التراث ذاكرة المستقبل

التراث ذاكرة المستقبل
        

يقدم التراث أرضية للبنيان الحضاري والفكري المقبل، ويشكل مساحات التنوير فيه. وبه يتصل ما كان وما هو كائن بما سيكون، وتلتحم حلقات المسيرة الحضارية.

          إن سقوط مشروع النهضة التي انبثقت في مطالع القرن العشرين، قد طرح الكثير من الأسئلة والتساؤلات القلقة والمقلة، على مجتمعاتنا المحبطة، دون درس عميق وتحليل دقيق لأسباب ما حدث. وأخذت بعض التيارات الفكرية والسياسية تحمّل تراثنا والتغني به - وباستسهال كبير - مسئولية انكفائنا، وتخلفنا، وتنادي بالتالي، بالقطيعة مع ماضينا كله، وتبنّي مشاريع ضبابية، تتدثر بعباءة الدفاع عن إيقاظ الوعي واستنهاض المستقبل، تنادي بقطيعة مع التراث وكأنه هو فعلاً المسئول عن أوضاع الراهن، بل لقد مورس، في بعض الأحيان، انتهاك أليم لهذا التراث، بالعدوان على أنبل صفحاته، وأبهى رموزه، أعني شعراء العربية الكبار - أبا تمام والمتنبي وأبا فراس الحمداني ... وغيرهم - وأدبياتنا الرائعة، وبطولاتنا التاريخية، وفتوحاتنا العلمية، وبداوة صحرائنا الجليلة، تماشيًا مع ما يقوله غير المنصفين من المستشرقين، وكان في تصور هؤلاء، وأولئك، أن الالتحاق غير المتبصر، بكل ما هو غربي أو أجنبي، هو سبيل التقدم والارتقاء.

          وكان الكثيرون، في المقابل، يرون في التخلي عن التراث، والتنكر له، والاقتداء بالآخر الأجنبي، ضمن هذه المفاهيم المغلوطة، تحت اسم المعاصرة والحداثة والتقدم العلمي والتقني، نمطًا من أنماط الانتحار المجاني، وأن الأمم، ونحن في الطليعة منها، إنما بالتراث تمتلك وجودها الشمولي الذي يصنعه تاريخها المعرفي، كما تمتلك مداها الحيوي الذي يعطيها أن تكون جزءًا من زمن كوني، بعيد الأغوار، موصول بالحاضر، مستشرف للمستقبل، كما يمنحها وعيها التاريخي الذي هو ضرورة من ضرورات الحياة، في شرطها الإنساني.

          المعادلة لم تكن صحيحة، ومقولة الحدّين المتناقضين: التراث والحداثة أو المعاصرة، مقولة مغالطة، والإشكالية التي تنامت في بعض الأوساط، وصار لها انعكاساتها السياسية، على الساحة العربية، تنتمي إلى فهم خاطئ للأمور، وتحيّز غير مبرر، واختزال لمفهوم الثقافة غير القابل - في سعته واستيعابه - للانفصام بها في كليتها وشموليتها وتاريخيتها واستمرارها في منظومتها المعرفية، وعمقها الزمني من جانب، أو عن تجددها وحداثتها ودورها المتقدم في بناء الإنسان ووعيه، للارتقاء بالحياة، وصنع التقدم، ورسم حدود المستقبل المنفتح على الممكن، في عصر الثورة التكنولوجية، ثم المعلوماتية، وفتوحاتها الإلكترونية من جانب آخر، وفي ظل المتغيرات الكونية التي هزت العالم.

          هيجل يقول: «بنياننا الثقافي متكامل تكاملاً تاريخيًا». وميرسيا إيلياد يقول: «الإنسان المعاصر يقدّم نفسه ككائن تاريخي، تشكّل بفعل تاريخ الإنسانية بمجموعه» ويؤكد دوكويار، في تقرير التنمية الثقافية الذي أعدته لجنة شكلتها منظمة اليونسكو برئاسته، وهو يتحدث عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في ولادة عالم جديد: «الصورة الأوربية للحداثة كانت تتنازعها يقينيات العقل وقناعات الموروث».

العالم وتراثه

          ويتجلى هذا الموقف من التراث بما تنتجه المطابع في العالم، من كتب لا حصر لها، تصدر كل يوم، حول الفلسفة والآداب والدراسات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، منذ فجر التاريخ الإنساني، تعرض وتدرس وتحلل وتترجم وتحقق وتنتقد، وتستعيد، على سبيل المثال، أفلاطون وأرسطو وسقراط وآباء الفلسفة، وعباقرة الشعر والمسرح والرواية، سوفوكليس وفيرجيل، وهومير وشكسبير وبايرون وجوته وإيبسن وجويس وبروست.. وغيرهم، تجد في هذه الأعمال التي تقدمها للعالم قضيتها المعرفية، ومداراتها الفكرية التي تُغليها، وترى أنها لم تستنفدها، لأنها تعتبرها إرثًا إنسانيًا جديرًا بالتقصي والتوثيق، يقدم إضافاته المهمة للفكر المعاصر، وللأجيال القادمة.

          ولا أريد هنا أن أتحدث عن حجم تقصيرنا بحق موروثنا وتاريخنا ولغتنا وحضارتنا التي وضعتنا يومًا في جبهة الشمس، وأضاءت مجاهل الدنيا، حين حملت رسالة التنوير إلى العالم، في أبأس مراحل تخلفه.

          ولعله من الضروري أن نذكر - وبتقدير لمنظمة اليونسكو - أنها عنيت عناية فائقة بإرث العالم الحضاري، دون تمييز بين دولة أو أخرى، من منظور القوة أو الهيمنة أو الثروة أو الازدهار والتقدم، وكانت لها رؤيتها المستبصرة التي انطلقت منها أفكار طليعية، تؤكد إيمانها بالتعددية، ورفضها للأحادية، وحرصها على أن يعترف الجميع بأن لدى كل شعب، في تاريخيته، ما يستطيع أن يقدمه للشعوب الأخرى، وينبغي ألا نطامن من شأن أحد، ومن واجبنا أن نوقظ وعي الأمم جميعا بذاتها وتاريخها وأهميتها، أي بحقيقة وجودها.

          لقد أرادت منظمة اليونسكو، ومنذ بدايتها، أن تصنع، عبر التراث، ما هو نتاجه الأسمى، تواصلاً إنسانيًا، وكونًا من العلاقات والارتباطات، ترتفع بالإنسانية إلى فضاءات رحبة، مسوّرة بالمعرفة والصداقة والوعي، والموازاة المساوية بين الأمم.

          وربما، من أجل ذلك، اتُهمت يومًا بأنها لا تقيم توازنًا بين الماضي وموروثه، والحاضر والمستقبل وحاجاته، وأنها، في سياستها الثقافية، تمنح إنقاذ التراث أكثر بكثير مما تمنح لتطوير الإبداع، مع أن مهمتها لا تنحصر في الحفاظ على التراث، بل على تحريض الخلق، وكان يمكن أن يكون لهذه الحملة تأثير على عمل اليونسكو في ميدان التراث، انحسارًا، أو تباطؤًا أو إهمالاً.

          في ذلك الحين، طرحت المنظمة مشروعًا، بدا وكأنه شطحة من شطحات الخيال، وكان ضروريًا أن نتابعه باهتمام، فهو يدعو بكلمة شبه مبهمة، إلى «تخصيص حيّز لذاكرة المستقبل» ويرى أن «الحفاظ على هذه الذاكرة هو حفاظ على حقوق الأجيال القادمة» في تواصلها مع تراثها الخاص، المكوّن للهوية والانتماء، ومع الموروث الإنساني المكوّن «لذاكرة العالم».

          وحتى لا يبقى هذا المشروع مجرد فكرة جميلة، اقترحت المنظمة على الدول المنتسبة إليها إنشاء بنك عام، وبشكل تدريجي، للصور والبيانات، يحمل اسم ذاكرة العالم. وقد كانت تشيكوسلوفاكيا آنذاك، أول دولة استجابت، فأعدّت أول أسطوانة ليزرية، بذاكرة قراءة، ضمنتها عيّنات لأنفس عناصر المجموعات التاريخية، في المكتبة الوطنية التشيكية. ولم أتابع بعد ذلك، مع الأسف، ما جرى لهذا المشروع، لكنه ظل ذا وقع خاص في نفسي، لأنني رأيت فيه ضرورة قومية، وسبيل تواصل مع أجيال المستقبل، فنحن لا نبني بالتراث ذاكرة الحاضر فحسب، لكننا نعطي للأجيال المقبلة ذاكرة انتماء، ووعي وجود.

          ردتني إلى هذا الموضوع، وبشكل تراجيدي، صدفة لم تكن محسوبة، حين وجدتني منذ أمد قريب، في مدينة فينكس عاصمة أريزونا، أجوس مواقع للرّوهايد والأباتشي، في محاولة لتكوين تصور ما، عن حياة المتبقين من الهنود، وماذا فعلت بهم الأيام. ولماذا يتحدثون، في أمريكا عن حضارة قريبة العهد، حديثة، لا جذور لها كجذورنا الممتدة إلى مليون عام من الحضارة حسبما اكتشف علماء الآثار، وعن قصر شوطهم الحضاري، بالتالي، قياسًا إلى بلداننا نحن وبلدان العالم. وبالصدفة أيضًا، ومحض الفضول، دخلت إلى متحف يدعى متحف هيرد لثقافات السكان الأصليين وفنهم.

          في البداية أدهشتني المعروضات الفنية المتقدمة بفنيتها، من تماثيل تجسّد آلهتهم وأساطيرهم وأنماط حياتهم، بوجوه وأقنعة ووسائل معيشة ومنسوجات وأدوات عزف وحلي، إلى آخر ما يمكن أن نجده في المجموعات المتحفية البهية، المصورة للحياة في بعدها اللازمني.

          وكانت المفاجأة في طابق علوي، تمتد على مساحات جدرانه صور فوتوغرافية، ورسوم بائسة، وكابات حزينة تصف ما ألمّ بهؤلاء حين اغتيلت أنماط حياتهم، وانتهكت كل الحرمات فيها، فالأطفال يسحبون من أيدي أمهاتهم الباكيات، وضفائر شعرهم التي يحبونها تُقص، ويُفرض عليهم أن يغيروا لباسهم وطعامهم، وينسوا لغتهم، ليعيشوا في مدارس داخلية، تقطع ما بينهم وبين أهلهم وتراثهم، وينسون فيها حياتهم السابقة وحياة آبائهم وأجدادهم الأقربين وأسرهم، ولا يذكرون معها إلا نمط الحياة الجديد المفروض عليهم بقسوة.

          تعليمهم المنبتّ بهم عن أصولهم، مقابل أرض آبائهم, «التعليم مقابل الأرض». هذا ما قاله الرئيس جيفرسون حين وجد أن الأرض تضيق بعدد السكان الذين يتكاثرون, ومصير المرضى المصابين بالسل مستشفيات بدائية ولا علاج ولا غذاء، والصور المترامية على الجدران تحكي حكايات الإذلال والبؤس الذي عانوه، والكتابات المؤطرة للصور تفيض بالحنين الباكي والمبكي، إلى أجداد يجهلون عنهم كل شيء، ونمط حياة مازالوا يحلمون بمعرفته، ولغة هي لغتهم وهم اليوم مغتربون عنها، داخل لغة بديلة لكنها ليست جزءًا منهم.

          وعلى مائدة للكتابة أوراق وأقلام تدعو كل أبناء قبيلة الأباتشي إلى تسجيل ما يذكرون من قصص آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم، فقد يكون فيها ما يعيد إليهم ما ضاع، وهم يفتقدونه، وذكريات الأهل الذين استؤصلوا وكان عددهم أربعين ألفًا، فإذا بهم اليوم لا يجوزون الآلاف العشرة.

القطيعة مع الماضي

          وإذن، فقد كانت قطيعة مرسومة مع تراثهم، وقطع لمسيلة الزمن بما يعيق بناء القدرات الإنسانية، وانفصام وجودي لامعنى له إلا إلحاق الأذى بالبنيان النفسي، وفكّ الارتباط بما هو تاريخي، وبما هو أسلوب حياة في مجتمعاتهم، قيمًا وممارسات وعلاقات إنسانية وروحية، تتوّجها لغة خاصة كان الحفاظ عليها حقًا من حقوق إنسانيتهم، حتى لا تتعرض ذاكرتهم الوطنية والاجتماعية، للضياع المؤسي.

          قد يستغرب البعض هذا الذي رويته، وقد يجد فيه وضعًا غير طبيعي، أو لا يجد فيه مدعاة للتعاطف، مع هؤلاء الباحثين عن أصولهم ولغتهم، فأمتنا، بشكل عام، لا يمكن أن تتعرض إلى هذا الحد من انتزاع الانتماء، بل لقد كان مستحيلاً أن يحدث لها ما حدث لغيرها، هي التي تمتلك هذا الحجم الضخم من التراث الحضاري، وهذه الآصرة الفريدة الجامعة: القرآن الكريم واللغة العربية. ولكن علينا أن نتذكر أن تجارب التاريخ المريرة قد عصفت بشعوب وأمم حملت معاناتها عبر قرون، ولم تستطع أن تستسلم لما أصابها، أو تنسى محنها، وظل سؤال الجذور واللغة يلحّ عليها. والأمثلة كثيرة.

          في عام 1987 عُقد في البرازيل مؤتمر مهم بين منظمة دول أمريكا اللاتينية وجامعة الدول العربية، بهدف البحث عن مزيد من التقارب، وعن إنماء علاقات المستقبل. تضمّن المؤتمر طرح مواضيع ثلاثة، اقتصادي وسياسي وثقافي، يحاضر في كل يوم اثنان، عربي ولاتيني، يقدمان وجهتي النظر العربية واللاتينية وتجري المناقشات بعد ذلك. كان الحضور المشارك متميزًا على المستوى السياسي والمستوى الأكاديمي، وكان علي أن أقدم الموضوع الثقافي باسم جامعة الدول العربية. أذكر أنه أتى تحت عنوان: «الثقافة العربية تراثًا ومعاصرة والعلاقات العربية اللاتينية المستقبلية».

          خشيت وأنا ألقي موضوعي أن يثير حساسية ما، فقد أفضت بالحديث عن الثقافة العربية والحضارة العربية وما قدمته للإنسانية. وإن كنت لم أغفل عن التنويه بما حققته أمريكا اللاتينية المعاصرة من إبداعات رفيعة في المجالات المختلفة من آداب وفنون، وقام في ذهني ما جرى في اليومين السابقين من مناقشات عنيفة حول قضايا الاقتصاد والسياسة وما فيهما ولهما من إشكاليات.

          لكنني فوجئت بإطراء رئيس الجلسة للموضوع الذي قدمت، وتكرار موافقته على كل ما جاء فيه، ثم بنظيري اللاتيني يقول: كدت أطوي أوراقي، وأكتفي بما سمعت، فكل ما أوردته المتحدثة له مصداقيته، وما قدمته الحضارة العربية للإنسانية لا يستطيع أحد أن يجحده، لولا أنني أحب أن أضيف بعض المعلومات التي تخصنا، ومنها أن في لغتنا، في جمهورياتنا المختلفة، خمسة آلاف كلمة عربية ،وتعرف الأرجنتين أن كلمات الملاحة كلها تقريبًا عربية، محرّفة قليلاً، وتابع يؤكد حجم ما هم مدينون به لحضارتنا العربية.

          مفاجأتي الكبرى كانت من جمهور القاعة،إذ كان كل متكلّم يعلن، بداية، موافقته على كل ما قلت، ويزيد بالاعتراف بأنهم مدينون لحضارتنا.

          إلى هنا، وليس في الأمر ما يستلفت، لولا أن عددًا كبيرًا من الأساتذة والباحثين المشاركين، كانوا يضيفون أنهم يعتبرون أن الإسبان قد أساءوا إليهم إساءة بالغة، حين جاءوهم محتلين، وأن الشيء الوحيد الجيد، كان ما حملوه من الحضارة العربية البهية الإنسانية إليهم. الإساءة كانت في محو تاريخهم من ذاكرتهم، والقضاء على لغتهم، فهم لا يعرفون الآن شيئًا عن المرحلة التي سبقت بدء الاحتلال لأرضهم - يقولون ذلك بأسى بالغ - ويعملون اليوم جاهدين في العديد من مراكز البحث في بلدانهم، على أمل أن يستعيدوا لغتهم، ويتلمسوا جذورهم، ويتعرفوا على أجدادهم الذين طوت أخبارهم القرون.

          كانوا غاضبين إلى حد بعيد.

          وكان غضبهم مفهومًا بالتأكيد، فالذاكرة الضائعة، حسب تعبير الأستاذ هيكل، تستثير شجونًا لا حيلة معها، ورغبة عميقة في اكتشاف مجهول مخبوء في أعماق اللاشعور.

التراث وجوهر الأمة

          وقد يكون من العسير علينا أن ندرك شعورهم، نحن الذين كتب تراثنا نفسه على المدى المسوّر بالقِدم، وترك وقائعه، على جدار الزمن، بصمات يصعب أن تمحى، وحملناه في الذاكرة وفي القلب، وفيه تجلى الجوهر الأبدي لأمتنا، قولة مكسيم رودنسون، وكان ثمة إجماع عالمي على أن حضارتنا قد أغنت الفكر الإنساني، وقدمت للعالم إنجازات باهرة، شكلت كنزًا من العطاء الإبداعي، ورفدت الثقافة العالمية، وأغنتها، ويكفي أن نشير إلى انتصاراتها في الفلسفة والفلك والرياضيات والكيمياء والطب، وإلى ما هو أهم أيضًا، أعني ما أكده الباحثون من أن المفاهيم والمقولات والمناهج الأساسية للعلم الحديث، قد صيغت، أول ما صيغت، على أيدي علمائنا، وما أكده الموسوعيون، وبشكل لا لبس فيه، حسبما جاء في الموسوعة الفرنسية، من أن «الغرب مدين إلى الأبد، للعرب الذين شجعوا العلوم، وأعطوا للعالم أعلامًا كبارًا، مؤرخين وشعراء وكتابًا ذوي شأن».

          قد يكون من الصعب علينا أن ندرك شعورهم، هم الباحثين عن التاريخ والتراث واللغة، ونحن الذين نمتلك التاريخ والتراث واللغة، في أجمل تجلياتها.

          لكنني أتساءل: ألا تدفعنا هذه المفارقة إلى أن نكون أكثر وعيًا بواقعنا، وبما يجري في العالم من حولنا، وأكثر فهمًا لهذه الحملات التي تتعرض لها أمتنا، بدعاوى مختلفة، على اسم تجاوز التخلف، وتحرير المجتمع، وتغيير الواقع المزري، بفك الارتباط مع التراث، وكسر طوق الدين، والتحرر من التاريخ.

          ودون وازع من ضمير علمي أو أخلاقي، وتحت وطأة حصار سياسي، ينتقصون في هذه الأيام من حضارتنا وموروثنا وعقائدنا وقيمنا وماضينا وراهننا، يطرحون مصادراتهم حولها، ثم يحولونها إلى مسلّمات ثم إلى قناعات، ونحن في شبه غفلة سادرون، بل إن البعض منا يشارك في مثل هذه الحملات أوالطروحات، عن قناعة أو عن عقدة نقص يبهرها كل ما هو أجنبي، في حين أن الواجب يفرض علينا أن نتصدى لها، بالمنطق والحوار وحقائق التاريخ ووثائقه، وبالعمل الجاد والذكي للكشف عن تراثنا العريق وإتقان التعريف به وحمايته، وتصحيح المغالطات التي تطرح، بسوء نية، في الغالب، حوله. علينا أن نتصدى لها، لا لأننا نخشى على هذا التراث - فقد دلل على قدرته على الديمومة، واستعصائه على الاندثار - بل لأننا لا نرضى أن نسقط في الحصار والمصادرات الفكرية التي تسم، زورًا، تكويننا الثقافي، وإرثنا المعرفي، بالأحادية والضيق والنمطية والتعصب، إلى آخر ما يزعمون.ولن ننساق إلى التبرع السخي بتنازلات تمس جوهر وجودنا، وتقلب، بعدوانية، كل معطى نبيل في حياتنا.

          ودون غلوّ أو مبالغة، أو مجانفة للحقيقة يمكن أن نؤكد، وعلى عكس ما يقولون، أن تراثنا العربي، في تميزه وخصوصيته، كان ويظل سمحًا إنسانيًا، بعيدًا عن الانغلاق، في جذوره، وفي القيم التي يحمل.

          وأننا كنا، دائمًا، منفتحين على الثقافات الأخرى والحضارات الأخرى، والشعوب الأخرى، دون أن نسقط في التبعية، أو نجيز الاستلاب.

          لقد سعينا في الماضي، كما نسعى في الحاضر إلى الانفتاح قناعة، والحوار ضرورة، وإلى الإيمان بالعقل، والبراهين على ذلك لا تحصى.

الدخول إلى المعاصرة

          ودفعًا لكل مغالطة تتهمنا بأننا، نحن العرب، في عشقنا للتراث، نتصنّم هذا التراث، ونكتفي بالتغني به، والخضوع له، مما يبقينا في حال من الجمود، لا تسمح لنا بأي تقدم، أود أن أشير إلى أن إيماننا بالتراث كمكوّن أساس للشخصية العربية المتماسكة والواعية، لم يعنِ، في مرحلة من المراحل، أن نرزح تحت وطأته، وأن يرتهن حاضرنا، فنلغي فكرنا، ونكتفي بالاعتزاز بما كان، دون أن نعلم على بناء ما ينبغي أن يكون.

          ولم يشكّل، أبدًا، حاجزًا يحول دون الدخول في العصر، والتطور باتجاه الارتقاء، كما يدّعي البعض، ولم يدفعنا إلى تحيّز مراوغ، ينأى بنا عن رؤية دقيقة تحليلية نقدية اصطفائية، تعطي للماضي آماده، وللحاضر رؤاه، وللمستقبل الذي نستشرف ذاكرته التي نريد.

          إن ثمة ضرورة تاريخية، ترتبط بحاجة قومية عربية إسلامية، تدعونا إلى التعامل مع تراثنا العربي الإسلامي، تعاملاً خلاقًا، واعيًا، مستنيرًا، من منطلق البحث في جوهره، ونشر حقيقته، والتعريف به، بكثير من الموضوعية والعقلانية والالتزام بمنطق البحث.

          وفي النهوض بهذا الواجب المقدس، علينا أن نبذل أقصى ما نستطيع من جهد، مستحضرين الدور الأخلاقي المنوط بنا، في حماية تراثنا، والحيلولة دون الذوبان في الإطار العولمي الجديد، المرتبط بمحاولات التنميط.

          وإذا كان يستحيل على أي أمة أو دولة، في عصر التواصل المعمم والمعولم، عصرنا هذا، أن تنفصل عن حركة التطور الشامل، والتبدل المتسارع، ولا نحن نريد ذلك، فإن علينا ألا ننسى، ودون حاجة إلى التواضع، أن خريطة عصرنا تحمل في كل خطوطها وتضاريسها، وكل مواقعها وعواصمها، وبمعزل عن الافتراءات المتواصلة التي تحاك حولنا، و صيغ الاتهام التي توجه إلينا، وإلى معتقداتنا وقيمنا، إشعاعًا من حضارتنا، في توهجها الفكري، وألقها الروحي، وريادتها العلمية، ورفعتها الإنسانية.

          ولنتذكر أن اهتمامنا بالتراث ليس انغماسًا في الماضي الذي مضى، بل هو عودة إلى حقيقة وجودنا، وجوهر الوعي بهويتنا، ومعنى الانتماء في ذاكرتنا، والدفاع عن الهوية هو دفاع عن وجودنا ذاته، «وإذا خسرنا معركة الهوية، كما يقول السيد سامبر، رئيس جمهورية كولومبيا، نكون قد خسرنا معركتنا الكبيرة للسيادة، تلك التي تجعل منا أوطانًا، وليس، ببساطة، شعبًا مرتبطًا بلحظة تاريخية».

ماذا أحسُّ؟ هنا، بأعماقي ترتجُّ أهوائي وأشواقي
بي ألفُ إحساسٍ يُحرِّقني متدافعِ التيارِ، دفّاقِ
ألفُ انفعالٍ، ألف عاطفةٍ محمومةٍ بدمي، بأعراقي
ماذا أحسُّ؟ أحسُّ بي لهفًا حيرانَ يغمرُ كلَّ آفاقي
جفت له شفتاي وارتعشت أظلالُه العطشى بأحداقي


فدوى طوقان

 

نجاح العطار