شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

... والدم الأحمر... يصبغ الشفق...!

"انهض يا شيخ محمد... إنهم يضربون الإسكندرية".

ولكن الشيخ محمد كان قد قفز من فوق دكّته مذعوراً بعد أن هزّت أرجاء المدينة أول قنبلة من قنابل "الإنسانية" الإنجليزية التي ادّعت أنها أتت لحماية الشعب والخديو توفيق من ثورة العرابيين...!

وكان كل ذلك قبل أن تشرق الشمس في الحادي عشر من يوليو 1882، على أن الإسكندرية لم تكن قد نامت كلها ذلك المساء ، بل وأمسيات أخرى قلبه كثيرة، فمنذ شاهد الإسكندريون ذات يوم قبلها بشهرين تلك البوارج المنشأة فى البحر على طول ساحلهم، وهم يدركون أن المستقبل يخبئ لهم أمراً جللاً، ومنذ تداول بعض الناس قصة الإنذار الإنجليزي الذي أرسله الأميرال سيمور قائد تلك المراكب إلى طلبة باشا عصمت قومندان الإسكندرية، وما كان من ردّه عليه، وما تبعهما من رسائل تبودلت تحمل في طيّاتها كل معاني التحرّش بمصر والنية المبيتة لضرب الإسكندرية مهما كانت الملابسات والأسباب.

وبالرغم من نداء "أم إمام" لزوجها الشيخ محمد أن ينهض، فإنه لم يكن قد نام قط، فمنذ الأمس، وقبيل أن ينهض ليؤم الناس لصلاة العشاء في المسجد القائم على صخرة قلعة قايتباي، كان يدرك الكثير جداً مما صار إليه الحال.

وضرب الإنجليز الطوابى!

كان على الإسكندرية ضباب مخيف من الدخان والغبار وقصف المدافع يصم الآذان، وكلما بدل الريح سحب الدخان، كانت تشاهد كرات المدافع المصرية تسقط في البحر في منتصف المسافة بينها وبين بوارج الأسطول، وكانت البوارج تمرح في رميها ومدافعها تطلق قنابلها على مرمى بعيد، وتصيب بطاريات الشواطئ فتحطّمها تحطيماً، كانت تضرب مثنى وثلاث ثم تعود فتصطف في هوادة تجاه كل طابية، فتصف عليها قنابلها حتى تدكّها دكّا، وعندئذ تقترب منها وتنسف البطاريات والمدافع التي تكون قد انقلبت عن موضعها تحت تأثير قنابل الأسطول، ثم تنثني على الرماة فتحصدهم حصداً بطلقات المداليوزات المركّبة على بطاريات البوارج، ومع كل ذلك، كان الرماة المصريون لا يزالون قائمين على ما بقي من مدافعهم المكشوفة في العراء، لا يرهبون الموت الذي يكتنفهم من كل جانب، فيروجون ويبدون وسط الدخان الكثبف كأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا في حومة الوغى، ثم بعثوا ليكافحوا العدو من جديد.

لم يكن الشيخ وحده هو الذي انطلق مع امرأته وولده خارج الدار، كان الأهلون جميعاً قد غادروا دورهم وعرفوا أنها التضحية الكبرى التي يجب أن يؤدوها وعرفوا أنها التضحية الكبرى التي يجب أن يؤدوها لوطنهم الحبيب، الرجال والنساء والصغار والشيوخ، كلهم اجتمعوا في ساحات الميادين وانطلقت من أعماقهم هتافات داوية صاخبة أن قتلوا كل إنجليزي، ثم اجتمعت أفكارهم جميعاً لمناصرة أهل الطوابي، فانطلقوا جميعاً كل فئة إلى الطابية القريبة، ليهتمون بالموت، ساخرين من الحديد والنار، كلهم تستحثهم عاطفتهم الوطنية والثورة على الخديو الخائن الذي دعا الإنجليز ليصبّوا فظائعهم على الشعب من ذلك الأسطول الملعون..!

وانطلق الشيخ محمد إمام المسجد وامرأته أيضاً وعلى كتفها طفلها، وعلى الكتف الآخر سقاء، انطلقوا ومعهم كل أهل الحي من رجال ونساء نحو طابية قايتباي، وكانوافي خلال انطلاقهم لا يكادون يعبأون بشهدائهم الشجعان الذين يحصدهم الرصاص حصداً من بعيد، فيترحّمون ويتشهّدون ثم يستمرون في إنطلاقهم نحو الطابية ليشتركوا مع حاميتها في الدفاع عنها، وكان الجند يتساقطون واحداً في إثر آخرن والدم الأحمر يسيل في جنون، وأحجار الطابية تطير في الهواء مع ضؤبات القنابل، ومع هذا، فالكل لا يعبأون، وكلما سقط مدفع انطلقوا إلى سواه، وكلما سقط منهم رجل حلّ محلّه سواه، كلهم يضربون، زكلهم يقتلون، والمراكب لاتزال في ضربها الوحشي لا تهادن ولا ترحم، ولا تهتم لشيء على الإطلاق.

وسكتت المدافع

مضى من النهار نصفه، ولم يعد هناك من يستطيع أن يطلق مدفعاً بعد، ولم يعد هناك مدفع يصلح للضرب على الإطلاق، تهدم في الطابية كل شيء، وسكن المكان كله إلا من بقايا آهات تحمل بعض أنفاس أخيرة، وبضع أنّات تخرج من بين شفاه جريحة، ثم لا شيء بعد...!

ومضت البوارج الإنجليزية مبتعدة إلى طريق آخر وقد اطمأنت إلى أن كل شيء قد انتهى، ولكن الشيخ محمد كان لايزال هناك، ومن خلفه امرأته وحدها بلا طفل بعد أن قتل، وكان هناك بضعة رجال هم كل من بقي من حماة قايتباي، وراح الجميع يعملون، الشيخ محمد وحده يجر عربة نقل يحمل فيها الجلاحى فيخترق المدينة إلى محطة الرمل حيث المستشفى العسكري، أما الآخرون، فيجروّن عربات فوقها ثلاثون جثة لاتزال الماء تقطر منها، وقد شدّت بالحبال لتتجه كلها ناحية المقابر المجاورة حيث لا احتفال، فقد كانوا كلهم شهداء...!

أما "أم أمام"، فكانت وحدها مع امرأتين بقيت من نساء الحي تدور في صحن المسجد، تخفف عن الجرحى الراقدين ما استطاعت حتى يعود رجلها ليحملها إلى المستشفى، تسقيهم وتمسح دماءهم، وتمزّق من ملابسها وملابس الشهداء حولها لتضّمد بها ما تستطيع من جروح.

وفجأة، والشيخ محمد يستعد لنقل شحنة جديدة من الجرحى، لمح من بعيد بارجتين شامختين تقتربان مرة أخرى وترابطان غربي القلعة المهدّمة، ثم من جديد، بدأ صراع ضخم، ودوت أصوات قنابل مدافعهما تدك ما بقي من حطام، وتمر من ورائها إلى حيث من بقي من القوم، وأدرك الشيخ محمد ما هناك، كان واضحاً أن السفينتين لا تريدان حطام القلعة وحدها، بل تريدان هدم المسجد أيضاً.

وصرخ الشيخ محمد في جنون، وترك رجاله من بقي من الجرحى في صحن المسجد، وانطلقوا جميعاً إلى مدفعين كانا لايزالان قائمين في الجهة الغربية الشمالية من القلعة، وبدأت معركة أخرى صاخبة، دفاعاً عن المسجد الكريم.

وانهالت قذائف البارجتين على المسجد ومن فيه، وسكت المدفعان بعد قليل، ولكن القذائف كانت تحطّم كل شيء.

وانقضت ساعتان، ثم ساد سكون مخيّف خيّمت خلاله سحب الغبار والدخان على ما بقي من حطام المسجد، وفجأة دوت صرخة اخترقت ذلك الحجاب:

- انهض... انهض يا شيخ محمد...

ولكن الشيخ محمد لم يكن يستطيع أن ينهض بعد...!!

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




طوابي الاسكندرية وجثث الجنود تحولت كلها إلى انقاض ورماد