التعلم مدى الحياة

التعلم مدى الحياة

قضية التعليم في عالمنا العربي ستظل في حاجة إلي معاودة الإطلال عليها من زواية نقدية.

يذهب كثير من المعنيين بالمستقبليات إلي أن المعيار الأول لتقدم دول العالم في القرن الحادي والعشرين لن يكون مرتبطا بارتفاع نسبة التعليم العالي أو التقدم فحسب، وإنما سيكون مرتبطا بمدى النجاح في تحقيق أو تنفيذ سياسة استمرار التعلم المتجدد مدي الحياة.

وقد نجحت اليابان- علي سبيل المثال- في تحقيق هذا الهدف، بينما لا يزال هذا الأمل أمنية تتداولها أقلامنا في الفترة الماضية دون أن نناقش هل من الممكن أن يحقق العرب أيضا نفس هذا الهدف النبيل، ولكن من الطريف أننا في العالم العربي قد عرفنا هذا المفهوم من قبل، بل وأوجدنا له مصطلحا " جميلا "، وإن كان في نفس الوقت " مضللا "، وهو مصطلحا " تعليم الكبار "، وهو ما يعني أن التعليم موجه إلى طائفة تعلمت من قبل ووصلت إلي مرحلة متقدمة من العمر والهيكل الاجتماعي أيضا، ولا يخفي المدلول اللفظي لكلمة الكبار، وعلي الرغم من أن المعنى الذي أوضحته لتوي ظاهر جدا، ولا يحتمل اللبس، إلا أنه في الغالب غير واضح بهذه الصورة في أذهان كثير من القراء، ويظن بعضهم أن تعليم الكبار هو نفسه " محو الأمية " ولا أنكر أن هذا المفهوم لتعبير تعليم الكبار، مع أن هذا الفهم بعيد عن الصواب... ولكن ماذا نفعل ؟ قدر الله وما شاء فعل، وفي الهيكل الإداري والتنظيمي للتلفزيون المصري- علي سبيل المثال- إدارة كبري لتعليم الكبار... وهذه الإدارة هي المسئولة عن برامج التثقيف الصحي علي سبيل المثال... وقل مثل هذا في هياكل وزارات التربية في عالمنا العربي، وقد حدثت مفارقة عجيبة، وقد كان العجب في هذه المفارقة أنها أنتجت اقترانا بين " محو الأمية " وبين " تعليم الكبار "، ولم يكن الدافع إلي هذا فيما أعتقد، إلا أن كلا المفهومين يرتبط بنوع غير تقليدي من التعليم بعيد عن النظامية البيروقراطية، والشهادات والامتحانات المحددة بأوائل الصيف، والعام الدراسي، والمناهج المقررة، والحصص، وأصبحت هناك- علي سبيل المثال- إدارة واحدة، وشأن ما يحدث في كل التطورات الحضارية في مجتمع بيروقراطي أصبحت الكلمتان وكأنهما مترادفتان، وهكذا ضاع مفهوم التعلم مدي الحياة الذي كان اسمه البيروقراطي " تعليم الكبار " في بحر " محو الأمية " التي تتوجه برامجها إلي محو أمية الكبار، بدلا من أن يكون معني مسمي الإدارة التي تجمع اختصاصين أنه محو الأمية عند الكبار والصغار وتعليم الكبار الذين كانوا متعلمين أصلا، أصبح المسمى متوجها بحكم اللفظ إلي معنى آخر تماما وهو محو أمية الكبار فقط، وهكذا تحقق أيضا الإسراع في زيادة معدلات التسرب بين تلاميذ المدارس لأن إدارة محو الأمية ظنت نفسها مسئولة عن محو أمية الكبار فقط، وهكذا أيضا تحقق الإهمال الملطلق لمفهوم تعليم الكبار لأن الإدارة الكبرى التي أنيط بها هذا الهدف لم تدرك أن هذا هدف في حد ذاته، وظنت بحكم الآليات البيروقوراطية أن تعليم الكبار هو محو أمية الكبار !!

وكان هذا نموذجا " بديعا " و " معبرا " لهذا الفشل المزدوج حين نطلب من إدارة واحدة تحقيق وظيفتين، فقد يكون المدير الأول واعيا لحدود الوظيفتين، ولكن ربما جاء المدير الثاني أو الثالث علي أقصى تقدير وهو غير واع لوظيفة الإدارة لأنه جاء بحكم الترقيات الروتينية المتوازية، وكان لابد له أن يحصل علي درجة مدير عام، ولم تكن هناك إدارة خالية إلا هذه ! وجاء هو ومن بعده ومضوا دون أن يعرفوا المقصود بتعليم الكبار.

هل طالت هذه المقدمة بعض الشيء ؟ ربما... وإذن فمن حق القارئ أن أسرع الآن وأعرض عليه التصورات الكفيلة بتحقيق النجاح في سياسات التعلم مدى الحياة، بعبارة أخري، كيف يمكن للدولة أو للنخبة فيها أن يقنعوا السوداء الأعظم من مواطنيها بأهمية وضرورة استمرارهم في التعلم مدى الحياة، وأن تكون شهاداتهم العليا أو المتوسطة نقطة بداية وليست نقطة نهاية، هنا نجد أنفسنا أمام مجموعة من التصورات قد تبدو متنافرة وقد يظنها بعضنا خيالات ويحسبها بعض آخر حقائق.

البحث عن جدوى

لعل أول هذه التصورات يتعلق بمردود التعلم نفسه، هل يجد المواطن العربي جدوى من التعلم واستمراره يوما بعد يوم، لن أقفز إلي الحياة في المجتمع الأمريكي ولا الأوربي لأدلل على الفائدة التي تعود علي المتعلمين في حين يقع الغرم أو التكلفة عليغير المتعلم أو علي غير المستمر في تلقي العلم، ولكنني أفضل أن أدخل إلي الموضوع من مداخل أخري.

المدخل الأول : يفرق بين عمليتين انسانيتين مرتبطتين بالنشاط العقلي، وهما التعلم والتعليم، وبالتالي مدة مسئولة الدولة عن إتاحة فرص التعلم الذي هو عملية إيجابية تقتضي قدرا من الجهد ( بأنواعه المختلفة ) وهنا يأتي دور الفكر التنفيذي في إرساء السياسات الكفيلة بالتعبير عن رغبة الدولة في دفع مواطنيها إلي التعلم، ولن أتحدث ايضا عن سياسات إيجابية مستقرة في المجتمعات الغربية، وأن هذه السياسات تدفع هؤلاء إلي التعلم المستمر بحكم أنهم لا يستطيعون الترقي ولا حتى الاستمرار في أي وظيفة في الحكومة أو حتى في القطاع الخاص أو الفردي من دون التعلم، ولكني سأتنازل وأتواضع في أهدافي إلي الحديث عن الجانب الآخر وهو جانب تقليل النفقات المعيشية ( والجهد بجميع أنواعه في مرحلة لاحقة ) أي أني أريد ما يسمى بلغة الاقتصاد إنقاذ الموارد وتوفيرها لأولئك الذين يستمرون في التعلم مقارنة بالذين يحجمون عنه، وبحيث تصبح تكلفة هذه العملية الإيجابية أدنى ما يكون بالنسبة لما يتكبده المواطن.

وهذا ما هو يدفع بنا مباشرة إلي الجانب الثاني أو المدخل الثاني في فكرنا، وأنا أفضل أن أعبر عنه في صيغة سؤال واضح يحتاج إلي إجابة واضحة : ما هي الوسائل الكفيلة بتشجيع المواطنين العرب علي التعلم وعلي المعرفة.؟ هل تؤدي المعرفة مثلا إلي الثروة ؟ وهل ستصبح هي السبيل الأول في المستقبل القريب إلي تحقيق مثل هذا الهدف المحبوب ؟

بعبارة أكثر اختصارا، هل يصبح استمرار التعلم بمنزلة الوسيلة الحتمية أو الأكثر ضمانا لتحقيق الثروة في المجتمع العربي مع حتمية تضاؤل دور الوسائل الأخرى بحكم الآثار المتسارعة والمتراكمة التي نشأت عن ثورة المعلومات ؟، وكالأمر في المداخل التي تؤدي إلي بعضها، فإننا نجد أنفسنا أمام المدخل الثالث والأخير، وهو السؤال عن المناخ العام أي " القيمة " وذلك بعد السؤال عن " الوسيلة " وبعد السؤال عن " التكلفة ".

ولعلنا الآن نستطيع بشئ من التفصيل أن نتأمل هذا المدخل بعناصره الثلاثة : التكلفة، والوسيلة، والقيمة.

سنبدأ بالعنصر الأول من مداخلنا، وهو التنبيه إلى أن ما ننادي به ونتكلم عنه اليوم هو التعلم مدى الحياة وليس " التعليم " مدى الحياة، وأظنني لست في حاجة إلى أن أذكر بالفرق بين المصطلحين، ولكني مع هذا، سأستعمل أحد أبسط الفروق بينهما، وهو أن التعلم عملية إيجابية أكثر من أن تكون عملية سلبية، أي أن الإنسان يبذل جهد لكي يكتسب المعرفة بدلا من أن يتلقاها، وليس التلقي في حد ذاته بالعملية السلبية، ولكنه على كل حال، أقل إيجابية من الاكتساب، كما أنه أكثر سلبية من الاكتساب، وهذا المفهوم النسبي للفارق بين التعلم والتعليم هو الذي يقودنا إلي استيعاب طبيعة الجهد الذي ينبغي بذله من أجل القضية التي نتاولها، فنحن كدولة أو كنخبة سيداهمها القرن الحادي والعشرون عن قريب لن نكون مسئولين عن رسم سياسات تعليمية بقدر ما سنصبح مسئولين عن تنمية ميول نفسيه تجاه المعرفة، وهكذا فلابد أن تعمل الدولة ( والنخبة الحاكمة أو المفكرة ) في كل ساساتها على تنمية احترامها للمعرفة، وكذلك علي تنمية عدم احترامها، أو بالأولى احتقارها للجهل، ونحن لا نطب من الدولة أن تصوغ قوانينها وقواعدها بحيث تعاقب الجهل، ولكننا نريدها أن تصوغ قوانينها بحيث تثيب وتكافئ وتشجع المعرفة وأن تيسر علي العارفين. وليس تحقيق هذا الهدف بالمستحيل، فالدولة- علي سبيل المثال- متحكمة في أسعار تقديم الخدمات الإعلامية الجديدة سواء كانت خدمات القنوات الواردة عن طريق الأقمار الصناعية أو خدمات الطريق السريع الدولي القادمة عن طريق شبه الإنترنت، وفي وسع الدولة في هذه اللحظة أن تبحث عن السياسات التي تيسر بها المعرفة على طالبي المعرفة، وأن تمول الإنفاق علي تيسير هذه الخدمات مما هي قادرة على استنفاذه أو تحصيله من طالبي المتعة!

ومن العجيب أن الدولة كانت تتبع مثل هذا التفريق في تقديم الخدمات وتسعيرها في عدد من المنتوجات الخدمية، ومنها- علي سبل المثال لا الحصر- : المشتقات البترولية حيث كانت الدولة تعيد تسعير مشتقات البترول بأسعار متفاوتة غير متطابقة ولا متكافئة مع سعر التكلفة، وكان الناس يلاحظون أن الكيروسين- مثلا- لا يبلغ سعره إلا 20 % من سعر البنزين، بينما سعره في العالم المتقدم يبلغ 90 % من سعر البنزين، ولكن الدولة كانت تلجأ إلي سياسة إعادة تسعير المشتقات البترولية لتحميل المنتج الذي يستهلكه مستهلكو المتعة بتكاليف المنتج الآخر الذي يستهلكة السواد الأعظم ( الكيروسين ) في إنضاج رغيف الخبز في المخابز العامة، وفي إضاءة البيوت الفقيرة وفي تشغيل سيارت النقل العمومية... وهكذا.

وإذن، فقد كان- ولا يزال- من الممكن تحثيث ما يمكن أن نسميه بتمويل هدف نبيل علي حساب المستفيدين من متعة قد تكون مشروعة، ولكنها لا تتمتع من حيث الاستراتيجية القومية بأهمية الهدف النبيل، وهكذا يمكن رسم سياسات الدولة العليا بحيث تنحاز لما تراه ضروريا لتحقيق أهدافها الكبري وحل مشكلاتها الطارقة، حتي لو أن إعادة توزيع أعباء المعيشة قد فرض الانحياز إليها على حساب الرغبة في التمتع.

ولكن، هل يكفي هذا التدخل السياسي لخلق الرغبة في التعلم عند الناس ؟ بالطبع لا، فلربما ساعدت الوسيلة السابقة على تشجيع الراغبين في التعلم على أن يواصلوا هذه الرغبة بأقل تكلفة، ولكن يبقي السؤال الأهم وهو : كيف نخلق الرغبة في التعلم من الأصل ؟ وهذا بالفعل هو السؤال الأكثر حيوية، وأظننا أننا جميعا نعرف إجابته وهي تتمثل في أن تكون المعرفة نفسها هي السبيل الأقوم للوصول إلي كل المواقع المتقدمة بكل ما تعنيه كلمة الوصول من مستويات سلطوية وأدبية ومادية واجتماعية... ألخ.

فهل يمكن لنا اليوم أن نزعم أن العلم أو المعرفة أو الإجادة أو التفوق أصبحت- الآن ونحن علي أعتاب القرن الجديد- هي المعيار الأهم للوصول إلي المواقع الوظيفية الأكثر أهمية أو حتى إلى المكانة الاجتماعية الأكثر جاذبية.

سوف يسارع القارئ بالنفي ومعه كل الحق، ولعل هذا أحد مآزق عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية في عالمنا العربي المعاصر، ولك أحدا لا يستطيع أن ينكر أن معظم الثروات التي يشاهدها الناس اليوم في أيدي المليونيرات لم تتحقق إلا بفضل " المعرفة " أيا كان نوع هذه المعرفة، وفي كثير من الأحيان تكون هذه المعرفة مقتصرة علي دهاليز السلطة وأصحاب القرار للحصول على الامتيازات والإعفاء من الواجبات، ومن ثم يتحقق توازن إيجابي ضخم في ميزان المليونير، هذا صحيح، ولكن من حسن الحظ أيضا أن المجتمع المفتوح أصبح يهدد مثل هذا الأسلوب بشدة، فالصحافة تكشفه، والمجتمع يدينه، والتشريع غير قادر على أن يحميه، هذا فضلا عن أن السلطة لا تستطيع أن تكرر حماية مثل هذا النوع من الثروة ولا سبل الوصول إليها.

وهكذا فإن " المعرفة الحقيقية " سوف تعود إلي أخذ مكانها ومكانتها كعامل أساسي مهما بدالنا من أن النفوذ والواسطة والمحسوبية قد احتلت مكانها، وربما تصل المعرفة عن قريب إلي حد أن تكون العامل الأساسي الأكثر خطورة وتأثيرا في صنع الثروة والحصول عليها، ومن ثم تعود الرغبة الإيجابية في التعلم إلي الوجود بصورة مكثيفة في سلوكيات الجماهير واتجاهاتها.

ولكننا نجد أنفسنا في حاجة مرة أخري إلي الإجابة علي سؤال ثالث يقول : هل يكفي وجود الرغبة في التعلم من جانب الأفراد ووجود الرغبة من السلطة في تشجيع التعلم لدي السلطة أو الحكومة ؟

ربما كان الجواب بالإيجاب صعبا، إذ يظل الأمر في حاجة إلي ما هو أوسع تأثيرا من ذلك بكثيرا، وهو ما قد يمكن لنا أن نسميه بالمناخ الداعي إلي المعرفة، وهذا المناخ هو أصعب مكون من مكونات المشروع الذي نحن بصدده، وربما أبيح لنفسي أن أتجاوز فأفقز بعض الشئ إلي وصف دقيق يلخص كل ما قد أستطيع أن أصف به كلمة المناخ، وذلك حين استعير مقطعا من آية قرآنية يقول فيها الحق جل جلاله سورة المجادلة آية11 يرفـع الله الـذين آمنـوا منكم والذين أوتوا العلـم درجـات، فهذه الرفعة التي ينبغي أن تحرص الدولة علي توفيرها من جانبها للذين أوتوا العلم تمثل أفضل سبيل كفيل بتقديس العلم وتبجيل العلماء والنظر إلي العلم والعلماء نظرة مفعمة بالاشيتاق إلي الانضمام إلى ركبهم، على نحو ما يشتاق إلى السطلة الطامحون والمتطلعون في كل مجتمع، عندئذ يكون الحصول على تقدير علمي رفيع هو الشغل الشاغل لأحد المفكرين أو الجامعيين الكبار بحيث يشغله تماما عن البحث عن الوصول إلي منصب سلطوي كالوزارة مثلا، فإذا وجدت أن مجتمعا قد أصبح يسير في هذا الطريق فلك أن تطمئن على أن مناخ المجتمع قد أصبح كفيلا بإعطاء الفرصة للتعلم مدى الحياة بين أبنائه جميعا.

 

محمد الجوادي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات