د. محمد برادة وسعيد الكفراوي

د. محمد برادة وسعيد الكفراوي

  • ترتبط بدايتي باكتشافات لا متناهية لأزمة مدينة فاس
  • خيبة الأمل في النضال جعلتني أعود إلى فسحة الإبداع

د. محمد برادة الناقد والروائي المغربي الكبير، واحد من الذين يمارسون الكتابة بدرجة من الوعي الصريح، حيث يرى برادة أن من يحايد الآن في واقعنا العربي القائم على الاحتمالات يقترب باختياره من سلطة القمع.

شارك محمد برادة بدور فعال فيما يسمى بالتحريك الثقافي عبر دوره الجماعي كأستاذ للأدب، ودوره النقدي في بناء الواقع الثقافي المغربي كرئيس لاتحاد الكتاب في فترة من أهم بدايات التكوين الحقيقي للثقافة والإبداع المغربيين.

ومنذ عاد، بعد انقضاء دراسته بالقاهرة 60/1961م، وبدء تدريسه لبعض نصوص الأدب الحديث بالجامعة، والرجل يواصل دوره المهم في إقامة ذلك التواصل الحميم بين الثقافة المغربية والمشرقية.

كما يعتبر محمد برادة أحد الذين نقلوا التدريس الجامعي من الاجتهاد الفردي إلى ما يسمى بالبحث العلمي القائم على جدل الثقافات. كما ساهم برادة بجدية في تطوير العملية الإبداعية بإسهاماته المهمة في كتابة الرواية الحديثة، كما أنه أحد المدافعين الكبار بالمغرب العربي عن اللغة العربية، وهو من المؤمنين بان الثقافة العربية ثقافة واحدة متجددة وقادرة على الإسهام في ثقافة العلم.

لمحمد برادة رواياتان: "لعبة النسيان" و"الضوء الهارب" والمجموعة القصصية "سلخ الجلد" وله قيد النشر روايته المهمة "مثل صيف لن يتكرر" وهي تجسيد إبداعي عن تجربته المصرية منذ الخمسينيات وحتى ملاحقة المتغيرات الأخيرة.

كما كتب في النقد "أسئلة الرواية" وكتابه المهم عن مندور، وكتابه الآخر عن فكر باختين وترجمته لكتاب بن شيخ عن ألف ليلة وليلة.

وفي تقدير أخير، منحت المغرب محمد برادة "جائزة الاستحقاق الكبرى" وذلك لإسهامه المهم في إغناء الإنتاج الفكري والأدبي، وللمكانة التي تمثلها مؤلفاته في مجالات النقد والإبداع، وقد أجرى معه الحوار القاص المصري المعروف سعيد الكفراوي، والذي له العديد من المجموعات القصصية مثل "كشك الموسيقى" و "مدينة الموت الجميل" و"سدرة المنتهى" وغيرها.

  • دعنا نبدأ من البداية: يقول "باشلار": من الواضح تماماً أن البيت كيان مميز لدراسة ظاهراتية لقيم ألفة المكان من الداخل، وبدايتكم من فاس، هذا المكان شديد الخصوصية (من باب إدريس والنجارين والرصيف والعطارين حتى الباب الكبير)، والذي كوّن وعيك منذ الطفولة الأولى وحتى انتقلت إلى الرباط دارساً حيث اغتنت تجربتك بفضاءات جديدة ولغات جديدة شكّلت البنية الأساسية لرواية "لعبة النسيان" التي كانت ركنك الأول لمعرفة العالم، حدثنا عن الطفولة التي نعتبرها الباب الأول الذي نطل عليه من خلاله على التاريخ؟

- كنت أظن أنني ولدت بفاس، لكن تبين، فيما بعد، أنني ولدت بمدينة الرباط ثم انتقلت، وأنا لم أتجاوز السنة الثانية من عمري، لأعيش مع خالي وزوجته في فاس، وهي مدينة لا تشبه المدن المغربية الأخرى، لأن المعمار والفضاءات والعلائق لها تجليات مغايرة توطد التآلف والتمازج مع المكان.

ترتبط "بدايتي" إذن، باكتشافات لا تنتهي لمتاهات أزقّة فاس ودروبها، لبيوتها ذات الطراز الأندلسي ولسطوحها العامرة بالأنس والسمر المبهج، من ثمّ أقول: إن طفولتي كانت سعيدة لأنني لم أعرف سلطة الأب (توفى أبي وأنا لم أجاوز الثانية من عمري)، وكان خالي يدللني وزوجته العاقر تغدق علي الحنان، كان اللعب مباحاً وكنت مفتوناً بكرة القدم والجري، عبر الأزقة وفي باحات المساجد: ضريح مولاي إدريس، مسجد القرويين، وكنت، في الوقت نفسه، احبّ الكتابّ الذي تحول إلى مدرسة، وأجتهد داخل الفصل.

ولأنني عشت في دار كبيرة تقطنها أربع أسر، فقد كنت محاطاً بعدد وافر من الأطفال والصبايا والنساء.

كان حضور البنات والنساء داخل الدار الكبيرة يضفي حيوية متجددة على الحياة اليومية، خاصة المناسبات والزيارات والطقوس العائلية.

كان الحدث المثير الذي وعته ذاكرتي، خلال طفولتي الأولى بفاس، هو السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، لأن الجنود السنغاليين التابعين لـ"اللفيف الأجنبي الفرنسي"، نزلوا إلى فاس القديمة ليحرسوا شوارعها ويرقبوا الناس، ويلجموا فورة الحركة الوطنية التي قدمت وثيقة تطالب بالاستقلال، مع زملائي من الأطفال آنذاك، كنا نجد متعة الخروج للتفرج على الجنود ومعاكستهم، كانت أشياء كبيرة تجري أمامنا ونحن لا ندرك أبعادها، لكننا كنا فرحين بتلك الأحداث التي كسرت رتابة حياتنا.

ولما انتقلت إلى الرباط، كنت أحمل معي زاداً متنوعاً من المشاهد والأحداث والشيطنة، كانت فاس قد نحتت في مخيلتي صورتها الميثولوجية وملامحها المتفردة، وقد أمضيت فترة غير قصيرة قبل أن أنقل طفولتي إلى الرباط وفضاءاتها المختلفة عن فاس.

الفن والسيرة الذاتية

  • هل هناك في "لعبة النسيان" اشتباك فني بين الإبداع والسيرة الذاتية؟
    في "لعبة النسيان" كانت الأم هي الاكتشاف الأول للتعرف على الدهشة، ومن خلالها أدركت قيمة الماضي باعتباره أصدق الأزمنة، وهو فيما يبدو سقف العالم، هل الزمن في الرواية هو الفاعل الحقيقي الذي نطل منه على أفق إنساني نفتقده الآن؟

- مكونات كثيرة من وقائع حياتي حاضرة في هذه الرواية، لكنني لم أتقصد كتابة سيرة ذاتية "تتعاقد" مع القارئ على قول الحقيقة، كل الحقيقة ولا شيء غيرها، لم أكن أستشعر حاجة لكتابة سيرتي، وإنما وجدتني، في الثمانينات، ملاحقاً بكتابة نص سردي طويل يسعفني على استيعاب ما عشته وما عاشه الآخرون من حولي.

خيل إليّ أن تراكم السنوات والتعثرات وخيبات الأمل في مجال النضال وتغيير المجتمع نحو الأفضل، تجعلني عاجزاً عن الاستمرار في الحياة إذا لم أحاول أن أعود إلى فسحة الإبداع والكتابة التي انطلقت منها ثم تناءيت عنها تحت وطأة الانغمار في أنشطة الفعل السياسي ومسئوليات اتحاد كتاب المغرب، وكتابة "لعبة النسيان" التي استمرت ما يقرب من ثماني سنوات، أتاحت لي مسافة للنظر من بعيد إلى ما عشته ملتصقاً بالظرفية وتبدلات الأحوال، هكذا وجدتني منقاداً إلى ردهات السرد، ولعبة اللغات، وشطحات التخييل، عندئذ، لم يكن السير الذاتي هو ما يشغلني، لأنني كنت أعيش مغامرة الكتابة التي عدت وسيلة معرفة ووسيلة متعة وطريقاً إلى الانعتاق من أوهام الأيديولوجيا وإسار الخطابات البلاغية، كنت مهووساً بأن أكتشف بدئية تتيح لكلامي أن يكون مقنعاً لي، كاشفاً لبعض الأشعة المضيئة، من ثم كان الطريق إلى تذكر الأم بمستوييها: الفيزيقي والرمزي، والعودة إليها هو عودة رمزية، فيما يخيل إليّ الآن، إلى الرحم وإلى فاس- الرحم أيضاً.

تسألني: هل الزمن الماضي، في الرواية، هو الفاعل الحقيقي الذي نطل منه على أفق إنساني نفتقده الآن؟ ليس الماضي بإطلاق، وإنما ذلك الماضي الملتصق بالذات والمتغلغل في ثناياها والمتجدد عبر تحولاتها، ويخيل إليّ أن الماضي الأهم هو الذي يلخص طفولتنا، وأنا أقصد، هنا، الطفولة في أبعادها الرمزية والميثولوجية التي تلون رؤيتنا للحياة وتخط لنا طريقاً ننجذب إليه لا شعوريا، ما نكتشفه، هو ما نلتقيه بعودتنا إلى الطفولة المنسية والتفاعل معها، إيجابياً، لمواجهة جبروت الزمان، صحيح أننا، عندما نكتب الرواية، يكون لدينا شعور بأننا لا نستطيع الكتابة إلا عما نعتبره قد انتهى نهائياً، لكن هذا مجرد وهم لأن الطفولة لا تموت بأعماقنا، وتظل قائمة ومتناسلة بأشكال شتى، وأظن أن الطفولة هي التي تشجعنا على مواجهة الزمان رغم معرفتنا أننا مهزومون أمام طاحونته، ولحسن الحظ، هناك النسيان والكتابة ومتعة التخييل.

تغير الأحوال

  • منذ دراستك بالقاهرة في الستينات، وحتى عودتك إلى المغرب أستاذاً في الجامعة، عشت فترة من التحولات المهمة، ورأيت تغير الأحوال، من حقبة ليبرالية، إلى حقبة ترفع شعارات ثورية، وشاهدت الكثير من الأفكار المتصارعة.. حدثنا عن الأفكار الأساسية التي أثرت فيك أثناء تلك الرحلة؟
    أيضاً لك الدور المهم في إقامة الجسر بين ثقافة المشرق وثقافة المغرب عبر وسائط كثيرة- دورك في اتحاد الكتاب، ومسئوليتك الجامعية، ومساهمتك الفكرية من خلال اللقاءات المختلفة، ومعايشتك للمتغيرات الثقافية على مدى ثلاثين سنة بالمغرب العربي.. هل تم بالفعل بعض التقارب بين الثقافتين؟

- منذ وصلت إلى القاهرة في 1955 إلى اليوم، شاهدت أحداثا كثيرة وعاصرت تبدلات عديدة داخل وطني، وفي الوطن العربي والعالم، ومن الصعب أن أغربلها لأختار ما أظنه الأكثر تأثيراً، ذلك أن الكائن البشري- كما يقول كافكا- يعيش معركة هائلة طوال حياته وهو بين ذهاب وإياب، فلا يستطيع أن يحتضن بنظرة واحدة المسار الذي قطعه، ليحلله ويقيمه، ثم إن التفاصيل قد تكون أهم من "الأفكار الأساسية"، مع ذلك أغامر بالقول إنني تفاعلت مع المرحلة الإيجابية من فكرة القومية العربية كما كان عبد الناصر يسعى إلى بلورتها في إطار اشتراكية متفاعلة مع محيطها وثقافتها، ثم كان الفكر الوجودي نافذة لاكتشاف الذات وأسئلتها وإعطاء مغامرة الحياة معنى ودلالات، وعندما قامت هبة مايو 1968 بفرنسا ثم في أنحاء مختلفة من العالم، اكتشفت جمال ثورة المخيلة، وأدركت في الوقت ذاته الشرك الذي يترصد جميع الثورات والتطلعات التغييرية، فقد كان العالم عالم الرأسمال والشركات الضخمة والصناعات الإلكترونية تضع الأسس والهياكل لـ "اعتقال" الإنسان وإدخاله إلى "مجتمع المراقبة"، الآن تبدو هبات 1968 وكانها آخر حلم كان يعد الإنسانية بعلائق أخرى لا تعتبر الإنسان مجرد رقم في ترسانة تديرها أزرار خفية!

لكن ما حفر تأثيرا عميقا في نفسي هو معاصرتي لمرحلة التدهور العربي على جميع الأصعدة وفي مجموع الأقطار، ولن أكون صادقا إذا قلت لك أنني أستطيع أن أفسره أو أقترح الحلول لوقفه، لكن العجيب هو كيف "أتعود" على العيش في ظلاله؟ لكن أن يخمن عجز الكلمات وما يحيط بنا من فسولة وخواء.

هناك أكثر من التقارب بين ثقافة المشرق وثقافة المغرب. لأن هذا المجال المكون لذاكرتنا العميقة نجح في أن يتحدى الحدود السياسية المصطنعة وقيود الرقابات، ولا ننسى دور السينما المصرية والأغاني والمسرح والكتب، إلا أن التحولات المتسارعة التي عرفها العالم العربي منذ الخمسينيات، ورواسب مراحل الاستعمار، استدعت تصورات أخرى لتوطيد الحوار بين من ينتمون إلى لغة واحدة وثقافة لها خصائص كثيرة مشتركة، ولم يكن من الممكن أن يظل التواصل الثقافي العربي مجرد شعار، ومجرد توصيات صماء في اجتماعات مسئولي الجامعة العربية، وأنا لا أزعم أنني قمت بدور كبير في إحياء الحوار، لكنني أسهمت مع آخرين في لفت النظر إلى بعض الجوانب التي تستحق الاهتمام، وفي طليعتها تنظيم لقاءات وحوارات عميقة بين المبدعين والنقاد العرب لتكسير التباعد، ومد جسور الصداقة لصالح تطوير الأدب العربي الذي يحتل مكانة مميزة في وجدان القارئ العربي، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن التشرذم السياسي العربي لم يمنع قيام تواصل عميق ثقافي وفني يحفظ مقومات المتخيل الاجتماعي العربي.

وما نحتاج إليه، حتى لا تظل هذه الجهود محدودة، هو القيام بضغط قوي على رجال السياسة لتحرير الثقافة ومنتوجاتها من الحسابات القطرية الضيقة، ولفتح سوق الكتاب العربي واللوحة والشريط والأفلام والمسرحيات أمام أكثر من مليوني مستهلك، وهذا هو السبيل لتعزيز تنافس المبدعين وتدعيم استقلالهم المادي، وجعل الثقافة عنصر تنمية وتوعية وتحرير.

الخصوصية الحضارية

  • ما الذي يعنيه لديك مصطلح الخصوصية الحضارية في زمن يتسم بسيولة عامة غير محددة تقوم على فرض أنماط من التفكير في السياسة والثقافة؟ وهل في قدرة الثقافة العربية الحفاظ على هويتها القومية في مواجهة تلك المتغيرات التي تسعى جاهدة لتحويل عالمنا الثالث بأعراقه وثقافاته وتراثه إلى كومة من الخردة؟

- لا تعني الخصوصية الحضارية شيئاً ثابتاً، بل هي ملتحمة بحركية التاريخ وتحققاته، وبالتجليات المختلفة والمتطورة للهوية القومية، وهي في نهاية المطاف، مجموعة من الصيغ والسلوكيات والطقوس تتبلور، عبر الزمن، لتعبر بعمق عن وجود شعب من الشعوب داخل مدارات الحضارة الإنسانية، ومن ثمّ، لا يمكن للخصوصي أن يتجاهل الكوني أو أن يفترض التعالي على التاريخ وقوانينه وتغييراته للموروث.

في الفترة الراهنة من تاريخ العالم، نجد أن "تطورات" الاقتصاد والإلكترونيات وثقافتها، والعولمة وتعسفاتها، تجنح إلى محو الخصوصيات، غير أن ردود الفعل، تشير إلى العكس، لأن كل الأقليات والشعوب المهمشة اقتصاديا وسياسياً ترتد إلى هويتها "الأصلية" متشبثة بما تعتبره خصوصية حامية لها من الاندثار، والمشهد الحالي يؤجج الصراع، إلا أن وسائط الثقافة الاستهلاكية، السهلة، تتوافر على تأثيرات سلبية ضاغطة، وهذا يطرح على الثقافة العربي أسئلة دقيقة وحاسمة، لأن الاحتماء بشعار الخصوصية وأمجاد الثقافة في الماضي لن يحولا دون طمس دور الثقافة الواعية المجددة للمجتمع وللإنسان.

من ثم، يلزم أن نفكر في ثقافة المستقبل، وألا يكون هذا التفكير انتقائياً، تجزيئياً، يغمض العين عن حقائق مادية وبنيوية تشمل العالم برمته وتنقل العلائق من مستوى إلى آخر، بتعبير آخر، لا بد أن نختار بين أن يكون مستقبلنا مستقبل شعوب تتحول إلى قطيع مستهلك يمتثل لما تبتدعه موضات الثقافة الإلكترونية، وبين أن نعد العدة لجعل الثقافة مرتكزة على الديمقراطية الثقافية التي تولي الاعتبار لمواطن حر، متعلم، له الحق في المعرفة وفي إنتاجها، ونحن، كشعوب تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، لنا مقومات تتيح لنا نوعاً من المقاومة لثقافة الابتلاع، إذا عرفنا كيف نزيل عوائق الحجر والرقابة وتجهيل المواطنين، وهذا الجهد في فهم التحولات، والارتقاء إلى الانخراط في العصر هو ما يمنحنا إمكانات لتجديد خصوصيتنا وجعلها دينامية خلاقة.

المشروع النقدي

  • مرت التجربة الفكرية عند محمد برادة بمراحل من الالتزام الاجتماعي عند سارتر إلى أفكار باختين ثم دراسة لجولدمان وفوكو ورولان بارت الذي ترجمت بعض أعماله، ما الذي استفاده مشروعك النقدي من مجمل هذه الأفكار؟

- إذا توخيت الصراحة، أقول إنني لم أنطلق من "مشروع نقدي" لأن الشروط التي عشت فيها والزمن الذي أمضيته في استكشاف التراث النقدي العالمي، ومحدودية الإمكانات ضمن الجامعة التي درست بها، كل ذلك فرض عليّ أن أولي الأسبقية لمحاولة استيعاب المناهج وفهم خلفياتها وأسسها الاستولوجية/ ومن ثم، كانت كتاباتي النقدية تتأثر بالسياقات الاجتماعية والثقافية المتصلة بحياتي وتكويني المعرفي.

وقد تفاعلت، مثلما فعل آخرون، مع الفكر الوجودي وتصوراته الإبداعية والنقدية، مثلما تفاعلت مع البنوية التكوينية ومع الباختينية، لكن القناعة التي تكونت لديّ، من خلال التدريس وممارسة النقد، هي ضرورة الاطلاع على أهم المناهج والتحليلات حتى تغدو كتابتي النقدية صادرة من موقع معرفتي له، نسبيا، إدراكا لأهم الاجتهادات المتحققة في هذا المجال، ذلك أننا لا يمكن أن نزعم "البراءة" ونحن نعمل في مجال عرف إنجازات نظرية مهمة تتعدى سياقها الأول.

من هذا المنظور، سعيت إلى الإسهام في التعريف ببعض المناهج التي أعتبرها مضيئة ومسعفة على استبطان الجوانب المهملة في النصوص، لكنني، في محاولاتي النقدية، أحرص على الإفساح في المجال للأسئلة المنبثقة من النص، وأيضاً للأسئلة التي تشغلني بصفتي قارئاً منتمياً إلى حقل الثقافة العربية، يمكن القول إذن، إن استفادتي من الاطلاع على مناهج النقد الحديثة تتمثل في نقطتين أساسيتين :

الأولى : هي أن المناهج الأساسية لا يلغي بعضها بعضاً، وإنما هناك تفاعل وامتدادات وتوسيع لأدوات التحليل، فكل نص قابل لأكثر من قراءة وتنوع القراءات يستفيد من تنوع المناهج ويغتني بها.

والنقطة الثانية: هي أن سؤال الناقد لا يكتسب أهمية إلا من خلال ارتباطه بأسئلة الثقافة المكونة لمجموع خطابات المجتمع، لكنه يتميز بكونه يستنطق ويحاور نصوصا تخييلية وشعرية تكتنز تعبيرات مغايرة لمستويات اللغة الطبيعية ومستويات التواصل المباشر، لأجل ذلك أقول، لم يعد دور الناقد، اليوم، هو ان يكون "ضمير" الأمة أو مرشد المجتمع، بل هو أن يستولد معرفة كامنة في النصوص المتوسلة بالمخيلة والمشاعر والتجارب الحياتية، ذلك أن لغة الأدب تستطيع أن "تهرب" الحقائق المحاصرة وأن تكشف المكسوت عنه.

الثنائيات الثقافية

  • تتصارع الثقافة العربية حول ثنائيتين: القديم والحديث، والتراث والمعاصرة، والماضي والحاضر، وبدلاً من الحوار كان الصراع الذي كانت نتيجته ذلك العنف الذي يشيع في حياتنا، ما تصورك كمفكر للخروج من هذه الأزمة؟

- مشكلة الثنائيات وما آلت إليه من تفجير للعنف، تعود، فيما أظن، إلى الانفصام الحاد بين المجتمع السياسي (الدولة) والمجتمع المدني، بدلاً من تكاملهما، عاشت مجتماعاتنا مأساة التسلط، وتجميد الحوار وفرض اللغة الآمرة، الأحادية، وأمام هذا الوضع، تتحول الثقافة إلى موروثات متكلسة، معزولة عن دينامية الصراع الاجتماعي المنظم وفق أسس ديقراطية، ما دامت الحياة متغيرة، ومادامت الثقافة تعبيراً عن العلائق القائمة، فإن الحوار ومجابهة الآراء والممارسات هما السبيل لتنشيط الجدلية المولدة لتركيبات جديدة تصهر الثنائيات وتغيرها على ضوء ما يفرزه الواقع والعلم والوعي، بعبارة ثانية، لم ننجح في المجتمعات العربية في إنجاز نقد الأيديولوجيا من خلال مقارنة الخطابات بالواقع الملموس، بدلاً من ذلك، استمررنا في النقد الأيديولوجي الذي يريد أن يعوض أيديولوجيا بأخرى، ومن ثم استمرار الثنائيات والتقوقع داخل الأنساق الجاهزة سواء كانت مستوردة من الماضي أم من الحاضر الآخرين، لا أزعم أنني أتوفر على حل لهذه الأزمة، إلا أنني أدعو إلى تعميم الحوار ونقد اللغة السائدة والفكر السياسي المهيمن بقوة وسخرية!

  • إذن ثمة شروط لخلق حوار ثقافي يساعدنا على صياغة أسئلة جديدة تواكب تلك المتغيرات الهائلة التي تحدث على المستوى العالمي والمحلي، بالذات حول ثقافتنا العربية؟

- لإقامة حوار جيد حول الثقافة العربية، علينا أن نستبدل الموضوعات القديمة للثقافة العربية، فبدلاً من الانطلاق من تيار ليبرالي، وآخر ديني، وثالث اشتراكي، أو ماركسي أو إصلاحي أو سوريالي، لا بد أن ينصب الحوار حول أحداث وأفعال وظاهرات وعلائق لها قوة تمثيلية ورمزية في مجال الثقافة، مثل تلك القفزة المهمة في مجال الإلكترونيات في نشر الثقافة، فمثل هذا الاستبدال يدفع إلى التفكير فيما تطرحه الثقافة العربية والكونية من أسئلة دقيقة وملموسة.

أيضاً، يستتبع هذا الشرط شرطاً ثانياً، وهو الانتقال من النقد الثقافي الأيديولوجي إلى النقد أيديولوجيا الثقافة، بمعنى إنتاج خطاب يدخل المعطيات الجديدة في صلبه وفي استنتاجه حتى نبتعد عن ترديد الشعارات والمعادلات التجريدية الطوبوية، بطبيعة الحال، فإن هذه الملاحظة تؤكد ضرورة إنجاز دراسات اجتماعية وتاريخية عن الثقافة العربية.

أيضاً، علينا أن نؤكد أنه لخلق شروط جيدة لتفعيل أي حوار ثقافي عربي، علينا أن نعترف بدمقرطة الثقافة والتعليم حتى نتمكن من مواجهة مسئوليات القرن المقبل.

علينا أن نؤمن بالتعددية، وحرية التعبير التي تعلم المحاورة وتشحذ الوعي والروح النقدية.

كل هذه العناصر والشروط هي التي تقودنا إلى بوابة الحوار الخصب حول أسئلة الثقافة.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. محمد برادة