الشك عند ابن خلدون

الشك عند ابن خلدون
        

ورث ابن خلدون ميراثًا من الشك العقلي، خلفه له اثنان من كبار أئمة الفقه الإسلامي، وهما أبو حامد الغزالي، وابن تيمية.

          شكك الإمام الغزالي في قدرة العقل على الإدراك الحق. إذ إن الإدراك العقلي، في نظره، معرض للخطأ كالإدراك الحسي تمامًا، كما أنه عاجز مثله عن فهم كثير من الحقائق، التي يزخر بها الكون. وأما ابن تيمية فقد شك في صحة الكليات العقلية العامة، التي كان المناطقة قبله يجعلونها مقدمات لأقيستهم المنطقية، ويعتمدون عليها اعتمادًا لا يقبل  الجدل. فهو يرى أن هذه المقدمات غير ضرورية وغير بديهية - كما يعتقدون - وأنها أمور نسبية يختلف الناس في تقديرها. ويرى ابن تيمية أيضًا أن الكليات العقلية موجودة في أذهان الناس، وليس لها كيان خارجي قائم بذاته، وأن العلم الصحيح هو الذي يستمد حقائقه من الأشياء الجزئية المتعينة بأشخاصها في الخارج، وليس من الكليات العقلية الموجودة في الذهن. ولا يمكن التوصل إلى العلم الصحيح، إلا بالانتقال من الجزئي إلى الجزئي، وفق ما يسميه الفقهاء بقياس الغائب على الشاهد، فإذا ما نظمت التجربة هذا القياس، وإذا ما حدده أيضًا مبدأ السببية، فإنه يكون موصلاً إلى اليقين.

          هذا فضلاً عما ورثه ابن خلدون أيضًا في مجال علم الحديث، من طرق التثبت من صحة ما يروى منه. وقد كتب هو نفسه في ذلك، فقال: «ومن علوم الأحاديث النظر في الأسانيد، ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط، لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن، وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضبط، وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين، بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة، ويكون لنا ذلك دليلاً على القبول أو الترك، وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين وتفاوتهم في ذلك وتميّزهم فيه واحدًا واحدًا». هذا فضلاً عن كون ابن خلدون نفسه مالكي المذهب، والمعروف أن كتاب «الموطأ» للإمام مالك كان يحتوي على ثلاثمائة حديث أو نحوها، وذلك على حد قول ابن خلدون نفسه، الذي كان يقوم بتدريسه لطلابه في مدينة القاهرة.

الشك طريق البحث

          وهذا يفسر السبب في أن ابن خلدون لم يكن شكاكًا فحسب، بل كان باحثًا مدققًا، وناقدًا محققًا، ولكنه بدلاً من أن يستخدم شكه المنطقي في علم الفقه وعلم الكلام - كما فعل الأصوليون قبله - استعان به في إثبات موضوع علمه الاجتماعي الجديد، وهو علم الاجتماع الإنساني والعمراني البشري، وبيان مسائله، وما يعرض فيه من العوارض الذاتية، أي الظواهر الاجتماعية، وتبدّل الأحوال في الأمم والأجيال، وما لذلك كله من العلل والأسباب، وكذلك نجده، بدلاً من استخدامه شكه النقدي في تمحيص الحديث، استعان به في تمحيص الروايات والأخبار، التي تكون مادة علم التاريخ، الذي يمكن تعريفه بأنه علم اجتماع الماضي. وذلك لأن التاريخ، كما قال ابن خلدون: «في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتحليل الكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق»، وبعد أن يشكك ابن خلدون في الأخبار والروايات، ويعطينا أمثلة لبعض من الكاذب منها والذي لم يقع، يقول: «فلا تثقن بما يلقى إليك من ذلك، وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة، يقع لك تمحيصها بأحسن وجه».

          لهذا نراه يتقصى أسباب الكذب في الروايات والأخبار، ويشرحها ويحللها. ويركز مبحثه في ذلك في صدر «الكتاب الأول» في صفحات أربع. ولكنه قد أشار إلى هذه الأسباب، في «المقدمة»، التي مهّد بها لكتابه الأول، وأجرى فيها تحقيقات على جانب كبير من الأهمية، لما فيها من الأصالة في التفكير، والبراعة في الاستدلال المنطقي، الذي يستند فيه إلى مألوف العادة، وطبائع الأحوال في العمران.

تحقيق سكاني

          أما أول هذه التحقيقات، فتحقيق سكاني لما نقله المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، وأن موسى - عليه السلام - أحصاهم في التيه، بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح، خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، وأيضًا فالذي بين موسى وإسرائيل إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد، وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده، فبعيد أيضًا، إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلا أحد عشر أبًا، ولا يتشعب النسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الذي زعموه، اللهم إلى المئين والآلاف، فربما يكون، وأما أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد. واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف، نجد زعمهم باطلاً ونقلهم كاذبًا..»، والسبب في عدم صحة هذه الرواية أنها تتعلق بإحصاء الأعداد، التي كثيرًا ما تكون «مظنة الكذب ومطية الهذر»، أي الخلط والتحدث بما لا يمكن أن يكون.

          وثاني هذه التحقيقات تحقيق عسكري لجيوش موسى، وفيه يقول ابن خلدون: «ثم إن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق مساحة الأرض عنها، وبعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثًا أو أزيد، فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر؟».

تحقيق جغرافي

          وثالث هذه التحقيقات جغرافي عن «وادي الرمل الذي يعجز السالك، فلم يسمع قط ذكره في المغرب على كثرة سالكيه، ومن يقصد طرقه من الركاب والقرى في كل عصر وكل جهة، وعن إرم ذات العماد، «فيجعلون لفظة إرم اسمًا لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطير، في صحارى عدن، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض».

          لقد أجرى ابن خلدون هذه التحقيقات كلها، وكشف عن أسباب الكذب في الروايات والأخبار مجتمعة، وهو في هذا الإجراء يلتزم بتعاليمه، وبخاصة أنه يؤصل لعلم جديد غريب على أذهان العلماء، والكافة من المتعلمين، وبخاصة أنهم فيه مبتدئون كالصغار، ويريد هو أن يقربه إلى عقولهم، ويجعله مستساغًا لمداركهم.

أسباب الكذب في الأخبار

          وهناك أسباب تجعل الوصف غير صادق، أي تجعل الكذب يتطرق إلى الخبر المروي عن الدول وظواهر الاجتماع فيها. ويمكن أن نجعل أهم الأسباب المقتضبة للكذب في الأخبار كما يوردها ابن خلدون على النحو التالي:

          1- «التشيعات للآراء والمذاهب»، فإن النفس إذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة، قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله، وهذه ظاهرة متفشية بين الناس حتى الآن، ويعاني منها الباحثون في ظواهر الاجتماع، وبخاصة فيما يتعلق بالبحوث، التي تتناول موضوعات متصلة بالعقائديات كالرأسمالية والاشتراكية، أو بالنظم كالديمقراطية والدكتاتورية، والتغير الاجتماعي من حيث السلوك الجمعي كمساواة المرأة بالرجل، وتحرر الشباب، ولا سبيل إلى الحقيقة إلا بالتزام الحياد التام والموضوعية الكاملة.

          2- «تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك»، فتستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة.

          3- «الثقة بالناقلين»، الذين ينقلون أخبار ما يجري في دولهم، وما وقع في دول أسلافهم إلى من يخلفونهم، سواء بالحكاية أو بالكتابة. ومن أسباب هذه الثقة «توهم الصدق»، بما للناقلين من هيبة ناجمة عما يبدو لديهم من معرفة واسعة وخبرات شتى اكتسبوها عن اطلاع وبحث وكبر سن، وبما للكلمة المكتوبة من أثر في النفوس. وما برحت الكافة من المتعلمين يعتدّون بالكلمة المكتوبة، ويؤكدون صحة ما يروون بأنهم قرأوه في الكتب، ومازالت العامة كذلك تجزم بصحة ما يحكون، على أساس أنهم قرأوه في الصحف. وتمحيص ذلك كله لا يكون إلا «بتعديل الرواة».

          4- «الذهول عن المقاصد»، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر «على ما في ظنه وتخمينه»، ويقع في هذا الخطأ كثير من الباحثين في علم الإنسان، عندما يتعرضون لوصف الأقوام البدائية الذين يرحبون بهم عندما ينزلون بينهم لمعايشتهم وملاحظة سلوكهم الجمعي، فهم يعجزون عن النفاذ إلى ما وراءه، لمعرفة ما في ضمائرهم وما يعتمل في نفوسهم من انفعالات مرتبطة بقيمهم، التي يتعذر على من لم ينشأ على ثقافتهم أن يفهمها فهمًا صحيحًا، إلا إذا كان متمرّسًا على عملية الاستبطان الاجتماعي.

          5- «ولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان وعدم محاسبة النفس على الخطأ وعدم مطالبتها في الخبر بالاعتدال والصدق». وتظهر مغبة ذلك على وجه الخصوص في الأخبار، التي تتناول الأعداد، سواء كانت متعلقة بالجيوش أو أموال الضرائب أو نفقات المترفين أو رءوس أموال الموسرين، ويشجع على الإغراق في ذلك الاطمئنان على عدم وجود مَن يهتم بمراجعة هذه الأعداد والتأكد من صحتها بالبحث والتقصي.

          6- «القياس والمحاكاة»، ومن شأنهما في أحيان كثيرة إخراج الإنسان عن قصده والانحراف به عن مرامه. وبخاصة إذا امتزجا بالغفلة وعدم الدقة. وعلى الرغم من ذلك فالقياس والمحاكاة من طبيعة الفكر الإنساني وهما غير مأمونين من الخطأ. ويفسر ذلك ابن خلدون بقوله: «فربما يسمع السامع كثيرًا من أخبار الماضين، ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف، ويقيسها بما شهد. وقد يكون الفرق بينهما كثيرًا فيقع في مهواة من الغلط». ويضرب مثلا لذلك بالتعليم، الذي يكون في عصر من العصور مهنة على درجة عالية من الاحترام، بينما كان في زمان سالف «من جملة الصنائع المعاشية البعيدة عن اعتزاز أهل العصبية، والمعلم مستضعف منقطع الجذم».

          وعلى العكس من ذلك مهنة القضاء، التي كانت فيما مضى وقبل عصر ابن خلدون لأهل العصبية من قبيل الدولة ومواليها، وكان للقضاة الرئاسة في الحروب وقيادة الجيش. ولكن مهنة القضاء في عصره، قد أصبحت تنحصر فقط في الأمور القضائية وحدها، وصارت تناط بمن لا عصبية له، شريطة أن يكون قد توافر على دراسة الفقه وأجيز فيها. والذي يريد ابن خلدون لفت النظر إليه، هو اليقظة الشديدة وإعمال الفكر والنظر في الوقائع في إطارها الزمني، أي في ضوء الأحوال التي كانت سائدة وقت وقوعها، إذا أريد أن يقود القياس إلى الحكم الصائب والرأي السديد.

          7 - «الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما بداخلها من التلبيس والتصنع، وينقلها المخبر كما رآها هي بالتصنع على غير الحق من نفسه». وهذا خطأ شائع يقع فيه من يحكم على الأمور بظواهرها، ولا يفتش عن الأحوال التي تكتنف الوقائع، ذلك لأن أحوال أي مجتمع قد تبدو بخلاف ما هي عليه في حقيقتها. فقد يبدو مزدهرًا لما يتظاهر الناس فيه بكثرة الإنفاق والتمتع بشتى ألوان النعيم، بينما هو في الحقيقة قليل الموارد، وأكثر الناس فيه يعيشون على الاقتراض. ويبيتون على حافة الإفلاس.

          8 - «الجهل بطبائع الأحوال في العمران، فإن كل حادث من الحوادث، ذاتًا كان أم فعلاً، لابد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله». ويرى ابن خلدون أن هذا السبب سابق على جميع ما تقدم من الأسباب، «إذ لا يمكن تمحيص أي خبر من أخبار البشر التي تتناول اجتماعهم وتعاونهم وتنظيمهم الاجتماعي، الذي هو العمران إذا لم يكن عارفًا بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والنحل والمذاهب وسائر الأحوال». ويرى ابن خلدون أن تمحيص الأخبار بواسطة هذا النوع من المعرفة «هو أحسن الوجوه وأوثقها في تمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وأما إذا كان مستحيلاً، فلا فائدة في التعديل والتجريح».

          إن ابن خلدون يقصد من ذلك أن الطريق الصحيح للتمييز بين الممكن والمستحيل من الأخبار، هو مشاهدة الكائنات الخارجية والتعرف على دقائقها، وبذلك يمكن الكشف على خصائصها الذاتية، ومدى ما بينها من اختلافات، تجعل الحكم عليها نسبيًا. أما النظر في الأخبار التي تنقل عن الكائنات الخارجية وفق صورها المطلقة، التي يتوصل إليها عن طريق التجريد الذهني، فلا يؤدي إلى رأي يقيني. لاشك في أن نظرة ابن خلدون في العمران وأحواله ووقائعه. من حيث المضمون المادي الذي يحتوي عليه نسيج الحياة الاجتماعية المتشابك، نظرة وضعية واضحة، سبق بها «أوجيست كونت» صاحب المذهب الوضعي بقرابة خمسة قرون، ذلك لأنه يجعل من الحواس الأدوات الرئيسية التي يمكن بواسطتها معرفة الظواهر الاجتماعية كما هي في الواقع، معرفة يقينية دليلها الإدراك الحسي، لا البراهين العقلية المعنوية.

روحي يلوبُ بدارِ غربَتِهِ عطشًا إلى ينبوعِهِ السامي
فهناك أصداءٌ يسلسلها صوتُ السماءِ بروحي الظامي
وهنا،هنا،الأرضُ يهتفُ بي صوتٌ يقيّد خطوَ أقدامي
صوتانِ.. كم لجلجتُ بينهما يتنازعانِ شراعَ أيامي
أنا كيانٌ تائِهٌ قلقٌ يطوي الوجودُ حنانَهُ الظامي!


فدوى طوقان

 

سامية حسن الساعاتي