فتوحات البياتي: المعروف بـ

فتوحات البياتي: المعروف بـ "نور الشعر ومرآته"

المؤلف: ثمانون شاعراً وكاتباً

جاء هذا الكتاب الذي قصد منه الاحتفاء بشاعرنا البياتي بمناسبة بلوغة الثالثة والسبعين دراسة عميقة لمختلف جوانب تجربة الشعر العربي.

"فتوحات البياتي" أو"نور الشعر ومرآته":كلاهما عنوان لكتاب واحد، يقدم صورة من صور الاحتفاء بالشاعر العربي عبد الوهاب البياتي، والعنوان الأول يعكس تنوع عالم عبدالوهاب البياتي،وتعد دلالاته عبر رحلته الشعرية التي قاربت نصف قرن امتدت منذ ديوان "ملائكة وشياطين" الذي صدر عام 1950 حتى ديوانه الأخير "البحر أسمعه يتنهد"، أما العنوان الثاني فيشير إلى البياتي بوصفه مرآة تعكس مسيرة الشعر العربي. وتكريم هذا الشاعر هو تكريم لما أنجزه الشعر العربي المعاصر، رغم ما يواجهه من تحديات.

والملاحظة الأولى والمهمة على هذا الكتاب، أنه دراسة عميقة لمختلف جوانب تجربة الشاعر العربي عبد الوهاب البياتي، ويمكن أن يكون وثيقة علمية لدارسي شعر البياتي لأن الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول: يتضمن دراسات عن عالم الشاعر ورؤيته للعالم، والثاني: يتضمن وثائق في صورة الخطابات المتبادلة بين الشاعر وأقرانه من الشعراء العرب والأجانب المعاصرين له، فنجد رسائل كل من نازك الملائكة ونزار قباني إلي البياتي، وهي وثائق مهمة للدارس في تاريخ الشعر العربي والتاريخ الثقافي للأدب العربي، والقسم الثالث: يتضمن قصائد لشعراء عرب وأجانب مهداة إلى الشاعر وأبرزها لكل من: ناظم حكمت، سعدى يوسف، حسب الشيخ جعفر، أحمد عبد المعطي حجازي صلاح جاهين، سعيد عقل، أنسي الحاج، يوسف الخال وغيرهم من البوسنة وهولندا وشعراء من مختلف أنحاء العالم، ويتضمن الكتاب أيضا حيثيات حصول الشاعر على جائز إكليل الغار بن الخطيب عام 1985 من حكومة إسبانيا، وجائزة عرار الأدبية في الأردن عام 1992، وجائزة سلطان العويس عام 1995، وجائزة جبران خليل جبران العالمية من رابطة إحياء التراث العربي بإسبانيا عام 1998.

وهذا الحشد الهائل من الآراء والدراسات لست هي كل ما قيل في البياتي وشعره وإنجازاته، وإنما هي جزء مما كتب عنه ونشر بالأقلام التي تساهم في صنع المشهد الثقافي العربي الراهن.

مسيرة شعرية

هناك دراسات كثيرة تبرز أبعاد تجربة البياتي الشعرية، لكن دراسة إحسان عباس عن شعر البياتي هي التي فتحت أبواب النقد التأصيلي، لأنه أشار إلى اتجاهات ثلاثة في شعره، اتجاه علوي يدرس صعوده في معارج الدرجة الفنية، ويبرز تنامي تجربته الجمالية منذ ديوانه الأول حتى الأخير، وكيف تطور، واتجاه أفقي يدرس تجربته الشعرية باحثا عن تحولات الصورة لديه من الذاتي إلى الجماعي، فالرومانسية الذاتية في بداية أعماله تحولت إلى رؤية جماعية للقضايا التي تجسد مسيره الذات العربية في نضالها ضد كل محاولات تشويه الذات واستعمارها، والاتجاه الثالث يتمثل في النزوع نحو تعميق التجربة الشعرية بالبحث عن الجذر الإنساني الذي يربط الإنسان العربي بهموم الإنسان في كل مكان، وهذه الاتجاهات الثلاثة: الجمالي، والذاتي والجماعي، والبعد الإنساني لموقفه ورؤيته هي أبعاد متضافرة لتجربة البياتي الشعرية، وجل الدراسات لا تخرج عما حدده إحسان عباس كأبعاد لتجربته الشعرية، فأعمال البياتي وفق هذا التصور تبدو وكأنها كتاب واحد، تتعدد فصوله وأبوابه، فقد استطاع أن يخلق عالماً شعريا متشابكا، خصبا وثريا بالدلالات نتيجة لاستخدامه الرموز التاريخية والمعاصرة، وقدرته الفائقة على توظيف الأساطير القديمة،وصياغته لأسطورة الإنسان العربي المعاصر، وتحولاته في أقنعه مختلفة تبرز قدرة الشاعر على الرؤية من مواقع متباينة، مما جعل شعره يحفل بحس درامي، تمخض بعد ذلك عن عمل مسرحي له، ويمكننا أن نلمح اختلاف الأصوات الدرامية في دواوينه المختلفة بدءا من "ملائكة وشياطين" و"أباريق مهشمة" و"المجد للأطفال والزيتون" مرورا "بأشعار في المنفي" و"الذي يأتي ولا يأتي" و"الموت في الحياة"و" مسيرة ذاتية لسارق النار" وغيرها من دواوينه التي استطاع من خلالها أن يعبر عن الأزمة التي يعيشها المثقف في عالمنا العربي، وحاول في شعره زعزعة الثوابت وتحقيق هدف الإبداع في خلخلة الواقع المعيش ومحاولة الانقلاب عليه، أملا في تحقيق عالم أفضل بعيدا عن القهر والشعور بالاستلاب.

ونلتقي في نص البياتي الأزمنة الثلاثة، زمن الكتابة، والزمن التاريخي الذي دائما ما يشير إليه، والزمن الواقعي الذي يمثل الإطار الكوني للأزمنة المختلفة التي يتضمنها نصه، وأعتقد أن دراسة الزمن تحتاج إلى دراسة مستقلة، وقد أشار إليها الناقد العراقي الدكتور عبد الرضا على في دراسته بعنوان:البياتي رائيا.

المدينة في شعر البياتي

تجسد المدينة حالة الإنسان العربي، وانفصاله عن الكل الاجتماعي الذي ينتمي إليه، وذلك لأن شكل المدينة وإيقاعات الحياة بها خلق أسطورة معاصرة، استطاع البياتي أن يقف عند المدينة في شعره، ويبين لنا أن المدينة لديه ترتبط بالتاريخ، وبالصورة اليوتوبية للمدينة التي يحلم بها، فهناك صورة تلح على خيال الشاعر كلما ذكرت مدينة بغداد، هي صورة الليل الذي يتكاثف ظلامه كلما اشتد وعي الشاعر بالواقع العربي وتعددت تجاربه معه، فالمدينة مرتبطة بالليل الذي تبحر في سجوه زوارق الأحلام السكرى لتحتضن الصمت، فهو يريد لمدينته أن تكون "مدينة النجوم" فتجمع في لحظة واحدة بين خواص المدينة الحضرية الباهرة والحدائق الغناء التي تلتقي فيها نجوم الطبيعة مع كواكب المجتمع، بعد أن تتحول إلى "ساقية خضراء" تدور في نوع خاص من الحدائق، وترتبط المدينة/ المكان بالزمان ولا سيما بلحظة "لأصيل"، فالمدينة رغم إضفاء البعد الأسطوري عليها، وتخيلها إلا أنها ترتبط بالزمان، أي بالتاريخ العرب وتحولاته، ولذا يقوم الزمان بدور مهم في تكوين الصورة الشعرية لدي البياتي، لا سيما حين يضفي خاصية السحر عليها حتى لتصبح متعينة ومبهمة في الآن ذاته، فالبياتي لا يتمسك بالرموز القديمة، وإنما يتيح لها أن تطور دلالتها حيث يولد صورة المدينة الجديدة من تجاربه المتشابكة معها مبقيا دائما على روح النموذج الكامن في رؤية البياتي للمدينة، فتصبح المدينة هي الحلم الذي لم يولد بعد في هذا العالم الواقعي، وهو حين يرثيها، إنما يقوم بتعديل مثال المدينة ونموذجه وفق خبراته اليومية هما يتحول إلى نقد التاريخ وتحريكه إلى وجهة جديدة، ونجد هذا في ديوانه " الكتابة على الطين" حيث لا يتغني ببغداد القديمة، ولكن يتمثلها بالشكل الذي يتخيله، فالمدينة التي يود أن يرثيها يبشر بموتها ويبشر بمدينة مثالية مكانها.

والكتابة عن المدن لدى البياتي ترتبط بالمحو أو النسيان، فعالم المثل أو نموذج المدينة/ الحلم هو الذي يحرك الشاعر في رؤيته للمدينة، فالمدينة لديه مرتبطة بالإنسان وليس مكانا مجردا، المدينة مرتبطة بعالم نسيان الأشياء والأحداث والأشخاص، المدينة تتجدد وترتبط بالأحداث التي عاشها الشاعر، المدينة تأخذه دائما إلي التاريخ الشخصي المهدور في النسيان. فحين يتذكر المدينة، يتذكر البشر الذين عبروا الزمان خلال المدينة، ويقف الشاعر محاور أشكالهم التي تركوها على الجدران أو روائحهم المميزة كالبصمات على الأضرحة. ومصير المدن في شعر البياتي هو مصير أسطوري، فالمدن التي ذكرها في شعره قد محاها الطوفان، أو ضربها الزلزال، أو أكلها الطاعون، أو دمرتها الحروب أو الغزاة القادمون من خلف الحدود، ويتضح هذا في قصدته "الولادة في مدن لم تولد" من ديوانه "بستان عاشة" حيث نجد مطابقة بين الأسطوري وما هو راهن، فالمدينة في شعر البياتي هي تمثيل لرحلة( العود الأبدي) حيث نجد الزمان معكوسا، يصطدم في حديثه عن المدينة بعديد من الأشخاص والأحداث، الذين التقاهم في زمانه الخاص، تلك البوتقة الداخلية التي تتحول في القصيدة إلى إعادة تمثل أحداث المدن، وكأنه يحدث هنا والآن.

ملامح صوفية

لا يتضح البعد الصوفي في إلحاح البياتي على تصوير حالة الجمال، الأبدي والانتقال من إطار الواقع المحدود إلى جلال الحق اللا محدود فحسب، وإنما يتضح في هذا العالم المتخيل الرحب لتجربته الشعرية التي تخرج من نطاق الفردية إلى التماس مفهوم الإنسان الكلي، وهو بذلك يخرج الفكرة الفردية من حصار وقائع الحياة اليومية ويعطي أجنحتها المحلقة حرية الحقيقة الكونية، فالبعد الصوفي في رؤيته الجمالية واضح في تجاوز الطابع الفردي، وتقمص الذات الجماعية للإنسان العربي والإنسان الكوني، وقصائده الأخيرة عن الموت والحياة والذاكرة والأماكن والأزمنة هى تجسيد للتوق البشرى تجاه الديمومة والخلود وللخروج برؤية جديدة للكون والعالم والوجود.

والتصوف لدي البياتي ليس حلية جمالية وفنية، يفتعل بها التجربة الشعرية، وإنما هي "رؤية" تجعل ذات الشاعر تتسع لتستوعب العالم والتاريخ والبشر، فهي تحول وولادة يدركها من يقرأ الشاعر قراءة نسقية، ويدرك التطور الذي آلت إليه تجربه الشاعر، هذه التجربه التي بدأت بهذا الانصهار في تجارب الحياة اليومية المثخنة بالجراح والغربة والنفي والاستلاب والظلم والثورة، ثم تنامت هذه التجربة بإعادة بناء الواقع الحسي من خلال مفردات الكون الجمالي لديه فاستخدم الرمز والأسطورة والقناع والاستعارة والصورة والإيقاع والموسيقي، وهذا التمثل وإعادة تركيب العالم في تجربته الشعرية، أتاح له أن ينطلق من المرئي إلى اللامرئي ومن المحدود إلى اللا محدود، واتجهت تجربة الشاعر بعد ذلك إلي صهر هذا الكون الاجتماعي والسياسي في ذات الشاعر متجهة نحو التوحد الكوني، فالتشتت والتشظي يتجمع في رؤية صوفية حين تتعمق تجربة الشاعر ويتجذر فيه البعد الإنساني الكلي.

ويكشف العالم عن تناغم وانسجام رغم ما يحيط من تشتت، ونلمح رضي قصائده الأخيرة، هذا الاتجاه نحو أسرار الوجود، بوصفه تجربه لا تنكشف إلا لمن عاناها بوجدانه وعقله، وهذا البعد الصوفي هو الذي جعل الشاعر يسعى نحو الأسطورة لينشىء عالما موازيا لتجربته، وليؤسس رؤية جمالية تستوعب الواقع بالإشارة إليها في قصائده ودواوينه الشعريه.

فالبعد الصوفي هو الذي حرر الشاعر من الأيديولوجيا وجعله يتحول إلى الروحي في صوفية غير تقليدية ترى الوجود والعالم موقفا تتحرك فيه الذات من الكينونة إلى الوجود.

الموسيقي في شعر البياتي

ساهمت الموسيقي في تعبير البياتي لا سيما في التعبير عن مناطق البوح الذي يدركه المتلقي بشكل وجداني من خلال الأثر الذي تحدثه الموسيقي والإيقاع في داخله، ونجد هذا بشكل خاص في قصائده "القطب والمريد"، و"البحر أسمعه يتنهد"، و"العمياء"و"إلى الجواهري الذي رحل في عيد ميلاده" حيث نشعر بروح الشاعر الموسيقية من خلال اهتمامه باللغة وصوتياتها، وموسيقى الشعر عند البياتي مهمة على المستوى العام في دواوينه، وعلى المستوى الداخلي للقصائد، ولعله من أكثر الشعراء العرب في تكوين التجمعات الصوتية الهادئة داخليا في الشعر التفعيلي الذي يجتح فيه إلى الابتعاد عن القوافي في الموحدة إلى التداخل في القوافي المتعددة، وهي ميزة تميز بها ابتداء من ديوانه الأول.

حوار مع الثقافات

لم يتحاور البياتي مع ثقافة عصره فقط، وإنما تحاور مع الثقافة الإنسانية في تاريخها الطويل، وكانه يختبر ممكناته الشعرية، فيذكر لنا في أشعاره ما يؤكد اتصاله بالروح العالمية، فيحلق في الآفاق الثقافية لبغداد ونيسابور وغرناطة ودمشق والقاهرة وفيينا وبرلين، ويغني في أشعاره مع لور كاوبيكاسو وإليوت واودن وطاغور وبابلو نيرودا وجلال الدين الرومي ومحيى الدين بن عربي والحلاج وأليبر كامي وغيرهم من شعراء العالم وكتابه، وهذه الأسماء لم ترد فقط،وإنما تحولت إلى تجارب روحية وجمالية وفلسفية وسياسية في نصه الشعري، فهو يخاطب جلال الدين الرومي في ديوان المراثي،" أنا المجز أقرب خاصرة الشمس، نسيت يراعة روحي في تبريز وقفطاني الأخضر في موصل العراق. ويناجي نجمة خضراء كانت ببريقها وأضوائها ترافق مواكب الحلاج وابن عربي وهسهسات روح الغزالي" يقول البياتي: عودي إلى جوهرك/ الفاني فأنت الموت / والنموذج البدئي للحب وأنت النار والشهوة / والجسد وغاص في أعماقها / فاشتعلت تعانق الأبد.(ص 90 من كتاب المراثي).

هذا الكتاب تأكيد لقيمة الوفاء وتكريم لرمز من رموز الشعر العربي المعاصر، وهو بمنزلة تظاهرة احتفالية بالشاعر عبد الوهاب البياتي، وكنت أود أن يتضمن الكتاب السيرة الذاتية للشاعر التي تتضمن- بشكل موجز- حياته وتنقلاته، لأنه تنقل عبر عواصم عربية وغربية عديدة، وأعماله الشعريه، وذلك للأجيال الجديدة التي لم يتح لها التعرف إليه، بالإضافة إلى نشر ثبت قصير بأهم الدراسات الرائدة عن عالمه الشعري، لا سيما أن هنالك عددا لا بأس به من الأطروحات العالمية والدراسات التي قدمها المستشرقون عن أعماله، ليتسنى للقاريء التعرف إليه، لأن الكتاب اقتطع بعض المقتطفات من بعض الدراسات المهمة، والكتاب يضيف دراسات جديدة مثل دراسة الدكتور علي عباس علوان التي تحمل عنوان: عبد الوهاب البياتي رؤية العالم. فهذا الحضور الشعري للبياتي في الغرب كان لابد من إعطاء فكرة عنه للقاريء.

والحقيقة أن هناك مثالا جيدا لمثل هذه الكتب التي تعد علي سبيل التكريم والتقدير لشخصية عربية ساهمت في المشهد الثقافي العربي، وهو كتاب في محراب المعرفة، الذي يقدم دراسات مهداة إلى إحسان عباس، والتعريف بعالمه بالإضافة إلي إسهامات تلاميذه في مجال المعرفة، لأن عطاءة متجدد من خلال هؤلاء التلاميذ.

والبياتي بوصفه مرآة للشعر العربي يعكس تحولاته وصيرورته،مما يعني أن هذا الكتاب، بما تضمنه من دراسات وأشعار لثمانين شاعرا وكاتبا يدل على مقدار ما بذل فيه من جهد المتابعة، وترجمة المقالات والدراسات التي كتبها المستشرقون،وقد أبرزها الكتاب بشكل يساعدنا في التعرف على صورة البياتي في مرآة الاستشراق، فقد بين أحد المستشرقين أن العمق والجدة في شعر البياتي تجعله مواكبا للشعر في أوربا، بل ويتفوق عليه في تجربته الثقافية ويقصد بالثقافي هنا التقاء شعر البياتي مع البعد الإنساني والعالمي.

والدراسات والشهادات التي تضمنها الكتاب تؤكد علي التأثير الكبير للشاعر عبد الوهاب البياتي في مسيرة الشعر العربي، وتنوع الدراسات تبين لنا تنوع تجربة البياتي وغناها، وحضورها في وجدان المثقف العربي.

 

رمضان بسطاويسي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





عبدالوهاب البياتي