فرانسوا بوشيه.. المركيزة دي بومبادور

 فرانسوا بوشيه.. المركيزة دي بومبادور
        

          في العام 1734م، كان الرسام فرانسوا بوشيه في الحادية والثلاثين من عمره عندما قُبل عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ليتسلق بسرعة البرق سلم النجاح والشهرة، وليصبح الرسام المفضّل عند المركيزة دي بومبادور صديقة الملك لويس الخامس عشر.

          عمل بوشيه عند المركيزة - إلى حد اضطره إلى الإقامة في قصرها وأنجز لحسابها عددا كبيرا من الأعمال تراوح ما بين الصور الشخصية (سبع لوحات)، ولوحات تزيينية ،ورسوم لديكور المسرح، وأخرى لعلب التبغ والمجوهرات، وحتى الألعاب.

          ومن صور المركيزة يحتفظ متحف اللوفر اليوم بهذه اللوحة، التي هي في الواقع مجرد رسم تحضيري (سكتش) للوحة نهائية لا نعرف إن كان الفنان قد أنجزها فعلاً في وقت لاحق ، وتعرضت للتلف في ظرف من الظروف، أم أن هذا الرسم التحضيري بقي من دون لوحة نهائية لسبب من الأسباب. ومهما كان من أمر ، فإن هذا الرسم التحضيري المرسوم بالألوان الزيتية على الورق ( الذي تم تثبيته لاحقاً على القماش) ، يبقى عملاً كاملاً يكشف عن أسلوب الفنان ويعبر بصدق عن منهجه في الفن.

          فقبل قبوله في الأكاديمية الفرنسية وبداية عمله لدى المركيزة دي بومبادور ، كان بوشيه قد سافر إلى إيطاليا حيث انبهر بالفن الباروكي الخادع للبصر، وكان أبرز أساتذته آنذاك كوريجيو وبنديتو لويني وفرانشيسكو تريفيزاني.وعندما عاد إلى باريس، حمل معه هذا الشغف بالخطوط المنحنية، ووجد في خدمة بومبادور والبلاط الفرنسي مجالاً للتعبير عن هذا الشغف.

          في هذه اللوحة، يستوقفنا الباروك الفرنسي في طراز المفروشات وآلة «الكلافسان» (بيانو ذلك الزمان) والشمعدان البرونزي وإطار المرآة، وأيضًا في انتصار الخطوط المنحنية والملتفة على بعضها البعض في ثوب المركيزة.

          كل ما في هذه اللوحة يغرق في جو من الأناقة النخبوية : الثوب الذهبي، الزهور التي تزينه عند الكتف، عقد الدانتيل، الزهور على الرأس، نضارة الوجه ... وما هو أكثر من ذلك مجموعة الأشياء التي تدل على المكانة الرفيعة التي تحتلها المركيزة على المستوى الثقافي والعلمي : آلة موسيقية وفوقها دفتر النوتة ، كرة أرضية ترمز إلى علم الجغرافيا ومنظار وكتاب وريشة رسم.. ومجموعة كتب في خزانة خلفها. والمعروف تاريخيًا أن هذه المركيزة كانت فعلاً مثقفة كبيرة وعلى شغف بالفنون والعلوم.

          لقد رسم بوشيه هذه اللوحة في وقت غير محدد بدقة في أواسط القرن الثامن عشر ، وهي غير مؤرخة وغير موقعة (باعتبارها كانت مجرد رسم تحضيري). ولكنه رسم وأرّخ لوحة أخرى عام 1746، تمثل سيدة فرنسية تدعى «مدام بيرجيريه».

          مقارنة اللوحتين تبعث على الدهشة وتثير عددًا من الأسئلة التي لم يعد بالإمكان معرفة جوابها .

          فالسيدتان تقفان في الوضعية نفسها، وتتطلعان في الاتجاه نفسه وتتزينان بالطريقة نفسها: الزهور على الكتف، وعلى الشعر. حتى كم الثوب يبدو نفسه، وصولاً إلى معالم الوجه الذي يبدو نفسه أيضاً في اللوحتين. الفارق الوحيد الذي يستحق الذكر بينهما هو اختفاء كل الرموز الثقافية لمصلحة المزيد من الزهور.

          أبرز الأسئلة المحيّرة هو: هل أن بوشيه رسم صورة هذه السيدة أولاً ثم اعتمد عليها لانجاز رسم تحضيري للوحة أفضل تليق بالمركيزة ؟ أم أنه رسم صورة المركيزة أولاً، ومن ثم أنجز نسخة معدلة عنها لزبونة أخرى؟

          وثاني هذه الأسئلة هو: هل رسم بوشيه اللوحة النهائية للمركيزة دي بومبادور، أم ألغى المشروع؟ ولماذا ؟ هل غيّر رأيه ووجد طريقة أو وضعية أفضل؟ فحوّل الرسم التحضيري إلى زبونة أخرى؟

          ويمكن للأسئلة أن تمتد نتيجة التشابه ما بين هاتين اللوحتين إلى حد التشكيك في كون الرسم التحضيري يمثل المركيزة دي بومبادور. فربما كان الرسمان يمثلان السيدة بيرجيريه أو حتى من الممكن التشكيك في أصلية لوحة السيدة بيرجيريه واعتبارها من صنع أحد أتباع بوشيه الذين استوحوا صورة المركيزة ...

          إن كان من المستحيل حسم الأجوبة عن هذه الأسئلة، فإن معرفتنا لنمط عمل بوشيه يساهم في إزاحة الكثير من الشكوك، ويدعم ما تقوله المتاحف اليوم حول هاتين اللوحتين.

          فعلى الرغم من أن هذا الفنان أصبح مديراً للأكاديمية الفرنسية في العام 1765، ونال قسطاً كبيراً من الثراء، فقد عاش حتى أواخر أيامه في خوف شديد من انخفاض شعبيته، وتخلّي زبائنه عنه.

          ولذا فقد كان يعمل بلا كلل ولا ملل . ولعل خير ما يشير إلى نمط عمله هو ما وصلنا على لسان الرسام الانجليزي جوشوا رينولدز الذي زار بوشيه في محترفه، وفوجئ بأن زميله الفرنسي يعمل من دون وجود نموذج ( موديل ) أمامه. ولمّا سأله كيف يمكنه أن يرسم من دون وجود النموذج، أجابه بوشيه: كنت بحاجة إلى النماذج أمامي عندما كنت أتعلم الرسم . أما اليوم فلم أعد بحاجة إليهم.»!!

          وعندما نتخيل الرسام يعمل من دون وجود نموذج أمامه، يمكننا أن نتصور أو نتفهم أن يزداد اتّكاله على المصادر المتوافرة أمامه أو في ذهنه. ولعلّ هذا ما يفسر التشابه الكبير بين هاتين اللوحتين.

 

عبود عطية   






فرانسوا بوشيه: «المركيزة دي بومبادور»، (60 × 45 سم)، منتصف القرن الثامن عشر، متحف اللوفر، باريس





فرانسوا بوشيه: «السيدة بيرجيريه»... (143 × 105 سم)، 1746م، متحف الناشيونال غاليري، واشنطن