القدس المحتلة عبير الروح

القدس المحتلة عبير الروح
        

          لم تعصف الأخطار يوما بالمسجد الأقصى المبارك كما تعصف به الآن، فالمسجد الأسير يلجأ لكل مسلم أن يغار عليه. فالوضع ليس ورديًا كما هي حال الزخارف الوردية القديمة المنقوشة على سور القدس، ولا جميلًا كجمال المقرنصات الأيوبية والمملوكية. لقد تعرض المسجد للعبث به بعد سقوط القدس من قبل جيش الاحتلال، كما تعرض لحريق العام 1969 وحادثة إطلاق النار على المسجد الأقصى وقبة الصخرة على يد الصهيوني جودمان العام 1982ومذبحتين في الانتفاضتين الأولى والثانية، وكانت استفزازات اليميني المتطرف شارون حين اقتحم المسجد العام 2000 مع آلاف الجنود سببا لانطلاق انتفاضة الأقصى. «العربي» التي خصصت دوما مساحات خاصة للقدس منذ بواكير تأسيسها قبل خمسين عاما، بل في أعدادها الأولى، وبالتحديد في العددين الخامس والسادس حملا استطلاعين عن القدس، تعود في الذكرى الخمسين لها للمكان لقراءته من جديد. ينقل لنا الكاتب المقدسي صورة عن القدس الآن دون أن تغيب عنه صور الماضي، ومنها ما كتبته «العربي»، ليستهدي به الكاتب ويقارن الحاضر على ضوء الماضي. إنه استطلاع عن المدينة المهددة بالتهويد والمصادرة والسرقة والاستلاب.

          أحمل أخبار القدس الحزينة وأسير إليها. فلا طريق من الغرب، حيث جدار المستوطنات وحواجز الاحتلال فورثنا البكاء على جبل النبي صموئيل بعد أن كان الغزاة الفرنجة يبكون حينما حررها صلاح الدين، فأصبحوا عاجزين عن دخولها فلم يبق لهم غير النظر. ولا من الشرق حيث جثم السور فجعل أقصى ما نفعله هو النظر ممزوجا بطعم ملح البحر الميت الذي تطل عليه أبو ديس، فهل من الجنوب؟ وما أدراك كم هي قاسية حواجز الجنوب على باب بيت لحم؟ فلم يبق غير الشمال عند حاجز قلندية وسورها العالي وجنود احتلال يدققون في وجوهنا قبل بطاقات هويتنا.

          كأنني في رحلة آلام طويلة، هكذا ينتابني شعور كلما زرت القدس متسللاً، هاهم الشيوخ والمسنون والمرضى يحاولون البحث عن خرم إبرة، لأسير معهم لعلي أظفر بالدخول، فمن يدري ماذا تخبئ الأيام لنا بعد أن حرمنا حتى من دخولها، ونحن من أبنائها؟

          أعمى الله عيونهم عنا، ولا طريق غير التسلل من أودية خربتها ملوثات المستوطنات المطلة على شمال غرب القدس. لم تكن سوى ساعة من الزمن خشينا فيها ليس إعادتنا بل اعتقالنا والمس بكرامة كبار السن الطالبين أمنية الصلاة أو المرضى المتجهين إلى المشافي. بعد قليل نصل، وسنكتشف مرة أخرى أن زيارة القدس تستحق كل هذه المخاطرة والمغامرة؛ فمتعة زيارة القدس والتجوال فيها والصلاة تنسينا آلام الطريق. هاهو «الكراج الجديد» بضع خطوات ونطل على باب العمود المتوسط سور القدس في الجهة الشمالية.

على باب العمود أو باب دمشق!

«لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي
سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب
وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية» (الأخوان رحباني)

          نهبط درجات باب العمود، حيث الباعة يلملمون بضائعهم خشية موظفي بلدية الاحتلال وجنوده، طفل لا يتجاوز الرابعة عشرة يبكي على الأحذية التي نثرها الجنود في الشارع الرئيسي، وهو غير قادر على تجميع البضاعة، لم يتغير الكثير: هنا جنود يضربون شابًا، هنا الصراف الكرد، الأغاني، ورائحة البهارات والزعتر والفلافل وبائع الصحف المشهور، ورائحة النارجيلة من المقهى، يقف جنود الاحتلال من حين لآخر يدققون في هويات المواطنين، أحد جنود الاحتلال جلس في نافذة سور القدس فوق باب العمود مباشرة، بالضبط في المكان القريب من الأشكال التي زينها السلطان سليمان القانوني حين بنى السور، تلك الأشكال والزخارف التي أراد أن تدخل البهجة إلى قلوب زائري المكان المقدس عند باب العمود، يمامة تطير، تدور نصف دائرة ثم تعود مكانها بجانب قرينها. من أعلى تبدو الزخارف ذات الشكل الوردي المخروطي مثيرة لخيال الأطفال وتداعب معرفة الكبار بالتاريخ.

          يمامة لا تميز بين حجارة السور وفوهات بنادق الجنود؛ فهي إنما تبحث عن مطلع مرتفع. يرتفع صوت الباعة على مدخل «باب دمشق» المقدسي، فأين أنت يا دمشق؟!

          لا بد أنه سمي كذلك لأن القادمين من دمشق الشام كانوا يأتون من هذا الاتجاه إلى هذا الباب، ولأجل ذلك سميت الطريق مقابله بطريق نابلس.

أزقة البلدة القديمة وأسواقها

          ننتقل من سوق إلى آخر، من القطانين إلى خان الزيت إلى سوق اللحامين والخواجات والعطارين وسوق الخضار الذي لم يعد قائمًا، حيث اشترته عائلة جويلس وجعلته سوقًا للسياح يبيعون فيه الانتيكات والمصنوعات التراثية. تسلمنا رائحة إلى رائحة أخرى حيث تشكل حاسة الشم دليلا للمرور.

          نشاط الأسواق على الرغم من الحصار أزعج المسئولين فيما يسمى بلدية القدس فدفعت جنود الاحتلال إلى تخريب المشهد، ويتمثل التخريب المتعمد في إزعاج أصحاب البسطات، ونثر ممتلكاتهم، خصوصًا الأطفال. حيث تدوس القدم الهمجية ما يبيعه الفقراء من ميرمية وزعتر وخبز وصحف. ومقابل ذلك يشكل حضور فلسطينيي العام 1948 تشجيعا لصمود التجار وإسعاد الباعة الفقراء. سيذكر الأقصى والمقدسيون الشيخ رائد صلاح الذي يقود فلسطينيي العام 1948 إلى القدس من أجل العبادة والسياحة والتسوق. وهو يشجعهم على الزيارة من أجل حماية المسجد وإعماره، فهو يشجع السياحة الدينية التي تشكل مصدرا مهما لدخل المقدسيين.

          ورائد صلاح هو الذي أطلق صيحته المشهورة «الأقصى في خطر».

          صعب ألا أسمع فيروز تغني أغانيها المشهورة في ألبومها «زهرة المدائن»التي ماانفك أصحاب محلات أسطوانات الأغاني يسمعوننا إياها من عقود كلما زرناها:

«مشيت في الشوارع شوارع القدس العتيقة
قدام الدكاكين البقيت من فلسطين
حكينا سوا الخبرية وعطيوني مزهرية
قالوا لي هيدي هدية من الناس الناطرين» (الأخوان رحباني)

          ملامح سحنات المقدسيين فيها حزن وصبر وانتظار لشيء آت، وهم يواصلون الانتظار أمام البيوت والمحلات في البلدة القديمة، هناك وقت كبير لباعة الدكاكين في القدس كي يجلسوا يطرقون بصمت في انتظار المتسوقين.

          تمر الراهبات الرشيقات في أشكال مختلفة من الزي الديني تبعا لثقافة بلد منشأ الراهبات القادمات إلى المكان المقدس، اختلاف في أسلوب الملابس وأغطية الرأس، تتركز عيوني في عيونهن، أقرأ مشاعر مختلطة، متباينة. كنيسة القيامة هي الأخرى تندب حظها لعدم تمكن المسيحيين من خارج القدس من دخولها هم وزوارها من المسلمين وهم كانوا كثيرين، كانت عامرة لكنها الآن تعاني من قلة الزوار.

          ما زال أحفاد السيد يعقوب نسيبة مؤتمنين على مفتاح كنيسة القيامة، في إشارة إلى تسامح الأديان، فهم على الرغم من أنهم مسلمون فإنهم بموافقة مسيحيي القدس منذ فترات طويلة ما زالوا يحملون مفاتيحها، ينسجم هذا مع عناق مئذنة جامع سيدنا عمر مع أجراس القيامة.

          مداخل المحلات والأديرة تبدو صغيرة، ثم ما تلبث إذا دخلتها أن تفضي إلى مساحات واسعة.من أين جاءت هذه المساحات التي لا يراها المتسوق؟ ومن يمرّ سريعًا؟!

          تغير شكل الناس هنا وملابسهم، فالقليل منهم من تراه بالملابس التقليدية، رجلا كان أو امرأة، لأسباب منع القرويين من الدخول، ولأسباب عصرية، لا كوفيات غير القليل ولا طرابيش سوى عدد محدود جدا.

الكنيس يتحدى

          بالسير في طريق الوادي نشاهد كيف يقوم المستوطنون اليهود المتطرفون هذه الأيام ببناء كنيس في حمام العين في حارة الوادي غرب سوق القطانين، وهو المكان الذي كان وقفا، كان يرصد معظم ريعه لمصلحة المكتبة الخالدية، وأن الأمير تنكز وهو أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون هو الذي أنشأه، فثمة علاقة إذن في النشأة والتأسيس بين حمام العين وخان تنكز الموجود داخل سوق القطانين.

          كان لنا تاريخ عظيم هنا، في كل متر مربع يوجد هناك ما يستحق المحافظة عليه, حمّام يدل على مستوى من المدنية والعمران، ومكتبة تدل على مستوى رفيع من الثقافة، وأسواق كبيرة متقنة الصنع مسقوفة تقي المتسوق برد الشتاء والمطر وتقيه حرارة الشمس صيفا.

          أدخل ساحة المسجد الأقصى، وأصعد درجات البائكة الغربية، يبدو المنظر من ساحة مسجد قبة الصخرة واضحا، حيث إن الكنيس الذي يتم بناؤه يشرف على ساحة المسجد الأقصى من جهة الغرب، كونه مرتفعا، وسيحجب جزءا من المسجد الأقصى ومسجد القبة خصوصا للناظر من تلك الجهة، حيث إن مكان الكنيس هو مابين سوق القطانين وباب الحديد. طفت حول مسجد قبة الصخرة نصف دائرة، ثم رحت أعدّ بوائك ساحة القبة فإذا هي 8 بوائك.

قبة الصخرة: درة القدس الذهبية

          جلست قرب قبة شعرات النبي، أدخلت يدي عبر الفتحة التي تصلنا بالصخرة، حيث تعطرت!

          أخذت بتأمل الشبابيك بزجاجها المعشق الملون، والموجود مثله أيضا في المسجد الأقصى. كلما تحركت الشمس في مدارها تتغير تبعًا لذلك شبابيك المسجد، من حيث تلألؤ الزجاج، هذا شباك يسلم تلألؤه إلى آخر، وهكذا، أزرق، برتقالي. كيف لي عبر ساعة من الوقت أن أحصي الألوان؟ سبحانك ربي! ما أجمل المكان!

          واصلت تأمل قبة الصخرة، ومستويات زخرفتها من بداية الجدران ارتفاعًا حتى مركز الدائرة من القبة، حوالي 35 مستوى زخرفيًا ما بين رخام وخشب، وعبارات وأقواس وشبابيك بزجاج معشق حتى تصل إلى المركز، ثم تحس بأنك لم تنته، حيث لا نهائية الأشياء والمشاعر، ثم تهبط، لا تستطيع أن تنقل النظر بسرعة من السماء إلى الأرض!

          عادت العين لتحط من أعلى القبة من الداخل على أرض المسجد كعصفور، فقال لي الشيخ عبدالكريم الزربا من أئمة مسجد قبة الصخرة إنه يتذكر كيف كانوا يصنعون عطورًا حول صخرة المسجد، فيغطونها بشيء من القماش، ثم يفتحونه حتى أن العطر كان يصل إلى الناس في السوق، فكان العطر يلف المكان، وساحة المسجد الأقصى كلها!

          حدثني الشيخ عبدالكريم الزربا عن أعمدة مسجد القبة ودلالاتها على الأيام والمناسك الدينية، منها هذه الأعمدة الكبيرة الثمانية التي تجلس عليها القبة لها علاقة بالآية الكريمة: ويحمل عرش ربك يومئذٍ ثمانية .

          أسير والشيخ عبد الكريم الزربا بين القباب الخارجية حول قبة الصخرة، قبة المعراج، والأرواح، يشير إلى بلاطة سيدنا الخضر التي يظن الناس أن النبي الخضر عليه السلام صلى عليها، وعن مكان خاص بصلاح الدين يقع أسفل إحدى القباب، أتأمل عن قرب سبيل قايتباي، أجمل الأسبلة في المسجد الأقصى. لا بد لزائر القدس، في أية مناسبة، أن يتذكر القائد العسكري صلاح الدين الأيوبي، محرر القدس. ويسمى هذا القائد صلاح الدين والدنيا، كما كتب بالحفر على منبر حجري في ساحة قبة الصخرة في الجهة القبلية أقيم تكريما له، وهو يقع بين ساحة مسجد القبة العلوي والمسجد الأقصى نزولا بواسطة الدرجات، وهو يلتصق بالبائكة القبلية التي تحمل «المزولة» وهي ساعة شمسية دقيقة كان يهتدي بها المسلمون على أوقات الصلاة، وقد تأسست في العهد العثماني.

في المسجد الأقصى

          في داخل المسجد الأقصى العريق والصغير مقارنة بمساجد كبيرة، وتحت القبة مباشرة، نقرأ عبارات عن ترميم وتجديد المسجد في عهود إسلامية سابقة، حيث استطعنا قراءة اسم إحدى الشخصيات التي جددت في معمار المسجد، وهو سليمان باشا والي طرابلس وصيدا في العهد العثماني. في إحدى الزوايا، تجد خزانة زجاجية فيها آثار قنابل مسيلة للدموع، حيث جمع سَدَنة المسجد الأسطوانات تلك ووضعوها في إشارة إلى الأيام الدموية التي شهدتها ساحات المسجد أكثر من مرة، خصوصا بعد مذبحة الأقصى العام 1988. والثانية بعد12 عاما أي العام 2000.

عودة منبر صلاح الدين ومركز الكون

          تلح عليّ أحداث التاريخ، فأتذكر أن المنبر الذي حرقه مايكل دنيس في 21 /8/1969 إنما أهداه القائد صلاح الدين الأيوبي للمسجد المحرر حين حرر المدينة المقدسة من الفرنجة الغزاة. وقد بناه نور الدين زنكي العام 1167 أي قبل تحرير القدس بعشرين عاما، ونقله صلاح الدين من منطقة «الحلوية» في حلب وكان ارتفاعه 6 أمتار وعرضه السفلي 4 أمتار وعرض الدرج بلغ مترا واحدا. وهو يختلف عن منبر الحرم الإبراهيمي الذي قام صلاح الدين أيضا بإهدائه له يوم التحرير.

          والمنبر الجديد هو نسخة تكاد تكون طبق الأصل من المنبر المحروق، هو منبر بديع. يذكر د. محمود البلبيسي مدير مشروع المنبر أن بناء المنبر استغرق خمس سنوات في الأردن، ويتكون من 16 ألف وخمسمائة قطعة، ولم يستعمل فيه أي نوع من الصمغ أو وصلات المعادن أو أي برغي أو مسمار، بل يقوم على فن التعشيق الذي يحتاج إلى دقة، وطريقة التعشيق، تسمح للقطع الخشبية أن تتنفس أي أن تتقلص وتتمدد بالبرودة والحرارة، وهو مكون من خامة خشب الجوز والأبنوس وبلغت تكلفته مليونًا و200 ألف دينار أردني تبرع بها جلالة الملك عبد الله الثاني.

          وفيما يتعلق بطريقة صنعه فقد نقل عن عميد كلية الفنون الإسلامية د. منور المهيد: «كنا نظن أن المنبر مبني على أساس تقاطع المربعات والمستطيلات ولم ننجح في جهودنا. إلا أننا تمكنا من فك اللغز ومعرفة أن كل هذا العمل بني على أساس النسب الفاضلة، ووجود مركز للعمل وكل التفاصيل الأخرى ما هي إلا انعكاس لهذا المركز، وهو فن يقوم على أسس هندسية قيمية بزخرفة نباتية وخط عربي ومقرنصات وخراطة وتطعيم بالعاج والأبنوس بأسلوب التعشيق، وهي الأنماط الستة الرئيسة المكونة للفن الإسلامي، لتعكس فلسفة وحكمة إسلامية تقوم على وجود مركز للكون، وما الأمور الأخرى إلا تجليات وانعكاس لهذا المركز، إذ يؤدي الالتزام بها إلى السعادة».

والمرواني المسجد الكبير!

          أسير خارج المسجد، ثم أهبط على درج صغير يقع في الزاوية الجنوبية الشرقية للحرم، يوصل إلى المسجد المرواني الذي تم افتتاحه العام 1997، وهو المكان الذي كان يعرف بـ «اسطبلات سليمان»، وهو مكون من مستويات متعددة من الارتفاع، ومقام على أعمدة وعلى جزء من أساسات السور في الجهة الشرقية، وتبلغ مساحته 4500 متر مربع تحت مستوى المسجد الأقصى، وبذلك توافرت للمصلين هنا مساحة تفوق مساحة مسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، حيث يتسع لعشرة آلاف مصل. وقد قطع إعمار المسجد على اليهود خططهم بالدخول إلى الحرم القدسي وتحويل جزء منه إلى كنيس يهودي، خاصة أن المسجد المرواني يرتبط مع خارج السور بعدة بوابات مغلقة من السهل فتحها وربطها بساحة البراق، وعلى إثر ذلك منعت إسرائيل إدخال أية مواد بناء إلى ساحة الأقصى.

ليس كل ما يلمع ذهبًا

          باستثناء قبة الصخرة المذهبة وقطوف بلح شجرات النخيل القليلة في ساحة المسجد الأقصى وعيون الأطفال المقدسيين المشعة أملا، فإن كل ما في المدينة المقدسة يعاني من الصدأ!!

          فالصورة المشهورة للقدس التي تتوسطها البلدة القديمة بسورها وقبة مسجد الصخرة التي تأخذ مكان السيادة والبروز في الصورة كونها في الوسط وباللون الأصفر المشع، قد توهم الرائي أن كل شيء هنا مشع ورائع، لكن الواقع غير ذلك، لأن كل شيء يعاني من الغبار والسواد والإهمال والتلف.

آلام باب المغاربة

          نسير قرب المتحف الإسلامي غربي المسجد الأقصى لنتألم بمشهد اغتيال التلة المؤدية إلى باب المغاربة التي تهدم، والتلة تعد حديثة منذ العهد الإسلامي، وليس فيها أي أثر لليهود، والخشية أن يتقدموا نحو أساسات سور القدس الذي لا يبعد غير القليل عن المتحف الإسلامي والمسجد الأقصى.ويبدو أن هدف الإسرائيليين غير المعلن هو توسيع ساحة البراق المغتصبة التي شهدت ربط الرسول محمد- عليه الصلاة والسلام- لبراقه بهذا الجدار قبل دخوله لساحات المسجد الأقصى للصلاة بالأنبياء ليلة معراجه إلى السماء.

          وبتتبع أحداث التاريخ فإن اليهود لم يكونوا يصلون في هذه المنطقة التي يسمونها ساحة «المبكى» بل على جبل الزيتون، وبسبب التسامح العثماني تجاه اليهود كرعايا للدولة سمح لهم بالصلاة في القرن السادس عشر. ومعروف أن الاحتلال دمر حارة المغاربة عن بكرة أبيها، بما فيها من مسجد وبيوت وعقارات وتاريخ بعد ساعات من احتلال القدس في حزيران (يونيو) عام 1967، ولم تمض سوى أسابيع حتى استولت سلطات الاحتلال على مفتاح باب المغاربة بقوة السلاح، وهو نفسه الباب الذي دخل منه دنيس مايكل الذي حرق المسجد الأقصى العام 1969، حيث هرّب المواد الحارقة التي استخدمها في إشعال السقف الخشبي لسطح المسجد وقبته. ومعلوم أن الباب بني في فترة الأيوبيين، وهي الفترة نفسها التي شهدت وقف حارة المغاربة من قبلهم على المغاربة من أصول شمال إفريقية وأندلسية. وقد حاول بعض اليهود فعلا بناء سور بالطوب داخل المسجد الأقصى لتقاسمه مع المسلمين كما فعلوا في الحرم الإبراهيمي في مدينة خليل الرحمن، وهذه معلومة لا يعرفها غير القليل، ولولا أن إسرائيل خشيت من تبعية هذا العمل لتابعته وقتها، خصوصا أنهم كانوا في أوج انتصاراتهم يغنون محمد مات خلف بنات.

          وملكية المسلمين ثابتة، حتى أن سلطات الانتداب البريطاني أقرت هذه الملكية قبل ثورة البراق وبعدها، على إثر إحضار اليهود طاولات وكراسي وتغيير وجودهم في المكان بناء على زيادة أعدادهم في القدس بسبب الهجرات اليهودية.

          كما يعتزم اليهود بناء ممر علوي يربط الحيين اليهودي والإسلامي في البلدة القديمة، يشق البلدة من شمالها إلى جنوبها. والهدف الرئيس من الأعمال الجارية الآن كما ذكر د. نظمي الجعبة أستاذ التاريخ الفلسطيني هو بمثابة إعلان تقاسم السيادة على الحرم القدسي مع المسلمين، كما يطمح اليهود إلى الكشف عن بوابة باركلي المخبأة تحت التلة المذكورة، وهي تقود إلى مسجد البراق داخل الحرم على بعد أمتار من باب المغاربة، وهذه البوابة كما يدعى في التراث اليهودي التوراتي هي إحدى بوابات الهيكل التي تعود - حسب اعتقادهم - إلى فترة هيرودس، جرى اكتشافها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد سميت وقتها باسم القنصل الأمريكي في ذلك الوقت.

          أخرج من البلدة القديمة من باب الساهرة هذه المرة، المارة هنا قليلون، وليس كعدد المارين عبر باب العمود! مدارس، وقناطر، ثم نصعد قليلاً، هنا الزاوية الهندية، التي كان الهنود المسلمون يقيمون فيها عند زيارتهم للقدس بعد انتهاء مناسك الحج في البيت الحرام، وما زالت الزاوية بدعم من الهند تقدم خدمات صحية.

القدس خارج السور

          تذكرني القدس دوما بطفولتي، والسبب أنها منذ كنت صغيرا والقدس على حالها.

          أن تبني بيتا في القدس معناه أنك مجرم.

          يتفنن الغزاة في قتل المدينة ومنع توسعها العادي الطبيعي والعبث بها ومحاصرتها بحجة أنها من قضايا الحل النهائي.القدس تصغر ولا تتمدد ولا تكبر كبقية المدن، بسبب المصادرة والتهويد، ومنع البناء، حتى في الأحياء الحديثة مثل بيت حنينا وشعفاط والعيسوية.

          فهناك إجراءات مشددة تجعل من يريد أن يبني بيتا مطلوبا للغزاة، في حين يسمح لهم بإقامة المدن الاستيطانية داخل القدس وفي محيطها.

          أطيل النظر في الطريق وما عليها، أنظر في وجوه الناس، البيوت، العربات، الأرض والسماء.

          عند مدخل شارع صلاح الدين، البريد والمحال وشركة الكهرباء، فندق سان جورج أمامي وخلفي مبنى المحكمة العسكرية الإسرائيلية الذي كان قبل الاحتلال العام 1967 محكمة أردنية، ومقابلها كان مقر محافظة القدس قبل الاحتلال الذي تحول إلى إدارة تتبع ما يسمى وزارة العدل الإسرائيلية!

          أصبح عدد الفنادق قليلا، بسبب الحصار وسرقة السياح كي يكونوا نزلاء الفنادق الإسرائيلية غرب المدينة، هذا فندق القصر تحول إلى مستشفى، وهذا الفندق الوطني تحول إلى محلات، وآخر مهجور، وآخر لا يعمل إلا في وقت المواسم وهكذا.

          وتنصح شركات السياحة الإسرائيلية السائحين الذين يزورون القدس وبيت لحم ألا يأكلوا عند العرب وألا يناموا في فنادقهم وألا يصدقوا أسعارهم ويخوفونهم من السرقة، لذلك فإن ريع السياحة يسرقه الغزاة.

آخر الأفلام

          مقابل المحكمة إلى الجنوب قليلا تقف سينما الحمراء مغبرة مهملة، لا خطوط عليها، لا اسم لا عنوان، آثار ملصقات لأفلام عربية وشعارات الانتفاضة السابقة. تسير في نهاية شارع صلاح الدين، قرب سينما الحمراء المغلقة منذ 12 عاما، زجاج السينما محطم، الأبواب صدئة، خراب يلف المكان، كأن لم تكن هنا يوما حياة جميلة وبشر عاديون يشاهدون قصص الأفلام ورواياتها، وأغانيها.

          سينما القدس - التي تجري فيها ترميمات لتعميرها من جديد كما قالت لنا رانية إلياس مديرة مؤسسة يبوس القائمة على المشروع - هي الأخرى كانت مهملة لعقدين من الزمن، ربما كان آخر أفلامها«خلي بالك من زوزو» الفيلم الشهير للراحلة سعاد حسني، حسب آثار الملصقات على الجدران. أما سينما رغدان أو النزهة، فقد نجت من الإهمال، لكن كمكان وليس كدار سينما، حيث تأسس فيها مسرح الحكواتي من مجموعة من المسرحيين الفلسطينيين ثم تحول اسم المقر من الحكواتي إلى المسرح الوطني الفلسطيني الذي يشكو الضائقة المالية.

          سرت في شارع السلطان سليمان أتأمل رءوس المباني العائدة لمؤسسات تبشيرية، تحاكي رءوسها شكل أعلى سور القدس بفتحاته المعروفة. سرت والسور، مقتربًا من مغارة سليمان، ثمة صخور كبيرة جدًا ارتفع فوقها السور.

          هناك إلى الغرب قليلا في منطقة المصرارة أزيل سور من الإسمنت كان يقسم المدينة إلى قسمين: عربي وهو الجزء الشرقي، وغربي محتل، أحد كبار السن أخذني وقال لي هنا كان السور الذي هدمته جرافات الاحتلال الإسرائيلية عندما سقطت القدس، ولم تكن الحرب قد انتهت حين تقدمت شاحنات احتلالية لمصادرة أهم الآثار من متحف روكفلر، مثل لفائف خربة قمران وغيرها.

          لقد هدمت جرافات الاحتلال السور، كما فتحت أبواب المدينة الثلاثة وهي باب الجديد وباب النبي داود وباب الخليل، والتي كانت مغلقة كونها كانت متصلة بالجزء الغربي المغتصب من القدس، أصبحت المدينة واحدة لكن تحت الاحتلال!

الإجراءات الاحتلالية

«الإيدين السودا خلعت البواب
وصارت البيوت بلا أصحاب
عم صرخ في الشوارع
شوارع القدس العتيقة
خلي الغنية تصير عواصف وهدير
يا صوتي ضلك طاير
زوبع في هالضماير
خبرهن باللي صاير
بلكي بيوعى الضمير» (الأخوان رحباني)

          لم تستطع سلطات الاحتلال فرض سيادتها الكاملة على القدس المحتلة العام 1967، فقد بقيت عدة قطاعات ومؤسسات خارج نطاقها كالأوقاف والتعليم والكنائس والصحة والكهرباء وتزويد الماء، وغيرها، لكنها ظلت تسعى لهذه السيادة فألحقت ما استطاعت إليها من بعض القطاعات بالقوة. ما تقصده السلطات المحتلة هو تفريغ القدس وتهويد ما احتل العام 1967. ولم تعد الزلازل والأمطار هي الأخطار التي نخشى على الحرم القدسي منها، بل إن التهويد هو الأخطر لأنه إنما يسعى إلى نفي الأصول الحضارية العربية والإسلامية.

          فليس من الصدفة أن يستوطن اليهود في الحي الإسلامي، حيث تستوطن 58 عائلة يهودية هناك، بدءا بشارون وانتهاء بمستوطن وصل توا من الخارج. وبسبب ذلك فإنه وبذرائع تأمين اليهود تنفذ سلطات الاحتلال إجراءات أمنية تشكل اعتداء على المقدسيين تسلبهم كرامتهم حين تضعهم في شبك حديدي، خشية على المستوطنين منهم علما أن المستوطنين مسلحون. لم تكتف حكومات إسرائيل بمصادرة مئات البيوت والعقارات في حي الشرف وحارة النبي داود بل أخذت بالتسلل إلى الحي الإسلامي وحارة السعدية وسوق خان الزيت وعقبة السرايا وعقبة الخالدية، بل وإلى الأحياء القريبة خارج السور مثل رأس العمود وسلوان والشيخ جراح، ولكن على الرغم من كل هذه الإجراءات ما زال عدد المقدسيين في البلدة القديمة حوالي38 ألف نسمة يشكلون نسبة 88% من سكانها جميعا.

          الحفريات لم تتوقف يوما في القدس خصوصا تحت المسجد الأقصى وفي محيطه، علما أن باطن الأرض وسقف المباني هي أملاك لمواطنين توارثوها أبا عن جد، في هذه الأيام هناك حفريات تجرى في وادي الربابة ووادي حلوة في سلوان، فقد كشفت مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات عن قيام جمعية «إلعاد» الإسرائيلية بواسطة سلطة الآثار الصهيونية بحفر نفق يصل بين حي سلوان وأسفل المسجد الأقصى، وهو يبدأ من عين سلوان ويمر بمحاذاة مسجد عين سلوان ويتجه شمالا باتجاه السور القبلي للمسجد الأقصى، ومن المفترض أن يصل أسفل المتحف الإسلامي الموجود في ساحة المسجد قرب باب المغاربة قرب حائط البراق.

          في الشارع تقرأ أسماء الباصات: القدس - بيت جالا, القدس - بيت لحم, القدس - أبو ديس، العيزرية، قرى القدس، وأسماء أخرى للمدن والبلدات في محيط القدس ورام الله وبيت لحم، لكن الأسماء المكتوبة على الباصات لا تنسجم مع واقع الحال هي للذكرى فقط، حيث أصبحت الباصات كلها القدس-القدس، فلا حركة بين القدس ومحيطها، فلا يستطيع الفلسطينيون المقيمون خارجها الدخول إليها فقد حرمها الاحتلال عليهم.

          لم تكن جوليا بطرس تغني يا حمام القدس حين لجأت رفوف الحمام إلى سماء المدينة

          كان لجوؤها إلى السماء من الأرض لجوءًا سريعًا مذعورا. رفوف من الحمام الخائف المذعور رسمت صورة لسماء القدس، فلم يكن أمام الحمام أمام زخات رصاص جنود الاحتلال إلا الذعر والطيران بعيدا عن صوت البارود.

          بعد قليل حامت طوافة تبحث عن فتية رموا الغرباء، هدير طائرة الهليكوبتر أفسد علي هذا الصباح الجميل. من هنا وهناك، من فوق الجبال المطلة عليها أدور حولها، وأطوف هياما: هنا تبدو الصورة جانبية، وهنا من الجانب الآخر، وهنا أمامي، ومن فوق تصبح كل قبة سيدة. أجراس لا كالأجراس، وأذان يدعو إلى الصلاة، وأنا في صلاة لا تنتهي.

مطل جبل المكبر

«عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد» (الأخوان رحباني)

          من مطل جبل المكبر جنوب القدس، هنا قبل عشرات السنين كان مقر «المندوب السامي» البريطاني، وهنا قبل 1400 عام استجاب الصحابي بلال بن رباح للخليفة عمر بن الخطاب فأذن، فكبر العرب المسلمون الفاتحون القدس، بسلام.

          هنا إذن سار عمر وصحبه، هنا نزلوا الجبل وهناك صعدوا. من هناك هبط الملاك رفيق الرسول إلى القدس في حادثة الإسراء، ومن هناك عرج دون سلم إلى السماء.

آه يا سماء القدس!

          يقع المسجد الأقصى على منطقة مرتفعة من الجبل لكن ليس على قمته. وهناك تستطيع قراءة المكان على ضوء العنصرية الإسرائيلية الصهيونية، من شكل البيوت والخدمات المتوافرة والإضاءة تدرك أين العرب؟ وأين اليهود؟ حتى في الأحياء المتجاورة، بل حتى في بلدة سلوان اللصيقة بالقدس ثمة تمييز في لون الضوء.

          لا مفتاح معي للمدينة، والقدس مدينة مذبوحة من الوريد إلى الوريد. أحياء ذبحت تماما، لم يبق منها أحد: الطالبية، القطمون، البقعة، عين كارم، دير ياسين، لفتا..، أحياء موجودة مهمشة ومهشمة ومقطعة: بيت صفافا، الثوري، المكبر، سلوان، بيت إكسا، شعفاط.

«مطل جبل الزيتون

لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن
يا قدس» (الأخوان رحباني)

          مئات من شجر الزيتون انتشرت على جبل الطور المعروف بجبل الزيتون، وهنا مرّ السيد المسيح راكبا أتانه قادما من أريحا إلى القدس حاملا أحلامه ودعوته، ليكشف زيف العلاقات الكاذبة بين الحاكم الغريب والمحكوم ابن البلد، وليكشف كيف أن بيت الرب إنما جعلوه مكانا للبيع والتجارة لا للصلاة، وكيف راح يقلب موائد التجار والمرابين.

          مئات من الشجر المقدس هناك.

          وأمام فندق الأقواس السبعة تأملت وجه القدس، هنا هي أقرب للناظر من جبل المكبر، فالقادم من الشرق سيراها بصورة أكثر وضوحا من القادم من الجنوب. قبة الصخرة تتلألأ ببهائها المقيم.

          وثمة عشاق هنا يكحلون عيونهم بمنظر القدس الساحر.

          يعكر صفو الناظر مشهد مستوطنة صغيرة بين مقدسيي رأس العمود، قبور اليهود احتلت مساحة كبيرة من محيط السور، قيل لي إن اليهود كانوا يقبرون موتاهم هنا قبل العام 1967.

          تشع الكنيسة الجثمانية أمامنا هنا بحلتها الذهبية التي اكتست بها منذ عقد ونصف، فازدادت قباب القدس المذهبة، وقبة الجثمانية تجمع ما بين الشكل المسيحي، والطراز الذي يجمع أكثر من قبة معًا بشكل يقرب قليلا ما بين الاستدارة والشكل المخروطي.

          في هذا المكان حسب الروايات المسيحية سلّم يهوذا الإسخريوطي السيد المسيح لجنود الاحتلال الروماني، فكم بعد 2000 عام من إسخريوطي مازال يسلم قدس الأقداس للغزاة؟!

          ليس بعيدًا من هنا مستشفى المطل، حيث يوجد هناك مطلع من أعلى الجرسية أو البرج.

          تأسس المطل كمستشفى العام 1950 وقبل ذلك كان المقر الأول للمندوب السامي البريطاني. في القدس عدد من المستشفيات التي تبعت دولا غربية مثل المستشفى الأمريكي والفرنسي والإيطالي.. وغيرها وتأسس فيها مستشفى جمعية المقاصد الإسلامية، وهو مستشفى حديث لكن أهل الضفة الغربية محرومون من الوصول إليه، لذلك فهو يعاني مشاكل مالية، ويوجد في المدينة مستشفى العيون وهو ذو مستوى متقدم أيضا لا يصله الفلسطينيون بسهولة منذ إغلاق المدينة أمامهم.

لا مفتاح للقدس، ولا طريق

          لكن المكان خصب لإنشاء الكلام.

          سأمر مسلّما على العاشقة رابعة العدوية، عاشقة الحب الإلهي.

          بالقرب من المقام قبة الصعود، وقبة الصعود هذه فيها أثر إسلامي، ألا وهو القبة والمحراب، وفيها أثر مسيحي، وهو عبارة عن أرضية على شكل مستطيل بمساحة أقل من متر مربع، حيث يقال إن السيدة مريم وضعت ابنها في هذا المكان وهي تتهيأ للهروب من البلاد، وهناك من قال إن السيد المسيح قد صعد من هنا بعد حادثة القيامة.

          ما الذي دفع باليهود للاستيطان هنا في «رأس العمود»؟ بضع عشرات من المستوطنين يحرسهم مئات من قوات الشرطة وحرس الحدود!!

          أما الاستيطان الأبشع فهو في بلدة سلوان:

          سموها مدينة داود واستوطنوا عشرات المنازل المنثورة على جانبي الوادي، ثمة تركيز على الاستيطان تحت السور قريبا من المسجد المرواني، حيث يأمل اليهود أن يمنحوا هذا المسجد، ويأملون بالتالي في فتح الأبواب الثلاثة المغلقة بالطوب والحجارة. أما المواطن العربي المقيم هناك فهو متهم دائما، لذلك فهو يُفَتّش كلما تحرك إلى الداخل أو إلى الخارج.

          لم يرد اليهود في سلوان أن يشتركوا مع العرب في شبكة واحدة للكهرباء أو الماء أو الصرف الصحي. أية عنصرية أبغض من هذه؟ لقد وصلت حد العبث والتندر. وفي ليل سلوان تستطيع معرفة بيوت اليهود من خلال لون الإضاءة.

          القدس تجلس قلقة على بركان قد يثور منتجا انتفاضة مقدسية سببها العنصرية البغيضة؛ فحسب مئير مارجاليت عضو بلدية الاحتلال السابق ذكر أن العرب يشكلون ثلث سكان المدينة، لكنهم يحصلون على 17% من الميزانية!

          كنت ألجأ إلى القدس دائما حين يتكدر خاطري، كنت أحتمي بها أهبط إلى البلدة القديمة، إلى السوق، إلى قبة الصخرة إلى المغارة، هنا أخلد للعبادة وقراءة القرآن، هنا أحس أنني أقترب من الله أكثر، هناك كنت أطيل الدعاء والرجاء فيهرب كدر الخاطر وأعود ممتلئا اطمئنانًا وسلامًا.

          هنا أصغي إلى الحضارات التي مرت من هنا والتي تركت شيئًا منها: حجرًا، عمودًا، درجًا، مئذنةً، مصطبةً، شارعًا أو نفقًا، ماءً، بشرًا، لغةً مكتوبةً, أو قصيدةً تغنى، أو لعله ثوبٌ مطرزٌ. 27 طبقة حضارية، حضارات تراكمت حجارتها بعضها فوق بعض. سطح المدينة هو سطحها الآن لكن قلبها قديم.

          صليت المغرب في مسجد لولو، هكذا يسميه الناس وفيه ينادي الناس على الأطفال الذين تاهوا عن آبائهم وأمهاتهم..

          قرأت اسم بدر الدين لؤلؤ.. عاش في القرن السابع الهجري.

          قلت له: يا بدر هناك شيء ضاع وأريد المناداة عليه!

          فقال بدر:

قد أسمعت لو ناديت حيا          لكن لا حياة لمن تنادي

          عدت إلى الأمير تنكز وقلت له يا رجل قد غزا المستوطنون المكان فاصنع شيئًا. فقال: يا أخي قد صنعت، فاصنعوا أنتم ودعني وأخي الشيخ لؤلؤ ننام!

          لم نستطع أنا وصديقي الكاتب والمصور عبدالباسط خلف الصلاة في المسجد الأقصى في إحدى زياراتنا من أجل التصوير والكتابة، كان ذلك في ذروة مشكلة حفريات باب المغاربة، فصلينا الظهر قرب مقام العابدة رابعة العدوية، في مسجد زاوية الأسعدية على مطل جبل الزيتون، بينما صلينا العصر في مسجد سعد وسعيد مقابل بستان قبر السيد المسيح.

          على الرغم مما تحمله أسماء المساجد مثل الأسعدية وسعد وسعيد من صفة السعادة فإنه من الصعب أن نحس بذلك وسط هذا الألم.

          لم يكن هناك أمير الشعراء شوقي ينشدنا:

أحرام على بلابلة الدوح          حلال للطير من كل جنس

          لكننا نحن كنا طير الدوح المحروم من القدس مدينتنا، والتي يستمتع بها الزوار من كل العالم ما عدا أبناء المكان الأصليين.

          للقدس أسماء مشتقة من السلام، مثل أور سالم وأورسليم، ويروساليم،وهيروساليم، وهيروسليما وهيروساليما، وسوليموس، وسوليما كما لها أسماء مشتقة من القدسية، مثل بيت المقدس والبيت المقدس، والأرض المقدسة، والقدس, لكن لا سلام هنا ولا احترام من الغزاة لقدسية المكان.

          رب يوم بكى فيه سليم زبال العام 1959حين كان ينظر إلى الجزء المغتصب غربي القدس وبنادق الغزاة ومدافعهم مصوبة للقسم الشرقي العربي، صرنا نبكي عليه بعد أقل من 8 سنوات، أي بعد الاحتلال العام 1967 حينما أكمل الغزاة احتلال المدينة وأسر درة الإسلام المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى الرسول الأعظم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ومازلنا منذ 39 عاما نبكي، وقد يزداد بكاؤنا حيث لا أمل في الأفق لتخليص المكان في ظل ازدياد وقاحة المتطرفين اليهود على الأقصى.

          للتذكير فإن المسلمين استقبلوا المسجد الأقصى في صلاتهم 4 سنوات و 4 أشهر بعد أن فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة لبعثة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم.

          لقد جفت مياه عين سلوان - أو قل جففها الغزاة - لكن ما جفت مآقينا.

أجراس العودة فلتقرع

«البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس»

          هكذا طالبت فيروز منذ أربعة عقود ولم تقرع:

«الآن الآن وليس غدا
أجراس العودة فلتقرع...
سندك ندك الأسوار
نستلهم ذات الغار
ونعيد إلى الدار الدار
نمحو بالنار النار
فلتصدع فلتصدع أبواق أجراس تقرع
قد جن دم الأحرار» (الأخوان رحباني)

          لعل وعسى!.

 


تحسين يقين