أرقام

أرقام

تسعة أعشار الرزق!

في البدء، كانت التجارة أساس تطور الاقتصاد: المبادلة.

وفي البدء، كانت المقولة الإسلامية: "تسعة أعشار الرزق في التجارة"، فالتجارة هي التي تتيح الفرصة لزيادة الإنتاج، ومبادلته بإنتاج آخر.

وقد قامت الحروب، وجاء الاستعمار من أجل فتح الأسواق، فالجنود يأتون ومن ورائهم تجار السلع وتجار المال.

الآن، تعود المقولة مدوية: "التجارة أولاً"، فالعرض يخلق الطلب، والعكس صحيح.. و .. عندما جاءت العولمة كانت أهم قواعدها: فتح الحدود والأسواق، أي: تنشيط التجارة، والأرقام تؤيد ذلك.

هذه القفزة الهائلة

طبقاً للبنك الدولي، فقد زادت الصادرات السلعية في العالم إلى ثلاثة أضعافها تقريباً في ستة عشر عاماً.

كانت الصادرات (1875) مليار دولار عام (80) فأصبحت (5398) ملياراً عام (96)، وكانت نسبة التجارة الدولية (صادرات وواردات) (93%) من الناتج المحلي الإجمالي، فأصبحت 43% عام (96)!

يسجل تقرير التنمية في العالم (98- 99) هذه القفزة الواسعة، ثم يضع التفاصيل القطرية التي تقول "لكن العالم لم يكن شيئاً واحداً، وهو يزيد من حجم تجارته حتى باتت تقترب من نصف الدخل! لقد قفزت بعض البلدان وتراجعت بعض البلدان، ولكن ظل العملاقان الولايات المتحدة الأمريكية واليابان يحتلان ما يقرب من (20%) من حجم الصادرات للعالم كله.

فسجلت الولايات المتحدة حجم صادرات عام (96) (575) مليار دولار، وسجلت اليابان حجماً يصل إلى (410) مليارات، ولكن وإلى جوار العمالقة كانت عملية الصعود والهبوط التي لم تخل من مغزى واضح.

تشير الأرقام، وبقدر قليل من التحليل إلى أن قفزة واسعة قد حدثت في عدد من الاقتصادات الصاعدة، كانت التجارة السلعية للصين تمثل 13% من الناتج المحلي عام (80)، فأصبحت تمثل (40%)، أي أن التجارة الخارجية باتت أساساً متيناً من أسس الاقتصاد، والاقتصاد الصيني الذي كان يبدو مكتفياً ذاتياً زاد تفاعله واندماجه مع الاقتصاد العالمي.

الشيء نفسه- مع اختلاف درجة النمو- ظهر في حالة هونج كونج وماليزيا وتركيا وإسبانيا وكندا.

ولكن..

وفي الوقت نفسه، كان التراجع في اقتصادات تعتمد على المواد الأولية التي هبطت أسعارها بالمقارنة بالسلع الصناعية أو التي خلقت التكنولوجيا بديلاً لها.

تراجعت الأهمية النسبية للتجارة في اقتصاد رواندا وإفريقيا الوسطى وتوجو وأوغندا وبوروندي، بل إن الهبوط أصاب أيضاً بلداناً مثل مصر والبرازيل.

هكذا كانت رحلة الخمسة عشر أو الستة عشر عاماً مزيداً من الإنتاج، مزيداً من التبادل، مزيداً من الأهمية النسبية للتجارة في الناتج المحلي، مع تخلف دول تعثر اقتصادها أو اعتمدت على المواد الخام التي لم يعد لها المكانة نفسها التي احتلتها منذ بداية عصر الصناعة.

ولكن، لماذا أصبحت التجارة ذات أهمية نسبية متزايدة؟

الأسباب واضحة..

فقد شهدت هذه الفترة اتجاهين واضحين، الأول: الميل للاندماج والتكتل، بما يحمله ذلك من تنشيط التجارة بين الدول المندمجة، وبما يعنيه من سقوط للحواجز الإدارية والجمركية والنقدية.. و .. المثال الأكبر الاتحاد الأوربي، ومناطق التجارة الحرة على غرار ما حدث في الأمريكتين وفي آسيا.

والظاهرة طبيعية، فالتكتل يستهدف نوعاً من التكامل بين اقتصادات تقرر أن تنفتح على بعضها البعض، وأن تبحث عن المزايا النسبية لكل إقليم، وأن تتبادل معاً إعطاء التسهيلات ليزيد حجم الكعكة التي يتقاسمها الجميع في النهاية.

أما الاتجاه الثاني، ودون دخول في التكتلات، فهو تقدم الاتفاقات التي عرفت باسم (الجات) والتي استهدفت إذابة الحدود الاقتصادية إلى حد كبير وتحرير التجارة سواء كانت تجارة السلع والخدمات، و.. وصولاً لتكوين التجارة العالمية التي ترعى كل ذلك.

في الوقت نفسه، ومع اتجاهي التكتل والتحرير، كان هنالك تراجع لنظم الاقتصاد الموجه والمقيد ساعد عليه سقوط الاتحاد السوفييتي، وانتقال دول أوربا الشرقية من النظام الاشتراكي لنظام الاقتصاد الحر، وبما ساعد على تحرير التجارة مع الكتل الاقتصادية الأخرى، لقد سقطت- إلى حد بعيد- فكرة الاعتماد على الذات، وارتفع شعار (الاعتماد المتبادل) بما يعني توسيع المبادلات التجارية.

خلال هذه الفترة والتي قفز فيها الاستهلاك بسبب نمو الدخل، وتحسن أحوال المعيشة، خلال هذه الفترة زاد أثر عنصرين: التكنولوجيا، والشركات العملاقة.

لقد خلقت التكنولوجيا قدرة على الإنتاج الكبير، في الوقت الذي حققت فيه دول الشمال وحدها فضل السبق في أهم التكنولوجيا المعاصرة. تكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا الحيوية... و ... من هنا جاء التدفق من الشمال إلى الجنوب حاملاً: المعرفة والمخترعات والسلع أيضاَ، وربما يكون قد أعيد تقسيم العمل الدولي، فانتقلت صناعات بأسرها للجنوب، كالصناعات الملوثة للبيئة أو المكثفة للعمالة، أعيد توزيع الأدوار، فكان ذلك سبباً آخر يزيد التبادل التجاري.

جاءت أيضاً ظاهرة الشركات العملاقة التي بات نصيبها في الاقتصاد الدولي يزيد باطراد، ومعظمها شركات متعدية الجنسية، تعمل في أكثر من بلد، حتى أن المنتج الواحد أصبح نادراً ما يخرج من دولة وحيدة، باتت فكرة الاعتماد المتبادل متجسدة في عمل الشركات متعدية الجنسية، والشركات العملاقة بشكل عام.

هكذا كان النمو في التجارة، وهكذا كانت القفزة والتي لم تخل أيضاً من مخاطر، فكما حملت من فوائد بينها: نقل الأذواق وأنماط الاستهلاك وتكنولوجيا الصناعة والزراعة والمعلومات، حملت التجارة أيضاً التحديات التي تشكو منها دول نامية كثيرة.

لقد كان درس الصعود ثم الهبوط في جنوب شرق آسيا واضحاً في دلالته، وهو أن الانفتاح الكامل والاندماج الواسع مع العالم الخارجي ليس مفيداً على إطلاقه، وبدا واضحاً أن قدراً من التوجيه والتحكم ضروياً.

وقد يبدو غريباً- ولما لم تكتمل نظم تحرير التجارة- أن ترتفع أصوات في ربيع (99) تطالب بإعادة النظر في النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وفي اتفاقات الجات تلك التي لم توفر تكافؤاً بين الدول، وكانت نتائجها لصالح الأغنياء الأقوياء.

***

الآن، يقول كثير من الاقتصاديين: نعم لنمو التجارة، فالتجارة تحمل المعرفة أيضاً، والتجارة قاطرة الإنتاج، ولكن في أي تسير القاطرة؟

تلك هب المعركة بين الشمال والجنوب.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات