التبتل، وفيما كانت النار تؤجج (والدفان) يسعرها، آثرنا أن نبتعد مولين ظهورنا للمشهد المقبض الأليم، وميممين شطر ربوة كاليش.

أدرنا ظهورنا للمدفونين في النار، فوجدنا في طريقنا الأحياء في التراب، وبعض القردة!

بين الأشجار، يصعد درج حجري نحو القمة، وعلى الأشجار كاتت القردة (المقدسة) تتقافز بحرية وتهبط لتتمشى بين الناس في ثقة، وعلى أسوار الطريق الخفيضة، وعلى أبواب الصوامع، رحنا نلتقي كثرة من (اليوجيين)، (نساكا)، هندوسا شديدي النحافة، سائبي الشعور، طلوا أجسادهم العارية بخليط من التراب والجير وجبهوا رءوسهم بعلامات (التيكا) الحمراء، وما كنا نقترب من أحدهم حتى يسارع بتحيتنا على طريقته: يلف ساقه حول رقبته أو يطوي جسده كله كأنها لفاقة من مطاط، ثم بمد يده أو وعاءه طالباً العطاء!

عند قمة الربوة، جلسنا على أحد المقاعد الحديدية المثبتة في الأرض وراء سور حجري واطيء، فكأننا في شرفة تنكشف عبرها باشوباتي ناث، من أول النهر الذي يأتي من التلال عن يميننا إلى آفاقه المنحدرة في البعيد، نهر غائض كأنه سبخة متعفنة، يمتلىء بتراب الأرض ورماد الموتى، وتتصاعد روائح عفونته حتى أنوفنا عند قمة التل، ومع ذلك، نرى في آفاقه نساء (يتطهرن) في مائه الحسير بعد كل دورة حيض، وقبل ارتداء (الساري) الجديد، وثمة (حجاج) يغسلون في غياضه السوداء أجسامهم وذنوبهم، أما طباعو القماش الملون، فإنهم كانوا (يباركون) قوالب الطباعة الخشبية بغمسها في غياض النهر، ثم في أوعية ألوانهم الزاهية التي يطبعونها على قطع القماش الأبيض وينشرونها على ضفاف نهر الرماد!

معابد للإناث ... مجازر للذكور

في صباح باكر، رحنا نخترق تلافيف كتماندو، ونعبر جسورها لنلحق بمهرجان للدم سمعنا وقرأنا أنه يحدث- صباحي الجمعة والسبت- خارج العاصمة في معبديسمى (داكشين كالي) يقع عند نهاية الطرق الموصلة إلى جنوب وادي كتماندو، واسم المعبد نفسه يشير إلى هذا البعد الجغرافي، حيث (داكشين كالي)، تعني: كالي الجنوبية، وكالي هي (الإلهة السوداء) إحدى وجوه زوجات (الإله)، شيفا متعدد الوجوه والتقمصات، واللائي تقدر أسماؤهن وأشكالهن بالآلاف تبعاً لعدد أسماء وأشكال شيفا، وتجمعهن جميعاً زمرة (ماها ديفي) أي (اٌلإلهات)، ومن بينهن جميعاً تتميز كالي بأنها :( المظلمة كالليل، والمرعبة عديدة النعوت، والتي- رغم ذلك- تمنح من رحمها هبة الولادة لكل الأشياء)! ومع ذلك- فهى تصور دائماً ببطن خالية لا تمتلىء، كناية عن عطشها الذي لا يرتوى للدم، دم العفاريت، والحيوانات، والبشر! ولهذا، ظل تقديم الأضاحي والقرابين البشرية عنصراً من عناصر (العبادة) في نيبال حتى حظر رسمياً عام1780م ومن بعد تم حظره في الهند عام 1835م.

كانت العاصمة في ذلك الصباح الباكر أصفى مما عرفناها في النهارات السابقة، وشوارعها أوسع، وفي طرقاتها تتهادى الأبقار (المقدسة) ويسرع القرويون قادمين من الأطراف بأحمالهم الزهيدة من الخضر والفاكهة والدجاج باتجاه أسواق المدينة، أما اللافت، فهو هؤلاء الذين كانوا لا ينقطعون عن التدفق من الشوارع الجانبية مسرعين لتقديم هباتهم المسماة (بوجا) لآلهتهم، فبين أياديهم السمراء النحيلة كانت أطباق من نحاس بها بعض الأرز ومسحوق أحمر وبتلات زهور صفراء، مهيأة جميعاً لنثرها على أقدام (الآلهة)، سواء (آلهة) الأكثرية الهندوسية أو الأقلية البوذية أو حتى معبودات (الأرواحيين) الذين يعتقدون بقدسية الروح في كل شيء فلا تعدم رؤية أحدهم (يصلي) في الصباح الباكر.. لشجرة.

بدت مدينة كتماندو ونحن نخرج منها رقيقة وقابلة لتنامي الحياة، لكن الإحساس بترابها المهيمن على الأرض والبيوت والأفق لم ينقطع، وكانت رائحة الأنهار المحتضرة من شدة العطش تضج بالعفونة، فتصل إلى أنوفنا وتضغط على الصدور، وكنت أتعجل الخروج إلى القرى لعل الصورة تختلف، لكن لعنة العطش ظلت ماثلة رغم الجبال المغطاة بالغابات والقرى القائمة على مدارج التلال حيث سويت المصاطب لزراعة الشاى والأرز.

إحساس مهيمن بعوز الماء تنطق به ملابس الناس وجلودهم وجفاف الأرض، رغم أن الماء يسقط على هذاالوادي بثاني أغزر معدل للهطول في العالم، لكن أمطار الرياح الموسمية الغزيرة تتحول سريعاً وهي تنحدر على أقدام جبال الهملايا بميول حادة وارتفاعات تقاس بآلاف الأمتار إلى سيول جارفة، تكتسح الأنهار النحيلة وتفيض على الضفاف، لكنها سرعان ما تتلاشى ذاهبة إلى الأنهار العظمى في شبه القارة لتروي الهند وتغرق بنجلاديش، وتموت نيبال من العطش في أعقاب موسم الأمطار وحتى حلول الموسم الجديد، فخزانات المياه الأرضية سرعان ما تنضب والسدود عصية ومكلفة في بلد فقير ووسط تضاريس قاسية.

إنها مفارقة كاللعنة، أصابت عنصر الماء، ولعلها ماثلة في اللاوعي وراء إسالة الدماء التي كنا نسعى بين الجبال وفوق الأخاديد العميقة المرعبة إلى واد من وديان (كرنفالاتها) المخضبة.

مكثنا نصعد في طرق جبلية وعرة وخطرة، ونمر بقرى فقيرة، ونخلف تحتنا ودياناً مليئة بالضباب، حتى شعرنا بضيق انفاسنا، فقد كنا نتجاوز ارتفاع الألفي متر، ثم وجدنا الطريق تهبط بنا حتى كان المستقر في بطن واد بين التلال، وأوقفنا السيارة في ساحة تتكاثر عليها وسائل نقل شتى من الريكشو حتى الباصات الهندسة المتهرئة التي تنوء بأحمالها البشرية المقترنة بقرابينها وأضاحيها من حيوانات وطيور.

مشينا في طريق ترابية بين الأشجار تزدحم بأمواج البشر الآتية لتقديم قرابينهم، كان باعة الديكة يتقاطرون رابطين الديكة من أرجلها في جذوع الشجار إلى جوارهم أو حاشرينها في أقفاص تكشف عن بياض الريش وحمرة الأعراف، وهنا وهناك كان باعة الأطعمة والحلوى وجوز الهند والماء والمسابح والتماثيل النحاسية الصغيرة للآلهة الهندوسية والبوذية أيضاً.

هبطنا مع الجموع درجاً حجرياً إلى عمق جديد يشقه نهير صغير شبه يابس يمر به ممشى مبلط ومسيج بسور حديدى أخضر، ويعتلي النهر عند انحنائه جسر يوصل بين الممشى الطويل ودرج يهبط إلى ساحة الذبح التي تحف بها المباخر والشموع،بينما في سماء المكان يحلق صخب تراتيل دينية وموسيقي(روحانية) مضجة.

طابور طويل طويل، يبدأ ولا ينتهي، وفي الطابور يمضي حاملو الأضاحي والنذور وجلهم من أفقر الفقراء، وما يقدمونه للذبح ينبغي أن يكون حيواناً أو طائراً ذكراً غير مخصي، كان بعضهم يمسك حبلاً ربط فيه ذكر ماعز صغيرا، وبعضهم يحمل سلالاً بها جوزة هند وزهور أو بعض السكاكر، وأكثرهم يحمل ديكة، رجال ونساء وأطفال، يصلون إلى بوابة المذبح مقدمين عطاياهم فيباركهم الكهنة ببخور وترانيم وعلامة حمراء على جبينهم، بينما ضجيج الموسيقي والغناء لا ينقطع، ورشاش دم الذبائح ينتشر في سماء المكان، ويسيل على بلاط الأرض لتخوض فيه الأقدام العارية، فهم يعبرون ساحة الذبح حفاة! وأكثر الآتين زوجات وأزواج صغار مع أول أطفالهم، لعلهم ينذورن للطفل، وبعد الوفاء بالنذر، يتوجهون إلى معبدكالي السوداء في ظهر ساحة الدم!

تقول السطورة، إن كالي ذاتها أوصت الملك (مالا) في القرن 14 أن يبني لها هذا المعبدفي هذا المكان الغاطس بين الجبال، وفي داخل المعبد المزينة جدرانه بنقوش حيات نحاسية، يوجد تمثال لكالي ذات الأذرع الست من الصخر الأسود تمسك برجل من البشر، ويجاورها جانيش ذو رأس الفيل.

نمضي في سبيل البشر خارجين وصاعدين إلى التلة المعشبة لنعود من حيث أتينا، فنرتقي درجاً يقتعده (النساك) المتسولون وذوو العاهات، وعند أعلى الدرج، نلقي نظرة على المكان الغائص بين التلال، فنراه مغطساً للأقدام في دم الأضاحي، ونرى الأضاحي ذاتها بعد أن نالت (المباركة) تطبخ في مواقد من حطب الغابة على طول الطريق وبين الأشجار، ويقول مرافقنا وهو يشير إلى المكان: (كان الهيبز كثيرين هنا.. وهنا كان الحشيش يباع بكثرة، الآن صار الحشيش قليلاً،قليلا جداً)، فأعقب لاهثاً من تعب الصعود:

- نعم...نعم.

نظرة يا...كومارا

بين مدينتي (كتماندو)و (باتان) يرقد نهر (هانوماتي)، وفيهما ميدانان لهما اسم واحد هو (دوربار)، وهما مكانان لا ينبغي تفويت رؤيتهما، فهما- كما يوصفان- غابتان حقيقيتان للمعابد والقصور القديمة وساحتان (للأنتيكات) والعروض المدهشة، الاجتماعية والدينية والسياسية أيضاً، ففي ميدان دوربار بمدينة باتان شاهدنا لقاء جماهيريا للحزب الشيوعي النيبالي، ففي مملكة نيبال تكوين الأحزاب مسموح، والانتخابات الديمقراطية وسيلة لتشكيل الحكومة، ويالها من صورة: ففي الميدان العتيق الذي اعتبرته (اليونسكو) إحدى المحميات من تراث البشرية، بأبنية معابده العتيقة والقصر المحميات من تراث البشرية بأبنية معابدة العتيقة والقصر الملكي القديم، حيث الغبار يغطي الجدران المنقوشة ونوافذ الخشب المشغول والسقوف العديدة، المائلة، كانت هناك منصة تحت مظلة أحد المعابد، وعلى الجدران علقت اللافتات الثورية، وهنا وهناك كانت ترفرف الأعلام الحمراء ذات النجمات البروليتارية، وعلى المنصة جلس في وقار خطير قدامي (المناضيل) ذوو الشعر الأشيب إلى جوار شباب القادة في ثياب مقاتلي (الحرب الشعبية) المموهة والمجبهة البيريهات بالنجمات الحمراء وكأن المكان خارج الزمن، فالأبنية العتيقة تعود إلى قرون عدة خلت، والاجتماع (الجماهيري) له مذاق عقود عدة خلت أيضاً، وأحسست بأن وصف نيبال بأنها (القرون الوسطى تحت سقف العالم ) ليس نعتاً بلاغياً، بل هو تشخيص دقيق لحالة.

وما دمنا نتكلم عن إهمال عنصر الزمن، تعالوا نتغاضي عن فواصل الزمن، وننتقل من دوربار باتان إلى دوربار كتماندو كأننا نمتطي عفريتاً، والعفاريت- بالمناسبة- لها أسطورتها، بل ووقائعها أيضاً في نيبال، فالحديث عن وحش الثلوج الأشعر ذي القدم العملاقة، الهائم في ثنايا ثلوج جبال الهملايا، هو عقيدة، خاصة لدى قبائل (الشيرباس) من سكان أعالي الجبال.

في ميدان دوربار بكتماندو، نلمس حقاً وواقعاً، إنه غابة للمعابد العتيقة والقصور الغابرة، و(الآلهة) من كل نوع، ونيبال بعامة توشك أن تجسد لكل غاية (إلهاً) أو (إلهة)، فثمة إله لرعي الماشية هو (باشوباتي)، وثمة إله لشفاء الجروح هو (جانيش)، وهو أيضاً (إله) الأعراس، و(إله) تقوية الشخصية! أما (كالي) المرعبة فهي (إلهة) الولادة، و(شيفا مع سكاندا) هما (إلها) الحرب، و(ناسال) إله الرقص، و(بهيمسان) إله التجار!!

ومن أكثر ما أثار دهشتي من (آلهة) وادي كتماندو، إله (الحبر) الذي يصعد إليه التلاميذ حاملين دفاترهم وأقلامهم عند ذروة معبد (سويا مبوناث) البوذي لتنال أقلامهم ودفاترهم البركة على ارتفاع يقترب من ألقي متر فيما يمكنهم ملامسة السحب.

ولا يقل عن ذلك إدهاشاً (إله وجع الأسنان) المسمى (فايشا داف) الذي أوليته زيارة خاصة في معبده الواقع في جادة (إيكها نارايان) والذي يتميز بصغر حجمه وسقفيه المتواليين، حيث علقت أسفل أحدهما لوحة خشبية دقت فيها بتزاحم، رءوس على رءوس على رءوس آلاف المسامير، فليس على موجوع السن إلا أن يذهب إلي المعبد، ويدق مسماراً في اللوحة ليرتاح، ومع الأسف، لم تكن توجعني أسناني في نيبال، لهذا لم أختبر معجزات فايشا، لكنني لاحظت أن عيادات أطباء الأسنان الفقيرة الصغيرة تنتشر بكثرة حول المعبد!

كل هذه الآلهة، كانت رموزاً، ميتة، لهذا توقد فضولي لرؤية (إلهة) تسمى (كومارا ديفي) أى الإلهة الحية، رغم أنه لم يكن مسموحاً لي كأجنبي برؤيتها، إلا أنني رأيتها، وصورناها أيضاً !

بين مدرستين عصريتين في ركن من أركان ميدان دوربار بكتماندو، كان بيت (الإلهة الحية) كومارا ديفي، بناء عتيقاً ذا نوافذ وشرفات من الخشب المحفور بزخارف طواويس وتمائم يرجع إلى منتصف القرن 18، يحرسه أسدان ضاحكان من الجص الملون ويتراكم على قاعدتيهما عشرات الأطفال، يبيعون للسياح صور كومارا و(أنتيكات)، ومجموعات من نقود العالم المختلفة التي وصلت إلى أياديهم وأيادى المتسولين.

دخلنا إلى البيت منحنين، فالباب واطىء ويفضي إلى باب وراءه، واطىء أيضاً، لكننا نستقيم عند عبورنا إلى الفناء الداخلي الذي تطل عليه طوابق البيت بنوافذ مشغولة الأطر بخشب داكن ذي زخارف مركبة بديعة، وفي وسط الفناء كان ثمة شجرة مورقة، وجرة ضخمة من الفخار الأحمر وصندوق حديدى بلون أخضر وقفل كبير، لكن فتحة وضع النقود فيه ظلت فاغرة.

يعتقد النيبالون أن كومارا هي تقمص لـ(الإلهة العذراء) التي تعد وجهاً من الوجوه الاثنين وستين لبارفاتي شاكتي زوجة شيفا، وتقول الأسطورة إن الملك (مالا) تعود أن يلعب النرد مع الإلهة (تاليجو) التي ظهرت له في هيئة بشرية، وذات ليلة، اشتهاها وتحرش بها، فغضب (الإلهة) غضباً شديداً، وأخبرته أنها ذاهبة ولن تعود، فاستوحش الملك وظل يناديها نادماً أن تعود، فسامتحه وأنبأته أنها ستعود، ولكن متقمصة صورة عذراء صغيرة طاهرة! ومن هنا، جاءت الإلهة الحية (كوماري) التي تختار بدقة من بين البنات اللائي في عمر بين الرابعة والخامسة، من قبيلة (ساكيا) التي يعمل أبناؤها بصياغة الذهب والفضة، ولابد أن يكون جسدها نقياً من العيوب، وتتوافر به 32 علامة يعرفها كبار الكهنة، ومن ثم تخضع لاختبارات قاسية، فتؤخذ إلى مكان مظلم ليخوفها كهان يرتدون أقنعة مرعبة، وتلقي عليها رءوس الجواميس المقطوعة الدامية. ومن تصمد في هذا الاختبار وتبقى هادئة غير مروعة، تكون هي الإلهة الحية، وتخوض اختباراً أخيراً هو أن تستخرج حلي وثياب (الإلهة) السابقة عليها من بين أكداس مشابهة، وبعد هذا الاختبار، ينظر المنجمون إلى طالعها الذي ينبغي أن يتوافق مع طالع الملوك، وبهذا ترسم إلهة حية (كوماري) وتنقل في زي وحلي الكوماري إلي معبد(باهال) الذي اتخذ بيتاً لتلك (الإلهة) من قديم. وهناك تبقي (مقدسة) لا تغادر إلا لحضور احتفالات دينية معينة، محمولة على محفة مفروشة بالزهور، ولا يسمح بأن تلمس قدماها الأرض، وما أن تحيض أو تخرج من جسدها نقطة دم ولو عبر جرح صغير حتى تزول عنها القداسة، وتخرج من بيت (الإلهة) إلى بيتها (البشرى) حيث يسمح لها بأن تتزوج، لكن هيهات، فالنيباليون يعتقدون أن الإلهة السابقة عندما تصير زوجة لبشر، تجلب لزوجها سوء الطالع، ويكون الموت المبكر مصيره!

كانت الأسطورة تتلاعب في خيالي عندما وقفت في باحة (باهال) منتظراً إطلالة ( الإلهة الحية)، وانتابتني لحظة عبثية أخذت أنادي فيها بين ضحك وجد: "كوماري يا كوماري"..أطلي علي، فأنا قادم إليك من بعيد، بعيد جداً يا كوماري".

وفوجئت بامرأة عجوز تطل من نافذة في الطابق الثالث على يساري وتقول بإنجليزية مفككة: ضع نقوداً في الصندوق، وانظر هنا. وضعت النقود ونظرت إلى النافذة المواجهة للمدخل في الطابق الثالث، فأطلت كوماري، كطيف (مدندش) بالحرير الأحمر والذهب، طيف طفلة!

كررت المحاول، وحصلت على إطلالات أخرى من (الإلهة!)، كل واحدة بخمس روبيات نيبالية، أي ما يوازي بضعة قروش أو بضعة فلسات، أما الصورة، فكلفتنا دولارين!

خيمة في السماء

عندما يتحول الحلم المستحيل إلى واقع حي، ويكون- فوق ذلك- واقعاً أبهى من الحلم، فإن الكتابة ترتجف، ويصير التعبير عن كل ذلك نوعاً آخر من الحلم المستحيل، فلقد سكنني حلم رؤية قمة إفرست منذ أيام الطفولة القارئة، عندما استقر في وعي البشرية المعاصرة كلها، أن أعلى قمة في العالم هي قمة إفرست البالغ ارتفاعها ثمانية آلاف وثمانمائة وثمانية وأربعين متراً، ومن بعد أخذ حلم الطفل ينمو مع متابعة الكثير مما يرتبط بهذه القمة، التشكيك في تفوقها على سائر القمم، ثم التيقن من هذا التفوق بأحدث وسائل القياس في عصرنا، ثم قصص متسلقي الجبال الذين وصلوا إلي هذه القمة، وقصص الذين فشلوا في الوصول إليها، وقصص الذين ماتوا من أجلها، شغلني كثيراً التفكير في سيكولوجية هؤلاء جميعاً، وسحرني غموض اللغز المتعلق بإنسان الثلوج الأشعر، ذي القدم العملاقة الذي تدور حوله حكايات كثيرة متناقضة، أما الأساطير التي عثرت عليها في نيبال، فقد زادت من تعلقي بالحلم، ولم أكن أتصور أنه قابل للتحقيق، فلا أنا في عمر وصحة يسمحان لي بالانضمام إلى محاولات مغامري التسلق ذوي الإمكانات العالية، وليس أمامي كثير من الوقت أو المال أو الرغبة للوصول إلى تلك القمة على أكتاف أبناء قبائل الشيرباس النيباليين الذين اشتهروا بالعمل حمالين ومرشدين بصحبة مغامري التسلق الغربيين واليابانيين في جبال الهملايا.

كان علينا- سليمان حيدر وأنا- أن ندفع آخر ما معنا لننال ذلك، وبالشروط العالية التي طلبناها، فقد كان المطلوب ونحن نتفاوض مع وكيل إحدى شركات ( الطيران بين الجبال) بكتماندو، في إطار ما يسمى (التخييم الطائر)، أن تكون خيمتنا الطائرة مضروبة في السماء على ارتفاع ثلاثين ألف قدم لنعتلي قمة إفرست البالغ ارتفاعها ما يقارب هذا الارتفاع (وهو على وجه التحديد 29028 قدماً )، وإضافة إلي ذلك، كنت أطلب وقتاً معقولاً لتأمل المشهد ولإفساح فرصة التصوير أمام سليمان حيدر، ومن ثم قفزت تكاليف هذه المغامرة بعد اتفاقنا على تحقيق ما طلبناه- مع مجموعة من السياح اليابانيين- في طائرة حديثة من طراز Beach 1900D.

هل حقاً سنعتلي قمة إفرست؟

مكثت أسأل نفسي دون تصديق طوال اليومين السابقين على الإقلاع، وكانت قمم الهملايا شاغلي، وعلى رأسها قمة إفرست، التي تسمت بهذا الاسم عسفاً، فهي لدي النيبالين الذين يرونها من الجنوب: (ساجارماتا) ولدى أهل التبت الذين يطلون عليها من الشمال: (شومولونجما)، وما إفرست إلا اسم استعماري احتل الاسم الأصلي لهذه القمة أخذاً عن اسم قائد القوات البريطانية العاملة في الهند في أواخر القرن 19 الجنرال (جورج إفرست)، وهو احتلال لفظي في مظهرة، لكنه في جوهرة إزاحة لأبعاد روحية لدى سكان سفوح جبال الهملايا سواء من الهندوس أو البوذيين في نيبال والتبت على السواء، فحتى العام 1949 لم يكن مسموحاً للأجانب بتسلق أى من جبال الهملايا، فهذه الجبال مقدسة لدى البوذيين والهندوس معا، ويعتبرونها (موطناً للآلهة) ومرتقى لبلوغ (النور)، فهي المكان الذي اعتكف فيه بوذا حتى (تنور)، وهي (مملكة شيفا)، وثمة قمم تعتبر (مقدسة) بذاتها، فقمة (كابلاش) يصلي عند أقدامها الهندوس، لأنها منبع نهري الجانج واليامونا (المقدسين) وهي بما عليها من ثلوج بيضاء تشبه نهداً يفيض من قمته وعلي جوانبه الحليب.

تحولت مساعي التأمل والتنور مع هجوم متسلقي الجبال الغربيين على قمم الهملايا- خاصة قمة إفرست- إلى نوع من اسقاطات الجنون ورغبة في (قهر) القمم، وإن كان هذا ليس مطلقاً وتأكدت منه بعد الصعود.

كان صباحاً مشمساً مفعماً بالإثارة ذلك الذي توجهنا فيه إلي الطائرة التي ستحلق بنا فوق سلسلة جبال الهملايا من الجانب النيبالى، وتدور ثم تتوقف عند قمة إفرست معلقة في الهواء حيناً، لتكون كالخيمة المضروبة في السماء، نحتمي بداخلها من ندرة الهواء الذي يرق على هذا الارتفاع، ويوشك أن يتلاشى، ونحتمي من الصقيع الساحق، ونطل بأبصارنا، بل بما هو أعمق من الأبصار، إلى معجزة الخالق في ذرى كوكبنا.

انطلقت الطائرة نحو شمال كتماندو، وعبرنا فوق الجبال شفقية اللون، التي تحدق بالمدينة، كان الجو ضبابياً في مستوى السحب والجبال، تتعاقب كأمواج هائلة هادرة من دخان، مازلنا تحت مستوى الخمسة آلاف متر التي يبتدىء عندها صعود خط الثلوج، نصعد بتسارع فتتغير ألوان الجبال في تعاقبها، أخضر،يليه زيتوني داكن، فرمادي مائل إلى الزرقة، فبنفسجي في الأفق، وفوق كل ذلك تلوح القمم البيضاء الموشاة بالثلوج.

نعلو أكثر مقتربين من الثمانية آلاف متر ارتفاعاً، فيتلاشى العالم تحتنا، ولا يكون غير ضباب، فزرقة صافية، وفي هذه الزرقة تسمق قمم الهملايا كأنها جبال من بلور أبيض تطير في السماء، متألقة في ضوء الشمس، وما من شيء يشوب نقاء وجلال وصفاء الصورة، حتى النسور، لا تصعد إلى هذا الارتفاع، وتفتش العين في ثنايا الثلوج ودكنة الأخاديد عن خيمة شاردة لفريق من المتسلقين، لا شيء ،لا شيء إلا صفاء الزرقة اللانهائي، ونصوع البياض المضيء شبه المطلق، وها نحن ندور، وها هي قمة إفرست نحوم حولها ونصعد رويداً رويداً، إننا نرتقيها، ونتعلق، نحدق مذهولين، تشبه هرماً رمادياً سرمدياً موشى بالثلوج بين القمم الناصعة، أمعن، ثمة هالات من النور تحيط شفيقة خفيفة بقمة القمم، أتراه وهم روحي، أم زيغ بصري، أم ارتداد ضوء الشمس عن مرايا أصفي ثلوج الأرض؟ لا أدري، ولن أدري.

الذي أدريه الآن يقيناً، أن من يصعد إلى هذا المرتقى يوماً، لا يعود كما كان قبل الارتقاء، ويظل يهفو أبداً إلى هذا الارتقاء، لهذا لم أعد أرى في جنون متسلقي قمم الجبال جنوناً، بل هي رغبة مطلقة في الانعتاق من شقاء العالم الأرضي وملامسة مطلق النقاء الذي لم يمسسه البشر أو لم يلوثوه بعد.

تذكرت وادي كتماندو القابع علي معبدة أكثر من سبعة آلاف متر تحتتنا، حيث لا يمكننا أن نراه، تذكرت الأنهر المتعفنة، والآبار العطشى، وآفاق الغبار، والبشر الخائضين في دم السوائم، وضوضاء الطبول والمزامير، والأجساد النحيلة المنهكة، والأساطير، وأحسست بالشفقة، بل بالرثاء!

 

محمد المخزنجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





نيبال من وادي كتماند وإلى قمة إفرست





صورة لسلسلة قمم جبال الهيملايا مع ارتفاع يفوق 7000 متر، حيث نقترب من ملامسة سقف العالم





صورة لسلسلة قمم جبال الهيملايا مع ارتفاع يفوق 7000 متر، حيث نقترب من ملامسة سقف العالم





خارج معبدومنزل الإلهة الحية.. كومارا ديفي





من هذا الباب دلفنا ومن النافذة أطلت كومارا





مهرجان حزبي، أحمر، في بلد الأساطير





واكتملت لوحة الحفر





حتى التوابل تحرسها اسطورة (عيون بوذا)





ميدان دوربار ملتقى كل المتناقضات





خشب قديم وقش جديد والشغل نيبالي.. دائما





في بلد السيول الجارفة يعانون العطش





لم تبق إلا مياه الأعماق.. المرهقة





كل الغسيل والاغتسال.. في قاع الخزان اليابس





السادهو... نساك.. أم حواة؟





بقرة هندوسية في رحاب معبدبوذى





عيون بوذا... على قمة معبدستوبا





الديوك قرابين.. وإعتاقات لأخوة في التقمص!





رغم الفقر الشديد.. لا تنقطع طوابير التضحية





ونال البركة... علامة حمراء على الجبهة!





الزهور... عطايا وتبريكات في معبدالذبح





آخر ما بقي من جمر... وبقايا رماد إنسان





كيف يمكن أن تكون هذه السبخة نهراً مقدساً؟





ألوان على الوجه





ألوان على القماش





مشغل... أصحاء بجوار المجذومين





فولكلور غني وامكانات فقيرة في بلد فقير





طليعة موكب العرس مزيكا





العريس... بالألوان





في موكب العريس المهنئات وراء المهنئين





عرائس بارعة من شظايا خشب وخرق قماش





الطبيعة.. جبال خضراء وسهل عطشان





وجه نيبالي خليط ملامح من الهند والصين والتبت أيضاً