مدام توسو طغاة ومبدعون من الشمع

 مدام توسو طغاة ومبدعون من الشمع

تأخذك السيدة ماري كروشولتز من أول عتبة في هذا المتحف المهيب إلى ديالوج مفاجئ للحديث عما تعرفه عن الطغاة والمبدعين وصانعي الأحداث الكبرى وكيف يتهيأ لك أن تراهم? وما هي الأسئلة التي قد يتسنى أن تطرحها حين تمر بهم في تكيتهم التي أعدت بعناية ومرت عليها مهارات أجيال وأجيال طوال مائتي سنة? ثم سرعان ما تدعوك هذه السيدة الفرنسية الأنيقة إلى أن تلقي جانبا كل ما تعرفه عن أولئك المشاهير, إذ سيظهرون لك على هيئة أخرى ليست مألوفة.. يتحدثون بهمس, بلغة موحية تشي بدواخلهم وأسرارهم, فيما الشمع يتدثر بالألوان والأسمال والإنارة الموحية ليكشف عن براعة الأنامل في تخليد معاني التاريخ, إعجابا أو ازدراء, بوصفها أفعالا إنسانية حتى في بشاعة الكثير منها.

وماري كروشولتز هي نفسها (مدام توسود) مبدعة المبادرة الأولى للمتحف العالمي الدائم للمنحوتات الشمعية الذي سمي باسمها ويحتل مكانه التاريخي في منطقة بيكر ستريت بقلب العاصمة البريطانية لندن .

ولدت ماري في باريس أوائل عام 1760 لأب جندي قتل بعد عام من ولادتها في حرب السنوات السبع الاوربية فانتقلت بها أمها الى ستراسبورغ لتعمل مديرة لمنزل الدكتور فيليب كرتيوس الذي كان بارعا في صنع تماثيل الشمع للإفادة منها في التدريس والتشريح, لكنه اتجه بعد ذلك, حين ولع بفن النحت الشمعي, إلى تجسيد الشخصيات الاجتماعية والمشاهير حتى ترك مهنة الطب ليتفرغ لموهبته التي أملت عليه الانتقال إلى باريس العام 1767 وليقيم أول معرض للمنحوتات الشمعية أثار اهتماماً واسعاً نظراً لفرادة بناء الملامح الإنسانية. وقد قال عنه مؤرخ للفن ان كرتيوس نفخ روحا بالشمع وعلينا تمثل مبادرته بالمعايير الفنية الكلاسيكية, في حين سخر آخرون من معرضه (ومنهم فنانو نحت على الحجر) وأحالوا صنعته إلى جنس الفنون الشعبية (غير المؤدبة).

وكان لا بد للصبية ماري أن تكون إلى جانب الدكتور فيليب كرتيوس ووالدتها في باريس وأن تتعلم في مشغله مهارة النحت على الشمع الخام وتطويع الشمع لأفكارها المرهفة والغريبة, وتشاء المصادفة أن تكون لدى الصبية موهبة متدفقة في إعادة خلق الاشياء وتمثل الاشكال وإنطاق الملامح بل وتلفت نظر معلمها ومربيها الدكتور كرتيوس الذي كلفها نحت شخصيات معروفة مثل فولتير وبنجامين فرانكلين لتعرض معاً مع المنحوتات التي يقدمها للجمهور الفرنسي الأرستقراطي فكانت أعمالها مثار اهتمام مبكر بالنظر للدقة في التصنيع ولمهارتها في إضفاء معان خفية على ملامح تلك الشخصيات مثل القسوة والصرامة والتسامح والتطلع والغضب والحزن.. إلخ. وقد كان هذا طابع أعمالها حتى نهاية العمر.

كان المشاهدون يرتادون معرض الدكتور كرتيوس للمنحوتات الشمعية ليشاهدوا تلك الشخصيات كما لو انهم يلتقونها للتحدث إليها أو يتمثلونها تتحرك وتتحاور, وبهذا تحول هذ المعرض إلى ما يشبه العرض السينمائي اليوم.

ذات يوم التقت مدام إليزابيث أخت الملك لويس السادس عشر مصادفة مع ماري وطلبت منها الانتقال للمعيش معهم في قصر فخم ومن ثم لصنع تماثيل للعائلة المالكة, وبقيت ماري أكثر من تسع سنوات في قصر لويس السادس عشر نحتت خلالها تماثيل لكل أفراد العائلة, وكان عليها في عام 1789 أن تترك القصر حسب طلب الدكتور كرتيوس ولتنحت مرة ثانية تماثيل للملك لويس السادس عشر وزوجته ماري إنطوانيت, ولكن هذه المرة بعد أن لقيا حتفهما إثر الثورة الفرنسية. ثوار فرنسا لم ينصفوا هذه الفنانة إذ زجوا بها في السجن عام 1794 ووضعت في نفس الزنزانة التي سجنت فيها جاكلين دي ييهورنيه التي ستصبح فيما بعد زوجة نابليون بونابرت, وعاشت ماري أصعب ظروف حياتها في السجن إذ حلقوا شعرها تهيئة لوضع رأسها على المقصلة, ولسبب لم يعرف حتى اليوم أعلن العفو عنها وإطلاق سراحها.

كان على ماري أن تذهب كلما عرفت بنبأ إعدام شخصية معروفة, إلى عتبة المقصلة لتأخذ الرأس وتصنع له قناعاً سريعاً قبل أن تحوله الى منحوتة شمعية, في تلك الفترة نحتت تمثال الثائر الفرنسي المشهور (روبسير).

الرحيل إلى بريطانيا

بعد وفاة الدكتور فيليب كرتيوس - الأب الروحي لماري وأستاذها في النحت على الشمع الخام تولت بنفسها إدارة معرض المنحوتات الشخصية وتعرفت عام 1794 على المهندس الفرنسي فرانكوتوسود لتعرف بعد ذلك بمدام توسود, وفي نهاية العام 1800 كانت قد رزقت منه بثلاثة أبناء, جوزيف وفرانسز وابنة ماتت صغيرة, وبسبب الكساد الذي اصاب فرنسا إثر الثورة الفرنسية قررت مدام توسود عام 1802 الرحيل إلى بريطانيا وحدها ومع تماثيلها حيث قدمت عروضاً متجولة بين 33 جزيرة بريطانية وكان الناس يتجمهرون بانتظارها لمشاهدة ما تبقى من المنحوتات التي غرق أغلبها عندما كانت تعبر بواسطة السفينة إلى أيرلندا عام 1822.

شعرت مدام توسود بالإعياء نتيجة تلك الجولات بين المدن والجزر البريطانية وكان أن حققت لها شهرة واسعة وقتذاك,, فقررت عندما تجاوزت السبعين من عمرها أن تقيم معرضاً ثابتاً لمنحوتاتها الشخصية في سوق بيكر ستريت ليس بعيداً عن الموقع الحالي للمتحف وذلك عام 1835 ولحق بها والدها لمساعدتها والعمل معها.

قبل رحيلها بتسع سنوات, نحتت مدام موسود لنفسها تمثالاً يصورها وهي تصنع أحد التماثيل, وكان هذا آخر عمل أنجزته في حياتها حيث ماتت عام 1850 عن (89) عاماً, وراح ولداها وأحفادها يواصلون العمل في المعرض الذي حمل اسم (مدام توسود وأولادها), وفي عام 1884 قرر أحد أحفادها نقل المعرض إلى الموقع الحالي للمتحف, وفي غضون السنوات اللاحقة لم ينج المعرض من الأحداث الطارئة التي كادت تقضي على معظم المنحوتات الشخصية إذ تعرضت للحريق وبنتيجة شرارة كهربائية عام 1952, كما تحطم أكثر من (352) تمثالاً عام 1940 نتيجة القصف في الحرب العالمية الثانية, والمفارقة أن ينجو تمثال الزعيم النازي هتلر الذي أمر بقصف لندن من الدمار.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ضمت أراض أخرى للمعرض وتم توسيعه وتسميته بـ (متحف مدام توسود) وليتحول معرض هذه السيدة الفرنسية إلى أحد أبرز المعالم في العاصمة البريطانية.

عالم من الشمع

ربما ستقع في ذات الوهم الذي يتكرر مع معظم زائري متحف مدام توسود فتتخيل أن بعض شخوص المتحف هم حقيقيون, وقد تصطدم بأحد التماثيل وتقول له (آسف) لكنك ستفاجأ بأن المقابل هو مجرد منحوتة صيغت بمهارة من الشمع الخام.

وإذا كانت تنتابك رغبة في التقاط صورة تذكارية مع أحد المشاهير وخاصة نجوم السينما الأمريكية أو البريطانية فلك أن تحققها في هذا المتحف إذ من الصعب التمييز فوتوغرافياً بين الحقيقة والتمثال. لهذا يعمد غالبية الزوار إلى الوقوف إلى جانب النجم السينمائي شين كونري أو عارضة الأزياء نعومي كامبل لالتقاط صور تذكارية, وهناك من يريد الوقوف إلى جانب شخصيات سياسية أمثال نيلسون مانديلا, أو المهاتما غاندي.. أما صدام حسين فقد كف عن إثارة الانتباه واقتصر (زواره) والراغبون في التصوير معه على عدد قليل من (الملتحين) وعدد أقل من حليقي الرءوس, وقد سمع أحدهم يقول لزميله :(خذ لي صورة مع هذه الصلافة).

حفلة في الحديقة, هذا هو عنوان القاعة الأولى, ورغم وسع مساحة هذه القاعة فإنه من الصعب التحرك خلال هذا الحشد الكبير من الزائرين, هنا نجد مشاهير نجوم السينما والتلفزيون والرياضة وكأنهم دعوا فعلاً لحفلة كوكتيل, فتلتقي مع : ديفيد كوبرفيلد, شين كونري, نعومي كامبل, ميل جيبسون وإليزابيت تايلور. تم نحت تماثيل هؤلاء, ومشاهير غيرهم مباشرة. أي أنهم وقفوا ساعات امام النحات, إذ يستغرق صنع أي تمثال شخصي أكثر من ستة أشهر, وغالباً ما يرتدي الممثل زياً اشتهر به في دور معين في فيلم ما, وهذا ما سنتأكد منه عندما نشاهد تمثال النجمة الأمريكية مارلين مونرو بفستانها الابيض الضيق عند الصدر والواسع عند الساقين بذات ابتسامتها الساحرة.

تاريخ من الأحداث

من صالة لرقصات الفالس والأعراس إلى زنازين الإعدام, يتكور الشمع.. ينبسط, يتمدد, يستحيل حيوانات برية, ثم يتوحش في تماثيل لطغاة أو اشكال لمخلوقات كريهة.. وفي دهاليز معتمة يتبدى الشمع وكأنه يوشوش أو ينتحب أو يبكي.. وفي أكثر من صالة يستوقفك محذراً.. فثمة حروب قادمة.

في إحدى الصالات للشخصيات التاريخية والسياسية حوارات أدارتها السيدة توسود بين الملكة اليزابيت, والملك هنري الثامن, ونابليون بونابرت, هذه قاعة صناع التاريخ وأحداثه, بسلبياتها وإيجابياتها. لهذا فلا غرابة أن نرى وفي ذات القاعة تمثالي المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا, ومن الجانب الآخر يتبادل الملك حسين والرئيس السادات وشاه ايران وصدام حسين وياسر عرفات ومعمر القذافي نظرات مليئة بالألغاز والمعاني, ولا ندري إذا كان ثمة سبب جعل إدارة المتحف تدع مسافة محسوبة بين تمثال صدام حسين وتماثيل القادة العرب, ولكن ثمة ما يفسر سبب وضع صدام حسين وهو يتبختر في مسدسه على بوستر دعاية للمتحف.

وإذ دخلت شخصيات دولية دوامة الحروب وتوعد بعضها البعض بالقصاص والموت فإن قبة متحف مدام توسود جمعتهم كلهم ووضعتهم وجهاً لوجه امام المارة الذين كانوا قد وقفوا منذ الصباح الباكر في صف طويل بانتظار فرصة الدخول : اليابانيون والصينيون إلى هيروهيتو وماوتسي تونغ والامريكيون اللاتينيون إلى تشي جيفارا وكارلوس منعم والامريكيون الى جون كندي والروس إلى لينين ويلتسـين والإنجليـز إلى تاتشر وتشـرشل, ومن بعيـد توزع الاميـرة ديانا فاكهة ابتسـامتها التي تحظى ومنـذ عامين بأكبر عدد من زوّار المتحف, ولوحظ أن العرب يهجرون زعماءهم ليأخذوا صوراً مع أميرة ويلز الراحلة.

صالة للرعب

في صالة اولئك الذين صنعوا الأحداث لا يجد الزائر إلا مسرّات قليلة, فثمة الكثير من تلك الأحداث, بما فيها الحروب الكونية وانتصاراتها لم تعد تثير الفخر, وربما لهذا السبب سرعان ما يتحول الزائر إلى صالة مجاورة حيث يقف شكسبير وفولتير وجان جاك روسـو في هالة من الضوء تبوح بالسر الذي يجعل الشعر أكثر اعتداداً بالنفس, فيما يتولى الشمـع تحويل المشهـد إلى حياة ناطقة, غير أن مخـرج أفلام الرعب ألفريد هتشكوك يستقوي بالشمع على زواره ليثير فيهم الفضول عما يصدر من صوت بعيد هو صوت الطيور الجارحة التي أطلقها يوماً وراح يسجل شراستها.

وفي زاوية محاطة بالزجاج يقف تمثال الزعيم النازي أدولف هتلر, هذا هو التمثال الذي نجا من قصف الطائرات الألمانية في الحرب العالمية الثانية. وضع بالضبط قبل دخول ما أطلق عليه بـ (العصر المظلم) حيث أدوات التعذيب والشنق والحرق مع تماثيل أشهر مجرمي بريطانيا.

وتصور هذه القاعة الأزقة الخلفية للفنون, حيث الفقر والجوع والتشرد آنذاك, وليس من الممتع البقاء طويلاً في تلك القاعة التي تفوح منها رائحة الدم وينتشر بين أرجائها صراخ المعذبين وأنين المحتضرين.

روح لندن

لكن متحف مدام توسود يهيئ لزواره مفاجأة تمت إضافتها في السنوات الأخيرة. تلك هي جولة مجانية بواسطة (تاكـسي لندن) أو سيارات أجرة لندن الشهيرة بلونها الأسـود لتتجول وسط بانوراما تحكي تاريخ العاصمة البريطانية مروراً بالحرب العالمية الثانية, وحريق لندن الشهير, وإعادة بناء لندن, ثم الثورة الصناعية لتصل بنا في نهاية المطاف الى يومنا هذا في جو مشحون بالمعلومات التاريخية السريعة, والمتعة والموسيقى.

 

عبدالمنعم الأعسم