واحة العربي

واحة العربي

النجوم
من عصر الخلاء الرومانسي ونجوم الغناء

أخطر ما فعلته المدينة الحديثة- ذات الأضواء الساطعة- أنها قطعت الطريق بيننا وبين النجوم، حيث لم يعد ممكناً- خلال المأزق العاطفي المتكرر- أن تتوجه للنجوم- نجوم الليل- كي تبكي على حالك، وحتى القرى والنجوع والتجمعات السكانية المتفرقة وقعت في مصيدة الكهرباء بما فيها من اضواء وراديوهات وتليفزيونات- لا تنس سطوة الألعاب الالكترونية والكمبيوتر- مع أن الآباء- طوال الأحقاب الممتدة- صادقوا النجوم واهتدوا بضوئها وتوحدت توقعاتهم ومشاعرهم في سلوانها بحثاً عن العزاء الأزلي المفعم بالشجن، وكنت- وبيتنا أيامها في الحقول خارج القرية- أتقافز بين النجوم لائذاً بالملائكة هاربا من شياطين الأرض، وكثيرا ما بحثت عن الجنة التي عاش فيها أهلي القدامي- آدم وحواء- في واحدة من هذه النجوم، كما أن الأمر لم يخل من مواقف حارة اشتعلت فيها عاطفتي المتشبثة بالبنت- محبوبتي- كي أخلو بها بعيدا عن "العزال" وفي منأى عن مناطق سيطرتهم في القرية، مازلت أسعى لذلك حتى الآن دون اهتمام بكل الكتب والمطبوعات والأفلام والمعلومات التي داهمت المسافة الرومانسية الجياشة التي أهلكت فيها أكبر كمية معروفة من الأحلام الإنسانية، والتي كانت قمة هزيمتها واندحارها مشهد هذا المخلوق الذي يتحصن في ملابس ذات تكوينات غليظة (تشابه ما يرتديه غواصو أعماق البحار عادة)، حيث يهبط فوق سطح القمر ليجرح مشاعر تعودنا أن تتسامى رقيقة ودافئة، هذا المشهد يتكرر يومياً بشكل آلي في كل تليفزيونات العالم.

ودنيا النجوم واسعة ومتسعة ومعقدة، ليست فقط بصفتها من أوائل التكوينات الكونية الى أثارت خيالنا ورعبنا وتوجسنا وتوسلنا وأدعيتنا، بل- وحتى حينما أصبح الفلك علماً يدرس في أعلي وأعمق مراتب البحث والتمحيص والتحليل والاستنتاج، لقد اتسع علم عالم النجوم- بشكل مذهل- ليجذب كل التخصصات في الطب والجيولوجيا والضوء والمغناطيسية والكهرباء- وكل قوانين الوجود، ومن أجل سلامتي العقلية- وسلامتكم- فإننا نتوقف- عادة عند حدود الاطلاع المتفائل على تخمينات الحظ التي تنشرها الصحف في أبراج حركة النجوم، وقد أتاح لي ذلك أن استأثر باثنين من هذه الآبراج: السرطان والأسد، فقد ولدتني أمي (والتي لا أعرف لها برجاً حتى الآن) آخر ساعات منتصف ليلة 22 يوليو والتي يكون صباحها 23 يوليو، أى في تلك اللحظات الحساسة التي يودع فيها الكون برج السرطان في احتفال مهيب استقبالاً لبرج الأسد، لكن المأساة- مأساتي بالذات- تبدأ حين أطالع حظي في برج السرطان لآحظى بثروة مفاجئة، غير أن الآسد يدخل مدار حظي الذي ينص على الكارثة التي قد تحيق بي (أحداث مؤلمة من صديق أو حبيب أو قريب) فاضطر أن ألوذ بالحكمة التي تنقذني: كذب المنجمون ولو صدقوا، وألقي جانبا كل ما عرفناه من هذه العلاقة الوثيقة ين الحكام والقادة- وبين العرافين والمنجمين، وفي مختلف العصور والتي كثيرا ما وردت في الكتب التي تناولت حياتهم وحكاياتهم، إنه الخوف الإنساني الأزلي من الغد وما يكتنفه من غموض قد تبدده رؤى هؤلاء المستشارين، ومازلنا نذكر حوار تريزياس مع المللك أوديب ، والذي حلل فيه العراف أسباب الوباء الذي اكتسح المملكة، والمتضمن رؤية سابقة أن أوديب سوف يقتل أباه ويتزوج من أمه، كان نجم أوديب قد دخل مرحلة النحس الذي أدى به إلى ملك أعمى- من هول ما عرف- تقودة ابنته كأي ضال في هضاب الاغريق.

لكننا- دون أن نكون ملوكاً أو قادة- أنشأنا- حديثاً- معجماً لاستخدام النجوم بعد أن ظلت تدور في أفلاك الشعر القديم والأساطير الشعبية وطقوس الزواج والآنجاب واحتمالات الانتصار، فالإنسان النعاصر ذو المشاعر الرقيقية: نجمه خفيف، أي أنه قابل أن يصبح مضطرباً ازاء أحداث لا تدعو إلى الاضطراب، والمنجوم هو الذي تصيبه الكوارث المتوالية- أي ذو الحظ العاثر، والنجم- أو النجمة- صفة لمن يبرز في سطوع سماء عمله: الفني في معظم الأحوال: كالتمثيل والموسيقى والغناء، أي يمكنك أن تقول إن تحية كاريوكا كانت نجمة الرقص الشرقي، وفاتن حمامة في التمثيل، وعبدالحليم حافظ في الغناء، أمام أم كلثوم فقد تم تصعيدها لتصبح كوكب الغناء- أعلى بعة مدارات عن كونها نجمة، لكنك لا تستطيع أن تقول عن جمال كامل إنه نجم الرسم ، أو محمد حسنين هيكل نجم التحليل الصحفي ،أو يوسف ادريس: نجم القصة القصيرة، وأكثر من وردت النجوم في أغانيه الباكية كان فريد الأطراش، أما نجمة إبراهيم فهي الممثلة البارعة التي لاتنسى، وعليك أن تتذكر دورها في فيلم صلاح أبوسيف: ريا وسكينة، والنجمة أم ذيل جرم "أي نجم" في جنوب السماء ذو ذيل طويل، رصده المصريون القدماء، وكانت النجوم ذات أثر واضح في بناء هياكلهم وأهراماتهم ومعابدهم، وتركوا لنا في قبر سيتي الأول خريطة فلكية، وفي معبددندرة- قنا- دائرة فلكية انتزعها الفرنسيون من سقف المعبد ونقلوها إلى متحف اللوفر، أما نجمة بيت لحم فهي زهرة من أنواع الزئبق تقترن بالنجم الذي أشار للناس إلى مكان مولد السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وعبد الرحمن النجومي قائد سوداني في ثورة المهدي الذي حاصر الخرطوم عام 1885، ثم اختاره المهدي على رأس حملة كبيرة لغزو مصر لكنه انهزم في معركة "توشكي" عام 1889، ثم هناك آخر الأمر: عبدالله النجومي صديق الملك المصري السابق فاروق، وقائد سلاح الحدود، ومرافقه الدائم في رحلات الصيد في الصحراوات المصرية شرقاً وغرباً، وكان ذا علم ودراية بجميع أنواع طيور هذه الفلوات، ووضع كتابا شهيرا عنها كان يدرس في كليات الزراعة في ذاك الوقت، وقد رحل منذ ربع قرن، حيث تحول قصره في ضاحية المطرية- بجانب مدينة عين شمس بالقاهرة- إلى معهد لعلوم الصحراء.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات