هذه المدينة

هذه المدينة

أنا وهذه المدينة نتصارع صراعاً عنيفا، لا أبراجها المتداعية هوت، ولا تقطعت الحبال بجسورها. ولا أنا رضيت وألفتها، ولاعقدت العزم وهجرتها.

شمخت قرونا على صخرة، ثم اندثرت، تلاشت، انبطحت!

أنا أعرف أن ما بيدها فعلت، الأيام، تحت وطأة الآنام.

تمر بي أيام، أرق فيها- رغم قساوة الأيام- لحال هذه المدينة، ويبلغ بي الأمر إلى دعوة الخالق القهار أن يجود عليها بزلزال! لتستريح من وطأة ما تلاشى حولها منها، فإن انعدمت فأنا آخر من يشتكي، وإن نجا صخرها وبعض ممن عليه، شمخوا من جديد، فإن كنت ممن نجوا فعرس، وإن كنت ممن ذهبوا، كفاني ذهابهم عيدا!

أقول، نادرا ما ينتابني مثل هذا الإحساس الرقيق، لأنه غالبا ما نتصادم أنا وهذه المدينة صداما رهيبا. لا مياه واديها الملوثة جفت، ولا تحولت إلى أسمدة نفايات أهليها. ولا طاب لي فيها مقام ولا ارتضيت عنها بديلا!

للمواجهة بين هذه المدينة وبيني وجهان طبعا، وجهي أو وجهة نظري، ولها كي أعدل، وجه، قبح من وجه، لكنه وجهها، ولها من باب الانصاف أن تصرخ أنها لفظتني، أقول تصرخ، لكنها في واقع الأمر مدينة وقور، بالرغم من صخب أسواقها وملاعبها وجماعات أنسها، تحت الجسور، قبحت من مجالس، رغم أني أعتبرها أرقى وأنظف مما يدور في القصور، قبحت من قصور، كل شيء فيها يدور، كئوس، وجوه معاطف، رجال ونساء، البعض يجيء والبعض يروح، والكل يدور، أقول: مدينة وقور، لا تصرخ إنما تقول إنها لفظتني، فلا أنا ممن يدعون أنهم إليها ينتمون، ينتسبون، هم في تاريخها عريقون، لا ينسلخون، لاينشطرون، هي أمهم ومرضعتهم، لاينفصمون، لا يفطمون، هم "ولاة" المدينة، ويجدون في ذلك كل العزاء، رغم المعاناة في زمن الخيبة هذا، ولا أنا ممن قدموا واندمجوا فانتموا وكانوا على حد تفكير الأوائل سببا في خيبتهم، فالأواخر كسبوا بمنظار أغلبهم، بمجيئهم، بتحملهم وصمودهم، مناعة أصبحت عزاءهم في زمن الاحتقار والتهكم وفي أوقات الجوع والطمع.

أنا لست من أولئك ولا من هؤلاء، أنا فقط ولدت في هذه المدينة، ونشأت فيها، وعشت فيها أغلب أيامي، وكفى! لا يشدني إليها ولا من هؤلاء، أنا فقط ولدت في هذه المدينة، ونشأت فيها، وعشت فيها أغلب أيامي، كفى! لا يشدني إليها شيء غير هذا الصراع القائم بيني وبينها ،وهذا التصادم.

أنا وهذه المدينة نتقاتل قتالاَ شديداً ! لا لا هي روضتني فأعلنت الانتماء، ولا أنا قطعت الحبيل وسلكت فيها مسلك الغرباء !

أنا وهذه المدينة عزمنا- كل على حده- أن يهدم كل منا الآخر، لا ندري كيف ولا متى ، لكننا نسلك إلى ذلك سبيلاً بطيئاً ، طويلاً أكيدا ، متحضراً يشوبه الحذر والدراسة والاستقراء.

أنا وهذه المدينة ، رغم العنف السائد ، وعنف نوايانا ، يحترم كلانا الآخر احتراما كبيرا!

محيي الدين درايدية

 

محيي الدين درايدية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات