جمال العربية

جمال العربية

أساليب عصرية

أول هذه الأساليب العصرية نطالعه في كتابات العالم الأديب الدكتور أحمد زكي، أول رئيس تحرير لمجلة العربي، وواضع خطتها وتصورها الأول، مستفيداً من خبرته السابقة في رئاسة تحرير مجلة "الهلال" المصرية قبل مجيئه إلى الكويت ليحمل مسئولية "العربي" التي ستطل على القارئ العربي بدءا من شهر ديسمبر عام ألف وتسعمائة وثمانية وخمسين.

كان أحمد زكي واحدا من رجالات ذلك الجيل الموسوعي الذي جمع بين ثقافة متخصصة عميقة هي الثقافة العلمية، وثقافة عريضة واسعة تضرب في كل مجال بسهم هي ثقافة عصره المترامية الأطراف.

لكن الذي ميز الدكتور أحمد زكي- كما ميز أقرانه في جيله- أنه كان صاحب أسلوب، فلم يكن مجرد كاتب أو عارض لفكرة أو لمجمل قراءاته وإنما كان أسلوبه تعبيرا صادقا عن شخصيته العالمية الأدبية، مصداقا للقول الذائع: الأسلوب هو الرجل.

تُري، كيف يتفجر وجدان عالم أديب، بصيغة غير مألوفة لدعاء عصري، في لغة عذبة صافية كأنها اقباس من الشعر المنثور، تلتمع في ثناياها خبرة العالم الأديب، وفطرة الأديب المرهف؟

يقول الدكتور أحمد زكي:

"أي ربي

أين أنت، وكيف تكون؟

خلقتنا وتواريت عنا، اختفيت عن أبصار لنا وعن أسماع، وقلت: انظروني بالبصيرة إن عز البصر، وانظروني بالفكر عن طريق العمل، ولكنك أعطيتنا عقلا يتلاشى كلما تعمق فيما ينظر فيه، كالشمس تلقي أشعتها في البحر فلا تنير منه إلا ظهرا، وتبقى على ظلماتها البطون.

فما ضر لو أن العقل كان أطول، ولو أنه كان أنفذ وأبصر.

وننظر إلى ما خلقت، فنحسن حركة وراء ثوب الطبيعة، هذه التي خلقت، والحركة إن دلت فهي تدل على موجود، ولكن: ماكنهة؟ ما هويته؟ ما بدؤه؟ ما انتهاؤه؟ لسنا ندري ولا هو يريد أننا ندري، وما كان أيسر عليه لو أنه أراد.

وجعلت الجنة لمن يراك على قصر بصر وقصر بصيرة، وجعلت النار وقلت- تعاليت- إن الله غفار، وهو يغفر الذنوب جميعا".

ثم يقول الدكتور أحمد زكي:

"أي ربي..

خلقت النار وخلقت النور.

وخلقت النور باردا وخلقت النار حارة، والأصل فيهما واحد.

ومن النور والنار خلقت الكهرباء، ومن الكهرباء خلقت نارا وخلقت نورا. أصول في الكون اختلفت مظاهرها، واختلفت مخابرها، والأصل واحد وهو أثل من أصولك الأولى يارب الأرض والسماء.

أي ربي..

إن القوة لك، والنصر منك والهدى. فاهدنا يارب من لدنك رشدا".

وتحملنا كلمات الدكتور أحمد زكي إلى نموذج أسلوبي مغاير، لم يتُح له الاتكاء على خلفية عملية، أو خبرة بلغة الاتصال التي أتيحت لواحد من علامات الصحافة الأدبية والثقافية في القرن العشرين: الدكتور أحمد زكي. وإن كان يجمع بين النموذجين عصرية التوجه وجدة التعبير وإطراقة الخشوع الروحي لخالق الكون.

إن الدكتور منصور فهمي، في كلمات العامرة باليقين الصادق والإيمان الغامر والروحانية المشرقة يقدم لنا سمت المتأمل المستشرف لحركة الكون، والمتصوف الذي حلت فيه الكائنات وفاضت عنه صورها وأشكالها فيما يشبه التهجد والترتيل.

يقول الدكتور منصور فهمي:

"إذا ما اتجه الفكر في السماوات حيث انتشرت النجوم في الليل، وإذا ما كلّ البصر فيما لا نهاية له من الآفاق المظلمة، وإذا ما خشعت النفس خشعتها من رهبة السكون الشامل، فإنك تشرف بوجهك الكريم من خلال هذه الآفاق وتسمع صوتك في ذلك السكون، وتحس بعظمتك النفس الخاشعة المطمئنة، حينئذ تبدو الآفاق المظلمة كأنها باسمة مشرقة، ويتحول السكون إلى نبرات مطربة تنبعث من كل صوت، وحنيئذ تتغنى النفس الخاشعة لتقول : أنت أنت الله!

وإذا ما وقعت العين على زهرة تتفتق في الأكمام، أو تلاقت العين بعين يملؤها الحسن والابتسام، وإذا ما أعجب المعجبون بجمال الفجر المتنفس، وتغريد الطير المتربص، وعاود الصدر انشراحه وملأ القلب أرتياحه، إذ ذاك يشرق جبينك النوراني الجميل فنراك أنت أنت الله.

فبينما يمس النفس من مظاهر العظمة ومظاهر الوسعة، ومظاهر الرحمة ومظاهر القدرة والقضاء، ومظاهر الدوام والبقاء، ومظاهر الجمال والجلال، اعتاد الناس أن يصفوك بالعظيم والواسع والرحيم والقادر والدايم والجميل والجليل، وأوتار القلوب تردد:

أنت أنت الله، أنت أنت الله!".

إنسان من الشرق

هذا الوجدان المفعم بأقباس الوجدان، وإن امتلأ عقل صاحبه بأنوار العلم، يعبر عنه الكاتب الكبير يحيى حقي في سطورة بعنوان "إنسان من الشرق" وكأنه يحدثنا عن نموذجي أحمد زكي ومنصور فهمي وغيرهما من أصحاب النزعات العقلية التي لا تجافي توجههما الروحي ويقينهما الإيماني.

ويحيى حقي مدرسة وحده في الأسلوب، مدرسة عصرية حريصة على التحديد والحتمية والعمق، في مواجهة ما يسميه الميوعة والسطحية. وفي محاضرته التي ألقاها بجامعة دمشق عام ألف وتسعمائة وتسعة وخمسين- إبان الوحدة بين مصر وسوريا- كشف يحيى حقي عن خصائص هذا الأسلوب الذي دعا إليه عندما سمى محاضرته: "حاجتنا إلى أسلوب جديد".

فمن خلال تحليل ثاقب ذكي لأساليب اللغة والتعبير وأنماط الفكر يكتشف يحيى حقي أن الميوعة- أي انعدام التحديد- في الفكر، تؤدي إلى ميوعة في الأسلوب، وأن ميوعة الأسلوب تفضي بدورها إلى ميوعة في الفكر.

يقول يحيى حقي: "لقد فقدت ألفاظنا معناها وكرامتها وسقطت في أطر الكليشيهات الجامدة من مثل "في سهولة ويسر، في خفة ورشاقة، في دعة واطمئنان، في خفر وحياء، دعامة قوية وأساس متين، داهية كبيرة ومصيبة عظمى" هذا السجع اللفظي لا يزال يندس في بعض أساليبنا في صورة مستترة هي السجع الذهني أو السجع العقلي".

ويحيى حقي- عاش عمره يدعو إلى أسلوب علمي في الأدب، الجمال من شروطه الأساسية، لكنه يعتمد على تحديد المعاني، واختيار ألفاظ محددة لها، ألفاظ حتمية، بحيث لا يكون المكان صالحا إلا للفظ واحد يتعذر أن يُستبدل به لفظ آخر، حتى نزيل من أساليبنا كل علل الزيف والتبرج الفارغ والتزويق الذي لا طائل تحته، وحتى نخرج أيضا من الإطالة والإفاضة واللغو إلى الإيجاز النبيل الكريم الذي هو سر البلاغة في لغتنا الجميلة، وهو شيء آخر غير الأسلوب التلغرافي لأننا نتكلم عن الأسلوب الأدبي الجميل، ولا يوجد فن بلا صنعة.

هذا الأسلوب الذي يتسم بالتحديد والحتمية والعمق، والذي دعا إليه يحيى حقي وطبقة في كتاباته، نجده متحققا في بهائه وتجليه وهو يحدثنا في كتابة البديع عطر الأحباب تحت عنوان "إنسان من الشرق" ويقول :

"هيهات أن تجد هذا الرجل في الغرب. أؤكد لك أني بحثت عنه لأني أحبه، حيث عشت في الغرب، فلم أعثر عليه. ذلك أن موطنة هو الشرق، موطن الصحراء الممتدة والسماء الصافية، والنجوم اللامعة المنتشرة، والكون لحن هو خليط همسها جميعا.

في الشرق لقيتُ هذا الرجل كثيرا حتى ألفته، وجلست إلى جانبه مرارا فلم يُحس بوجودي، بل كنت أنا هذا الرجل أحيانا وأنا في الشرق، فلما انتقلت للغرب اشتقت أن أكونه وحاولت فأخفقت، إنه الرجل الذي يخلو لنفسه، تحسب أن ليس في مواجهة الطبيعة كلها أحد غيره، ظهره محنى وكأنما فوقه أثقال، ورأسه دان إلى القلب كأنما ينصت لوشوشته، وقد تكون في يده أحيانا عصا يخط بها على الأرض لغة لم تتكشف أبجديتها بعد، ولكنه يظل صامتا لا تدري أهو سارح الذهن في متاهات كثيفة، أم هو مستغرق في التفكير اعترضته فكرة فسلمت فعانقت فحضنت- كما نفعل في الشرق- فاستوعبت فليس منها فكاك، وكلما طال الصمت أكتسى وجهه شيئا فشيئا بغلالة من الحزن، حزن رقيق غير مفترس، ليست له أنياب تنهش بل راحة يد كالقطيفة تربت بحنان، يدل اطمئنان الرجل على أنه يجد لهذا الحزن الرقيق لذة تنتشي بها روحه ويتحلب لها فمه، ثم فجأة يمصمص بشفتيه، ويهز رأسه، وينطق لنفسه- فلا أحد معه- بكلمة واحدة، هي تارة "دنيا" وتارة "حكم" جمع حكمة. أين كان؟ ما هي مقدمات هذه الكلمة الواحدة؟ لا أحد يدري.. بل لعله هو نفسه لا يدري، ولو نصب لهذا الرجل تمثال يكون توأما لكان خليقا أن يكون هو النبي الذي يطرف به في الشرق ركب أهل التصوف والحكم المرسلة فكلهم يصدرون أول الأمر عن هذا الاستبحار والشوق الرقيق. فإذا خبطهم الوجد تفرقوا كالطير المنطلق من محبس، ولكل منهم صيحته المخترقة المجلجلة في الفضاء. ولعل الكروان هو رمزهم حين يسبح لربه هاتفا: الملك لك، وهو طير موطنه الشرق أيضاً!".

الزيات وعبقرية العربية

نختتم هذه النماذج من الأساليب العصرية بنموذج لأحد أصحاب الأساليب المتميزة في النثر العربي الحديث، أضفت شخصيته الأدبية وروحه الإنسانية وذائقته اللغوية على كتاباته سمتا حاكاه فيه الكثيرون منذ أن طالعوا كتاباته على صفحات مجلة "الرسالة"- الذائعة الصيت منذ ثلاثينيات هذا القرن حتى أوائل خمسينياته- وهو صاحبها ورئيس تحريرها الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات.

يقول الزيات:

"لكل لغة عبقرية تستكن في طرق الأداء، وتنوع الصور وتلاؤم الألفاظ. وهي من حيث طريقة الأداء تستكن في الإيجاز ومن حيث تلاؤم الألفاظ تستكن في السجع والازدواج".

ثم يفصل القول في هذين الأصلين الكبيرين فيقول:

"إذا كانت الوجازة أصلا في بلاغات اللغات، فإنها في بلاغة العربية أصل وطبع وروح. وأول الفروق بين اللغات السامية واللغات الآرية أن الأولى إجمالية والأخرى تفصيلية. يظهر ذلك في مثل قولك: قتل الإنسانّ فإن الفعل في هذه الجملة يدل بصيغته الملفوظة وقرينته الملحوظة على المعنى والزمن والدعاء والتعجب وحذف الفاعل. وهي معان لا يمكن التعبير عنها في لغة أوربية إلا بأربع كلمات أو خمس. وطبيعة اللغات الإجمالية الاعتماد على التركيز والاقتصار على الجوهر، والتعبير بالكلمات الجامعة، والاكتفاء باللمحة الدالة. كما أن طبيعة اللغات التفصيلية العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع والاهتمام بالملابسات والاستطراد إلى المناسبات والميل إلى الشرح. ولم تعرف العربية التفصيل والتطويل والمط إلا بعد اتصالها بالآرية في العراق والأندلس.

ولا أقصد من وراء ذلك إلى تفضيل لغة على لغة، أو ترجيح أسلوب على أسلوب، فإن الاختلاف اختلاف جنسية وعقلية ومزاج. والتفصيل إذا سلم من اللغو كان كالإجمال إذا برئ من الإخلال، وكلاهما حسن في موقعه، بليغ في بابه. وقد يكون التفصيل من الإيجاز إذا قدر لفظه على معناه ".

ويستشهد أحمد حسن الزيات بأمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى وسهل بن هارون، الذين كانوا "يتوخون جانب القصد، ويؤثرون طريق الإيجاز. حتى قال جعفر للكتاب: إن استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا. والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال وهي تجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة".

ثم يقول الزيات:

"فالازدواج على إطلاقه، والسجع على تقيده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ، منذ كان للعرب ذوق، وللعربية أدب: فليست الأول فيها هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة ونمت بالترف وسمجت بالفضول وفسدت بالتكلف. فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات والمزاوجة بين الكلمات والمجانسة بين الفواصل، إنما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله".

الطريف أن الذوق المعاصر في النظر إلى الأساليب وإلى فنون البلاغة ومستوياته، لم يعد يتوقف كثيراعندما كان ينادي به الزيات ويدعو إليه في كتابه المعروف "دفاع عن البلاغة". وذا كانت ملاحظاته صائبة وصادقة فيما يتصل بخصائص المأثور من البيان في تراثنا العربي فإن الوقوف عندها لم يعد بالأمر الذي يتبع في أساليبنا العصرية أو يلتفت عليه الكتاب.

فبدلاً من إيقاع السجع والازدواج الذي كان يدعو له الزيات، والذي يشبه إيقاع التقاسيم الشرقية في الموسيقى، القائم على التوازي والتقابل، هناك التموجات الأسلوبية العريضة العميقة، والاندفاعات الطليقة والرفرفة الحرة. فالإيقاع الأسلوبي أنواع، توائم طبيعة الشعور وحقيقة الجو النفسي وأنهمار الفكر وتدفقه وطبيعة المجال.

فالزيات- الذي كان يتطلب في الأسلوب البليغ عنصر التلاؤم أو الموسيقية، الذي يتحقق في الكلمة بائتلاف الحروف وتوافق الأصوات وحلاوة الجرس، وفي الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقرات وحسن الإيقاع عن طريق المزاوجة بين الكلمات والجمل- كان يقدم في ذلك الوقت خطوة واحدة في طريق الأسلوب العصري، تلتها خطوات عديدة تجاوزته، وامتدت بها المغامرة مع اللغة والتراكيب إلى أفق إبداعي مغاير وفضاء أرحب.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات