فلسطين.. سلام .. لا فصل عنصري

فلسطين.. سلام .. لا فصل عنصري
        

          شهدت نهاية العام الماضي حدثاً سياسياً وثقافياً فارقاً تمثل في صدور كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، الذي يتصدر حالياً رقم 29 في قائمة أكثر الكتب مبيعاً.

          ويعتبر كتاب كارتر أول وثيقة تصدر عن شخص ذي مكانة رفيعة في المجتمع الأمريكي، لا يتحرج من استخدام كلمة «فلسطين» بدلاً من «إسرائيل» على الغلاف؛ واستخدام كلمة أبارتيد لوصف الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

          وينقسم كتاب كارتر إلى 17 فصلا، تبدأ بعرض تاريخي لأهم أحداث الصراع العربي الإسرائيلي.

          في متن الكتاب يصور كارتر شخصية مناحم بيغين بأنه هادئ لدرجة البرود؛ ومنغلق على ذاته ومتحفظ. فلا يكاد القارئ يسمع بيغين يتكلم باستخدام علامات التنصيص. بل جاءت أغلب مواقفه أقرب إلى الصمت والبرود والسلبية.

          أما عندما يتحدث كارتر عن السادات، فيلاحظ القارئ أن السادات كان انفعاليًا، ومؤمنًا بعملية السلام.

          وعندما وصف كارتر جولدا مائير، فإن أكثر ما يلفت نظره فيها هو كونها مدخنة شرهة للسجائر. وما يفهمه القارئ عنها أنها كانت شخصية غير متدينة وشديدة الاعتداد بنفسها وبقوة الردع العسكري لدولة الاحتلال الإسرائيلي.

          بشكل عام هناك وصف أكثر دقة وتفصيلاً لكل ما يتعلق بالإسرائيليين. فالإسرائيلي في كتاب كارتر يتحدث مبتسمًا أو ببرود. أي هناك مشاعر ملحوظة خلال حديثه.

          أما الفلسطيني فهو واحد من الحاضرين يقول كلمات لها معنى الشكوى والعجز، ولكن كارتر لا يلاحظ مشاعره والصفة الوحيدة التي ذكرها كارتر عن الفلسطينيين كانت ملاحظته أنه حتى الأطفال يشاركون في الحوار.

الوضع والمبررات

          يقول كارتر إنه وفقا لأحد تقارير الأمم المتحدة فإن أكثر من نصف العائلات الفلسطينية لا تستطيع أن توفر لأفرادها سوى وجبة واحدة في اليوم.

          كما تتمكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي من احتجاز ومنع المساعدات الأجنبية الواردة للفلسطينيين. فقد نجح الاحتلال الإسرائيلي في تصوير الفلسطينيين على أنهم إرهابيون، فأصبحوا يعاملون وفق هذه النظرة.. فهم إرهابيون حتى يثبت أنهم أبرياء وليس العكس. ولذلك تمنع عنهم حتى سيارات الإسعاف التي تصلهم من المساعدات الأوربية.

          ويذكر كارتر أن هناك طرق سير محددة لتنقل العرب، وهي مراقبة طوال الوقت. بينما يمنعون من استخدام طرق السير الخاصة باليهود. كما تتعرض جميع متعلقات العرب للتفتيش دون مراعاة لأي حرمات. كذلك يحظر على الفلسطيني حمل السلاح. بينما يتم تشجيع المستوطن الإسرائيلي على حمله.

          يشير كارتر إلى أن منظمات حقوق الإنسان الدولية تقدر أن عدد الفلسطينيين الذين دخلوا سجون دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 يتجاوز 630 ألف شخص أي ما يقدر بنحو 20% من إجمالي الشعب الفلسطيني. ويذكر كارتر أن طريقة عمل نظام القضاء الإسرائيلي تؤدي إلى أن 90% من قضايا وشكاوى العرب تحول إلى المحاكم العسكرية لا المدنية. فالمحامون الفلسطينيون غير مسموح لهم بممارسة المحاماة داخل محاكم دولة الاحتلال الإسرائيلي ومن أراد من العرب رفع دعوى في المحكمة فعليه توكيل محامٍ إسرائيلي.

          ويقول كارتر إنه في إحدى مقابلاته مع رئيس قضاة المحكمة الإٍسرائيلية العليا، سأله هل تعتقد أن الفلسطينيين يعاملون معاملة عادلة فأجابه مبتسماً: «أنا قاضٍ ولست محققاً».

أسلوب كارتر في التفاوض

          يصف كارتر معاهدة كامب ديفيد بأنها نوع من «الاختراق التفاوضي». فقد قصد كارتر إلى دعوة السادات وبيغن إلى منطقة كامب ديفيد لعقد محادثات السلام، حيث إن هذه المنطقة بعيدة عن الضغوط بالنسبة للطرفين. ويذكر أن السادات وبيغين كانا غير متوافقين شخصيًا. ولهذا السبب اتجه الى البحث عن صيغة لاتقوم على تفاوضهما وجهاً لوجه، وإنما من خلال مفاوضين تابعين لكل رئيس. وبذلك تجنب الصدام بين السادات وبيغين.

          يقر كارتر بأن اتفاقيات كامب ديفيد شابها قصور تمثل في عدم النص على تجميد عملية الاستيطان في الأراضي المحتلة.

          ويذكر كارتر أنه في الوقت الذي راح فيه بيغين يفخر بما كسبه من المعاهدة، لأنه استطاع استبعاد القوة العسكرية المصرية من ميزان الصراع، فإن الرئيس المصري السادات واجه مواقف قاسية وعقابية من الأطراف العربية.

الجدار بمنزلة سجن

          هذا هو عنوان الفصل 16في كتاب كارتر. حيث يصف الجدار الإسرائيلي بالسجن. ويشرح فكرته حول الجدار مشيرا الى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي وصلت في علاقتها مع الفلسطينيين للمرحلة التي أصبحت معها لا تجد ضرورة للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. فمع تزايد سيطرة دولة الاحتلال الإسرائيلي جراء الوجود الكثيف لقوات الاحتلال ومع الأمن النسبي الذي يوفره الجدار، انعدمت الرغبة لدى الإسرائيليين في بذل أي جهود للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين.

          ولكن كارتر يرى أن أبعاد القضية الفلسطينية تتلخص في صعوبة الحسم العسكري لأي من الطرفين، حيث تأكد عجز كل طرف عن كسر إرادة الطرف الآخر.

          فقد كشفت الأحداث أنه مهما بلغت درجة القوة التي تصل إليها الدولة العبرية فإنها لن تنجح في كسر إرادة الشعب الفلسطيني. وفي المقابل أيقن العرب أنه من المستحيل القضاء على دولة الاحتلال الإسرائيلي وإزالتها من الوجود.

          يؤكد كارتر أن الأمر بيد دولة الاحتلال الإسرائيلي ويجب عليها اتخاذ قرارات أساسية بصدد السلام، والتي لابد أن تتضمن الحفاظ على حقوق الإنسان الفلسطيني بما في ذلك حق تقرير المصير والمعاملة المتساوية وكذلك حق لم شمل العائلات. وعدم جواز ضم الأراضي بالقوة، وضرورة الانسحاب من الأراضي المحتلة خلال الحروب. وذلك وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 242.

الهجوم على كارتر

          أثار كتاب كارتر زوبعة من الاعتراضات من قبل الأمريكيين اليهود والمرتبطين بمصالح معهم. فقد قدم 14 مستشاراً من مركز كارتر، المتخصص في قضايا فض المنازعات بالطرق السلمية، استقالاتهم، اعتراضاً على ما ورد في كتابه.

          كما ظهر عديد من المقالات، في وسائل إعلامية كبيرة، مثل السي إن إن والنيويورك تايمز، التي سبت كارتر، ووصفته بأنه: كاذب جبان معاد للسامية - تخين المخ fathead ومحب للعرب وكاره لليهود بافتراض أن الأخيرتين سبتان. وقد وصل الدهاء الثقافي بإحدى المؤسسات المرتبطة باليهود إلى منح كتابه جائزة أسوأ كتاب في عام 2006.

          والحقيقة أن كتاب جيمي كارتر ينطلق من اعتبارات بعيدة جداً عما يسود في الحياة الثقافية الأمريكية الرسمية من براجماتية وواقعية. فهو يعتبر أكبر رئيس أمريكي سابق على قيد الحياة. كذلك هو أول رئيس أمريكي يفلح في إبرام معاهدة السلام الوحيدة في الصراع العربي الإسرائيلي. وهو أقدم مفاوض وداعية سلام ومدافع عن حقوق الإنسان في أمريكا. كل هذه المؤهلات تمكن لجيمي كارتر أن يتحدى ألاعيب اللوبي الصهيوني وأن يصمد أمام سهامه. فضلاً عن أن الفشل العسكري لدولة الاحتلال الإسرائيلي في حربها ضد لبنان، قد مهد البيئة السياسية والثقافية في الولايات المتحدة لتصبح أكثر استعداداً لتقبل بعض الانتقادات لدولة الاحتلال الإسرائيلي.

رد كارتر

          رد كارتر على الهجوم الصهيوني على كتابه بإصدار عدة مقالات وحوارات. وأحد هذه المقالات يبدأ بعنوان: «دعونا نعترف: إسرائيل لا تطيق نقدا لسياساتها!». ويمضي في المقال قائلاً: «يريد الإسرائيليون حظر أي نوع من النقد العلني لسوء معاملتهم للفلسطينيين وفق نظام الأبارتيد هذا، فيما أصبح التقاعس في نقد أي سياسة تتبعها الحكومة الإسرائيلية ناتجا عن ثمرة الضغط المثير للدهشة الذي ظلت تمارسه لجنة العمل السياسي الأمريكية الإسرائيلية (ايباك). فقد شهدت شخصيا الضغوط الحادة التي مورست ضد أي نقاش متوازن وحر للحقائق بسبب نفوذ هذه اللجنة».

تفنيد وتقييم

          لا شك أن كتاب كارتر يعتبر أضخم حدث ثقافي وإعلامي تم في الشهور الأخيرة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يتطلب الأمر أن يتجاوز المرء الثمانين عامًا في عمر الحياة، والثلاثين عاماً في عمر البيت الأبيض، قبل أن يتمكن من نشر رؤيته غير المتحيزة عن القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة؟

          ويمكننا تلخيص أغلب الاتهامات التي لاحقت جيمي كارتر في المشترك الأساس الذي يجمع بينها ويتمثل في الإدعاء بأن كارتر قد تعمد إظهار معاناة الفلسطينيين بينما تعمد إخفاء معاناة المستوطنين الإسرائيليين وهو شيء غريب على الممارسة الإعلامية الأمريكية. ولذلك لاحظه على الفور أغلب منتقدي كتاب جيمي كارتر.

          لكننا إذا قمنا بتحليل صدقية هذا الاتهام فسنجد أن جيمي كارتر بالفعل قد سلط الأضواء في كتابه على المعاناة الفلسطينية. ولكنه لم يفعل ذلك على حساب المعاناة الإسرائيلية. كيف؟

          لا يرد في كتاب جيمي كارتر رقم عن المآسي والضحايا من الفلسطينيين، إلا وجاء متبوعاً برقم مماثل للمآسي والضحايا من الإسرائيليين. فهو مثلاً يورد أرقام القتلى من الأطفال من الطرفين في ذات السطر 708 فلسطينيين و123 إسرائيليين. وعندما يتحدث عن مشكلة المياه، يورد أرقام الاستهلاك الفلسطيني متبوعة بالاستهلاك الإسرائيلي. إذن فأين التحيز؟

          الواقع أنه، ليس هناك في كتاب كارتر تحيز. ولكن الأرقام نفسها هي التي تتحيز ناحية الحقيقة، رغماً عن كارتر ورغماً عن كل قارئي الكتاب. فهي تتكلم عن الحقيقة مهما توقعنا منها أن تسكت.

          فعندما نعلم أن القتلى من الأطفال الفلسطينيين بلغ عددهم 708 بينما القتلى من الأطفال الإسرائيليين قد بلغ عددهم 123 طفلاً، فإننا على الرغم من عدم تحيزنا في استنكارنا لقتل الأطفال على الجانبين، لا نستطيع أن نتجاهل الفارق الواضح بين الرقمين، دون أن نغرق في التحيز.

          بالطبع هناك بعض الأرقام التي لا يمكن لكارتر أو غيره أن يورد لها مقابلاً من خياله. وذلك ببساطة لأنها مأساة تخص الفلسطينيين وحدهم. فمثلاً عندما نعرف أن عدد المساجين الفلسطينيين الذين اعتقلوا في سجون الاحتلال هو 630 ألف فلسطيني، فإننا لا يمكن أن نقارن هذا الرقم برقم مقابل يمكن ذكره عن المساجين الإسرائيليين في سجون فلسطينية.

          وعندما نعلم أن استهلاك المستوطن الإسرائيلي من المياه يبلغ خمسة أضعاف استهلاك الفلسطيني، بينما يدفع الفلسطيني أربعة أضعاف السعر الذي يدفعه المستوطن الإسرائيلي، فهل لنا بعد قراءة كل هذه الأرقام أن نتوقع منها أن تخبرنا بأن المستوطنين الإسرائيليين يعيشون في مأساة تشابه أو حتى تقارب مأساة الفلسطينيين؟

          المسألة التي تبدت في كتاب كارتر هي أن الفلسطينيين هم الذين يعيشون المأساة، بينما لا توجد مأساة مماثلة أو حتى مقاربة يمكن لكارتر أو غيره أن يأتي على ذكرها لدى المستوطنين الإسرائيليين.

          كذلك إن دخلنا في تحليل اتهام الإسرائيليين لكارتر بالتحيز من خلال الأرقام الدامغة، فسنجد أن كارتر لم يأت على ذكر الفلسطينيين ومعاناتهم في كتابه إلا في بضع صفحات قليلة، وبعد مرور حوالي نصف الكتاب. بينما على الجانب الآخر، يبدأ الكتاب باستفاضة في السرد عن زيارة كارتر لدولة الاحتلال الإسرائيلي والمتعة والسعادة التي شعر بها هناك. فكارتر يذكر حتى اسم وسمات الفتى الإسرائيلي المراهق الذي قاد سيارته خلال الرحلة، وهو «جيورا أفيدار»، بينما عندما ينتقل كارتر إلى الحديث عن الجانب الفلسطيني، فإن القارئ لا يجد أسماء أو سمات بل إن كارتر يحكي كيف أنه لم يتوفر لديه وقت لمقابلة وفد من المسيحيين الفلسطينيين الذي طلبوا مقابلته، وكيف أنه قابلهم على مضض، على الرغم من أنه اعترف بأنه وجد شكواهم خطيرة.

          إن القارئ لا يملك إلا أن يسأل نفسه ترى كم عدد الفلسطينيين الذين لم يتمكنوا من مقابلة كارتر لعرض شكواهم؟ وترى كم إسرائيليًا تمكنوا من مقابلة كارتر ليتذكر أسماءهم وسماتهم، وليعرف أنهم بلا مآسٍ وبلا معاناة ورغم ذلك يذكرهم بكتابه؟

          فهل هذا يعني أن كارتر كان متحيزاً للفلسطينيين؟ وهل يعني أن كارتر كتم معاناة الإسرائيليين وأظهر معاناة الفلسطينيين؟

          لقد استخدم كارتر كلمة الأبارتيد ليصف الجدار الذي تقيمه دولة الاحتلال الإسرائيلي حالياً.

          وكلمة أبارتيد Apartheid في اللغة الإفريقية تشير إلى سياسة الفصل العنصري الذي اتبعته حكومة جنوب إفريقيا لتعزل المناطق التي يعيش فيها الأفارقة السود.

          يستخدم كارتر كلمة أبارتيد ليصف الجدار الإسرائيلي. إلا أنه وفي الصفحة، نفسها يميز بين نظام جنوب إفريقيا، ونظام الاحتلال الإسرائيلي وكأنما يحاول أن يهدئ من وقع كلمة أبارتيد. فيقول «إن الغرض المحرك للفصل بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني يختلف عما كان في حالة جنوب إفريقيا فهو ليس العنصرية، بل الاستيلاء على الأرض.»

          وبالفعل اثمرت هذه التفرقة الدقيقة في تهدئة روع بعض الإسرائيليين الذين ظنوا أن وصفهم بـ«سارقي الأرض» يعتبر أخف وطأة من وصفهم بـ«العنصريين». حيث إن هذا الوصف ينطبق أيضاً على بعض أراضي أقوى دولة في العالم، والتي يكتب منها كارتر، فهي إذن ليست سبة ولكنها دليل على القوة والقدرة على فرض الأمر الواقع.

          إلا أننا لو أمعنا في هذه التفرقة فسنجدها مفتعلة وغير دقيقة. فهل لزامًا أن يتم الأبارتيد داخل جنوب إفريقيا بين بيض وسود حتى نطلق عليه هذا الاسم؟ وهل الأبارتيد يعتبر حالة من النقاء الإصطلاحي بحيث إنها لو اقترنت بالاستيلاء على الأراضي، فإنه يحق للبعض أن يوهمنا بأن هناك فارقًا كبيرًا بين الأبارتيد العنصري وبين نوع جديد من الأبارتيد قد نطلق عليه «الأبارتيد العقاري»؟

          والشيء الأخير هو أنه حتى الهنود الأصليون يحصلون على معاملة متساوية وعادلة في الولايات المتحدة، بينما لا يحلم الفلسطينيون بهذا حاليًا.

الدين والمصلحة

          يستشهد كارتر في بداية كتابه بنص من الإنجيل، يشير إلى حادثة قتل قابيل لهابيل، وكيف حلت لعنة السماء على قابيل لإقدامه على سفك دماء أخيه.

          إذن فإحدى الرؤى المؤسسة لكتاب كارتر تنطلق.. لا من اعتبارات براجماتية (حيث القوة تصنع حقها)؛ ولا من اعتبارات حزبية (فهو لا يطرح رؤية الحزب الديمقراطي الذي سارع أقطابه بالتبرؤ مما ورد في الكتاب)؛ ولا من اعتبارات سياسية ميكيافيلية عملية (تقتصر على فن تحقيق الممكن)؛ بل تنطلق من اعتبارات دينية تنبذ العنف. وكذلك ينطلق من خبرته الروحية التي علمته أن التفاوض يمكن أن يكون بديلاً عن العدائية. ومنذ الصفحات الأولى للكتاب، يبدو من لقاء كارتر مع جولدا مائير في عام 1973، أنه كان قلقًا من رؤية دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال عهد جولدا مائير تعتمد إلى حد كبير على قوتها العسكرية لترسيخ وجودها في المنطقة، لدرجة أنه قال لها ما فحواه إن تاريخ اليهود يؤكد أن شعب إسرائيل يواجه المصاعب كلما ضعفت لدى قادته قوة الإيمان. ويذكر كارتر أنها صدمت عندما تحدث إليها عن الإيمان. ولكن خلال أشهر قليلة اختلت ثقة الإسرائيليين في قوتهم العسكرية مع مفاجأة حرب أكتوبر 1973، وخرجت جولدامائير من الحكومة.

          إذن ينطلق كتاب كارتر من مثالية تستند إلى القيم الدينية والروحية. فليس من المستغرب أن ينأى الكتاب عن شرح اعتبارات المصالح. فقارئ كتاب كارتر يتملكه إحساس بأن الصراع القائم في فلسطين هو مسألة ذات بعد ديني وقيمي، وأنها بعيدة عن المصالح.

          إلا أن ذلك فقط جزء من الحقيقة وليس كل الحقيقة. أما الأجزاء الأخرى فتتمثل في كون ما يدور في فلسطين يحتوي في بعض أبعاده على مصالح. فمثلاً هناك مصلحة مؤكدة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية في عدم إقرار سلام نهائي وعادل، وإلا فكيف ستحصل على كل المساعدات والرواتب والمزايا المادية والمعنوية التي تتدفق عليها حالياً.

          وكذلك فلا شك أن جزءًا كبيرًا من المسألة اليهودية يقوم على التكسب والتربح من تصوير اليهود كجماعة مستضعفة في الأرض ومضطهدة، قديمًا من الألمان وحاليًا من المسلمين. بل إن تصوير الفلسطينيين على أنهم إرهابيون مع تصوير المستوطنين الإسرائيليين على أنهم يدافعون عن حقهم في الوجود، هي استراتيجية تنبثق من نفس العزف على وتر القيم الدينية والمعنوية.

          لذا فإن تكريس الجانب القيمي والديني للقضية الفلسطينية والتركيز عليه مع إهمال بقية الجوانب المصلحية والمادية المختبئة خلف هذه القضية، هي استراتيجية تبسيطية، يستخدمها كل طرف للإيهام بأنه على حق ولتجريم أفعال الطرف الآخر، وهي لعبة من ألعاب البنيات الثقافية.

          ولكن قصورها يتمثل في أنها لا تصلح لإيجاد حلول وتسويات دائمة. وذلك لكونها تعجز عن التغلغل في مصالح الشعوب الاقتصادية وتعجز عن التأثير في البنية التحتية التي تحرك مصالح الناس.

          فالاستراتيجية الحقيقية لإقناع دولة الاحتلال الإسرائيلي بقبول تسوية سلمية يجب ألا تتمثل فقط في إقناعها من الناحية النظرية والدينية بأهمية السلام واستعادة قصة قابيل وهابيل وتخويفها من لعنات السماء، وذلك لأن منظومة القيم الدينية والأخلاقية لدولة الاحتلال الإسرائيلي تمنحها مبررات سابقة التجهيز ومحفوظة داخل معلبات جاهزة للاستهلاك الفردي والجماعي، بحيث تسكن ضمائر الجنود الذين يقتلون المدنيين الفلسطينيين أطفالاً ونساء يوميًا. فهذه المعلبات الأخلاقية والدينية تجعلهم يرون في هذه الأفعال وأدًا لإرهابيي المستقبل وتجفيفا للأرحام المولدة لهم.

          إن الإستراتيجية الحقيقية المطلوبة لإقناع الإسرائيليين بالتوجه نحو السلام لن تكون بإقناعهم نظريًا أو دينيًا، فهذا طريق مسدود. كما أنها لن تكون بممارسة ضغط إعلامي عليهم، فهذا طريق طويل للغاية. إنما الطريق الحقيقي لإحلال السلام يأتي عن طريق مخاطبة المصالح الإسرائيلية بشكل مباشر.

          فالمسألة ببساطة أنه إذا كان السلام مصحوبًا بحزمة مصالح مجزية وعقوبات حاسمة لإسرائيل، فإنها ستقبل بالسلام، وستتسابق مع العرب للوصول إليه.

          ويجب ألا نتوقع من دولة الاحتلال الإسرائيلي أن تسعى للسلام رغبة في تجميل صورتها أمام العالم، أو خوفًا من خوض مناظرة دينية وأخلاقية مع المسلمين والمسيحيين حول الحق والخير والجمال، كذلك يجب ألا تتوقع دولة الاحتلال الإسرائيلي أن يتوقف الاستشهاديون الفلسطينيون عن عملياتهم لمجرد أن يظهروا الجانب المحب للسلام.

          يتوجب علينا الجمع بين الدين والمصلحة المادية. وهذه هي المعادلة التي عجزنا عن فهمها حتى الآن.

 

 جيمي كارتر   






 





تطور سلب الاراضي الفلسطينية بفعل دولة الاحتلال الاسرائيلي