قراءة نص الحياة اليومية

قراءة نص الحياة اليومية
        

إن كثيرًا من الصعوبات التي تواجهنا يوميا قد ترجع إلى طريقة قراءتنا للحياة اليومية، ذلك لأننا في الأغلب لا نقرأ الحياة ولكن نقرأ تصوراتنا عنها، لأن ذواتنا هي جزء من الموضوع الذي نقرأه وهي حاضرة فيه.

          هل يمكن أن نطلق على الفعل اليومي الذي يتميز بالتكرار كلمة «نص» مثل بقية النصوص؟، وهل النص هو المدون فحسب أم أن كل فاعلية إنسانية وممارسة يمكن إدراكها بشكل مباشر أو غير مباشر يمكن أن نطلق عليها لفظ «نص » باعتباره ينقل رسالة ما لأن كل أفعالنا تنقل رسائل للآخرين؟ لكن كيف يمكن أن نقرأ نص الحياة اليومية، هل لكي نتعرف على طريقة فهمنا للعالم الذي نعيش فيه؟، لكن ما هو اليومي؟ هل هو الحياة اليومية والعلاقات التي تكونها مجموعة من الأشخاص والأشياء، هذه العلاقات التي تحكمها قواعد مقيدة أحيانا وغير مقيدة أحيانا أخرى، يمكن الوصول إليها؟

كيف نقرأ ما هو معيش؟

          هناك محاولات من الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم لدراسة هذا العالم اليومي الذي نعيشه، وقد تنبه فرويد لذلك، فألف كتابا بعنوان (علم نفس الحياة اليومية) وكتب عالم الاجتماع هنري لوفيفر كتابا من ثلاثة أجزاء عن (نقد الحياة اليومية) وإرفينج جوفمان الذي يعتبر اليوم من أبرز الوجوه الأمريكية المهتمة بالحياة اليومية حيث يبين أنه يوجد مجال حيوي لم يكن بعد موضوعا للدراسة العلمية بالشكل الكافي، وهو المجال الذي توجده التفاعلات وجها لوجه في الحياة اليومية، هذه التفاعلات التي تبنيها معايير للاجتماع والتواصل وكتب فيلسوف معاصر عن (فلسفة الحياة اليومية) وكل هذه المحاولات تضيء جوانب متعددة لما هو معيش. وقد أثبتت التجارب أن تغيير حياة الإنسان يبدأ بما يعيشه بالفعل، وقد بدأ الكاتب بول روجر في كتابه (تجربة في فلسفة الحياة اليومية) محاولته بالإجابة عن سؤال : كيف يستعيد الإنسان «الدهشة» لأننا من شدة ألفتنا للحياة اليومية أصبحنا لا نراها أو لا ندرك كثيرًا من مفرداتها، فكيف يمكن للإنسان أن يرى الحياة كأنه يرى العالم لأول مرة، وذلك من خلال شرح أهم القضايا الفلسفية من خلال تدريبات يستطيع أي شخص تطبيقها بدلا من استخدام مفردات تقنية صعبة. ونقطة البداية لتلك الدهشة التي تولد الفلسفة هي أن يشجع القارئ على اتباع تمارين بسيطة مثل الصيام والتأمل واللعب وغيرها. ومن هذه التدريبات أن المؤلف يطلب من القارئ مراقبة الغبار في مسقط ضوء تصنعه الشمس، والغاية منه إعادة الثقة بالذات، فعندما يدخل شعاع من الشمس غرفة مظلمة من خلال ثقب فإن عالما خفيا من الغبار المتناثر نراه وهذا يظهر لنا أن هناك طبقة من الوجود خفية لكنها موجودة دائما، إذن فإن هناك عوالم أخرى داخلنا يمكن رؤيتها بتعديل بسيط لمداخل النور إلى داخلنا، وهناك تدريبات أخرى لتهدئة أنفسنا، وتدريبات لتقوية الناحية الإنسانية وغيرها من التدريبات المتنوعة، وهذا يجعلنا ندرك أن الحياة كل شيء فيها متجاور ومتشابك، أما هنري لوفيفر فقد بين أن الغموض خاصية من خصائص الحياة اليومية، ويمكن أن تكون خاصية أساسية، بمعنى أن اليومي ليس مكشوفا وعاريا على الدوام، بل هو مجال للإخفاء والتظاهر والنفاق والزيف والاستلاب والتعبير غير المباشر عن المواقف والحاجات ويتضح ذلك حين نأخذ في الحسبان المكانة التي تحتلها اللغة في اليومي. والمقصود باللغة هنا كل العلامات والرموز التي نستخدمها للتعبير عن أنفسنا مثل ألوان الملابس وحركات الجسد، مثل حركة اليدين والعيون وتعبيرات الوجه واللغة محددة كل التحديد، ليصبح الكلام مع الرموز المختلفة لا مجرد شرط للحياة الاجتماعية، بل نمطا، لهذه الحياة بما يعنيه ذلك من طبيعة خاصة بكل نمط تساهم في تحديد الملامح الأساسية للحياة اليومية بهذا المجتمع أو ذاك. يزداد - إذن - اتساع مجال اليومي كلما تجاوزنا الواقع المباشر إلى نقده وتحليله وممارسة التحليل بصدد مكونات الوقائع التي تتكون منها الحياة اليومية وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى بناء نظرة علمية عن اليومي والجوانب المكونة له والفاعلة والمنفعلة فيه، بل لا يقتصر الأمر على إعادة إنتاج اليومي نظريا ونقديا فقط، وإنما إرساء قواعد وأسس للحياة اليومية الصحيحة والخلاقة على دعائم علمية وموضوعية. ومن شأن ممارسة التحليل على اليومي أن تكشف عن جوانب من شدة تكرارها كنا لا نراها.

الحياة اليومية والمسرح

          ونحن من أجل مقاومة ضغط الحياة اليومية علينا كثيرا ما نرتدي القناع، وقد نعتمد على الحيلة والنفاق كطقوس للحياة اليومية. فإذا كان كل واحد يتقدم مقنعا ليلعب دورا، وإذا كان الملبس وشكل التواصل لهما أهمية كبرى في بناء اليومي، فلأن ذلك يعني أن الحياة اليومية تلتقي مع المسرح إلى حد بعيد في دراما الحياة اليومية، وتلتقي مع ألعاب الطفولة بشكل أكبر. وهنا تزداد أهمية النقد القادر على إزاحة الأقنعة وكشف الحجب حتى تتسنى معرفة وقائع الحياة اليومية وبنائها علميا، هذه المعرفة المرتبطة بمعرفة المجتمع ككل، إذ لا معرفة بالحياة اليومية من دون معرفة للمجتمع ككل، ولا معرفة بالحياة اليومية، ولا بالمجتمع إلا بخلع الأقنعة وتفهم غايتنا من الحياة ككل. إن جوانب الحياة اليومية متشابكة ومتكاملة، وعلى هذا الأساس تفهم الصعوبات الإضافية التي يتحدث عنها علماء الاجتماع في دراسة اليومي، لأنه ليس هناك شيء اسمه «ثانوي» أو «هامشي» في الحياة اليومية لبنية اجتماعية ما أو لشريحة اجتماعية ما، بل إن «الثانوي» في مجال اليومي قد يكون فاعلا ومحددا ويوجه الحياة وجهة جديدة أو يغيرها تغييرا جذريا. وإنه لمعروف جيدا أن إغلاق مقهى أو دكان لأبوابه، والذي قد يبدو ثانويا، يعني شيئا من الحياة قد توقف، ولهذا نجد الروائي العربي نجيب محفوظ يرصد الحياة اليومية وتغيراتها لتجسيد التحولات في المجتمع، ففي رواية «زقاق المدق» تبدأ الرواية بإزاحة المنشد في المقهى الشعبي ويحتل مكانه «جهاز الراديو» كبديل للسامر الشعبي، ونجد كارل ماركس في كتابه «رأس المال» يحلل أولا كل ما هو بسيط، وكل ما هو مألوف، وأصلي، وكل ما هو متواتر عند جميع الناس في الحياة اليومية، وإن تحليله يكشف في هذه الظواهر الأولية بذور تناقضات المجتمع الحديث، ولكنه توقف عند ممارسات البشر أثناء عملية الإنتاج وتجاهل ما يجري خارج أماكن العمل، بينما مفهوم «الحياة اليومية» يتضمن العمل المنتج دون أن يلغيه، بل ويستكمله آخذا بالاعتبار بقية أشكال الحياة اليومية في المواصلات، والترفيه، والحياة الخاصة، والأسرة، وغيرها من المتغيرات التي لحقت في زماننا المعاصر بمختلف أوجه الحياة والممارسة المجتمعية. وبعض الباحثين يتوقف عند تحليل النكتة والفكاهة والأمثال السائدة ليكشف عن بنية الوعي اليومي السائد في مرحلة معينة.

          ويعتبر الأدب العربي نموذجا رائدا للكشف عن الجوانب الخفية من الحياة اليومية، ويضعها في بؤرة الوعي، بل إن تاريخ الشعر العربي تكمن أهميته في رصد الحياة اليومية وصورها من خلال ثلاث صور أولها وصف الحياة اليومية وثانيها نقد هذه الحياة وتحليلها، وثالثها إعادة بناء اليومي من خلال تخيل صورة جديدة للحياة اليومية.

          والإنسان في الحياة اليومية يجد نفسه ممزقا بين ما هو كائن وما يريد تحقيقه وما ينبغي أن تكون عليه صورة الواقع، وينشأ عن هذا التمزق والصراع حالة من القلق وإعادة بناء الواقع في الوعي تمهيدا لتغييره في الواقع ويتدخل هنا دور الوعي بالمصير والمعتقد والأيديولوجيا في تصور الواقع والحياة اليومية، فالإنسان لا يرى من اليومي إلا ما يرتبط برؤيته وتحقيق أهدافه وهذا يعني أن الحياة اليومية يمكن أن تكون مسارا واعيا للإنسان، أي أنها يمكن أن تكون معرفة بالواقع حتى يمكن اتخاذ ذلك المسار الواعي فيه، وبالتالي تغييره أو العمل في اتجاه ذلك التغيير. و هنا تصبح الحياة اليومية فعلا وليست مجرد انفعال، والعقل ليس هو الأداة الوحيدة لفهم اليومي، لأن الحديث هنا عن العقل في أرقى مستوياته يقصد به العقل الذي ينتج المعرفة العلمية، أي يعيد صياغة اليومي في صورة خاصة تجعله مفهوما من وجهة نظر معينة لا تستوعب كل أبعاد الحياة اليومية، فمجال الحياة اليومية أوسع بكثير من حدود العقل، لأن للحياة اليومية أبعادا غير مباشرة ولهذا نجد حضور الرومانسي والخيالي والوهمي والوجداني والعاطفي والعدواني والطقوسي في كل ما هو يومي، ويمارس الإنسان كل هذه الجوانب من خلال الفعل الحر أو النشاط غير المفروض عليه ويعبر فيه الفرد عن نفسه وفق قيمه الخاصة وليست القيم التي يفرضها عليه المجتمع، وهذا ما دفع الباحثين في الحياة اليومية إلى التأكيد على أن حرية الإنسان مرتبطة بهذا البعد الترفيهي لأنهما يشكلان وحدة لا انفصام فيها على اعتبار أن كلاً منهما يكمل الآخر.

          وأنماط الحياة الاستهلاكية في المدينة تحد من حرية الإنسان لأنها تقدم له قائمة جاهزة بما ينبغي أن يفعله في كل الحالات، ولذلك فإن المدينة تمثل أكبر حلقة في الجحيم البشري كما وصفها جان جاك رو سو، لأنها تقدم للإنسان أنماطًا جاهزة لممارسة نشاطه الحر بعد العمل، فتقدم النوادي وأماكن اللهو عن طريق تنميط هواياتهم وأفعالهم الحرة وحتى يمكن صياغته في صورة تسهل من السيطرة عليه، وإذا خرج من هذه الصورة الجاهزة يعتبره المجتمع شاذا ومريضا يحتاج إلى العلاج. ولذلك نجد أن الإنسان في المدينة يعيش تمزقات وصراعات كيفية قضاء الوقت نتيجة لتشابك العلاقات الاجتماعية وتشابك المهام، مما ينتج عنه إغراءات وإحباطات، ومن شأن هذا الوضع أن تكون له ردود أفعال سلبية يتم امتصاصها من خلال التحكم في جوانب الحياة اليومية وتنميطها وبالتالي تسلب الأفراد حريتهم في صياغة حياتهم حتى ممارساتهم الدينية والروحية. ويستخدم المجتمع في ذلك الإعلانات بأشكالها المباشرة وغير المباشرة عن طريق تكرار الصور المرئية التي ترسخ الدعوة لأفعال بعينها كأفعال حرة مثل تشجيع الرياضة والسينما التقليدية التي تؤدي لتكرار الأفعال في الحياة اليومية، ولعل هروب كثير من الغربيين للثقافة الآسيوية والشرقية هو هروب من تكرار أفعال الحياة الغربية المعاصرة.

نظريات علم نفس الحياة اليومية

          نحن عادة ما لا نعاني صعوبات في تشكيل تصور حول لماذا يفعل الناس بالتحديد هذا الأمر وذاك، أو لماذا يبتسمون أو يتباطأون أو لا يسلمون أو يتجاهلون شخصاً يمر بهم. ولا يصعب علينا التعرف على مقاصد وأهداف ورغبات وأحاسيس في سلوكهم. فهل هو «التعاطف» الذي يمكننا من ذلك؟ هل نحن قادرون على فهم الآخر، لأننا «نشعر» بما يمر به الآخر، في أعماق أنفسنا؟

          هناك نظريات تفسر أسباب السلوك تجاه الآخر، ففي واحدة من مثل هذه النظريات يتم - كما هو الحال في العلم - افتراض أشياء غير قابلة للملاحظة بشكل مباشر لأغراض التفسير، أي ما يسمى الحالات والرغبات والقناعات والمقاصد والأهداف النفسية للتصرفات، وبالفعل يستند الناس غالباً إلى رغبات ومقاصد واهتمامات ومخاوف وأفكار ومشاعر من أجل وصف سلوك الآخرين أو سلوكهم أنفسهم وتفسيره.

          ولكن كيف يعرف المرء ما الذي يدور في رأس الآخر بالفعل؟ تقول الإجابة التقليدية بأن الأمر يتم من خلال القياس، وطبقاً لذلك فإن الناس يعممون خبراتهم الذاتية وأفكارهم على خبرات وأفكار الآخرين، الذين يكونون في موقف مشابه لهم، إلا أن الاستنتاج من الذات على الآخرين له ثغراته، فما الذي يجيز لنا استخدام الذات نموذجاً بالنسبة للآخرين؟ إذا كان الإنسان نفسه لا يعرف وضع الآخر؟ ماذا لو أن الإنسان يختلف عنه كلية؟

          لقد جعلت مثل هذه الأسئلة فرضية ما يسمى بنظرية الحياة اليومية النفسية جذابة، فإذا كان الناس يستنتجون الحالات النفسية من أجل أغراض التفسير، فهذا يعني أنهم لا يقومون بالتعميم انطلاقاً من أنفسهم على الآخرين كما أنهم ليسوا قادرين على قراءة أفكارهم، إنهم يتصرفون كما يتصرف علماء الفلك الذين يفترضون وجود الثقوب السوداء من أجل تفسير الفجوات الملاحظة في مسارات الكواكب.

          يرى المدافعون عن هذه النظرية أن نظرية علم نفس الحياة اليومية عبارة عن نظرية ضمنية في جزء كبير منها، كامنة في لاشعور الإنسان، وأن العمل الأساسي لتطوير هذه النظرية يتم إنجازه في فجر الطفولة المبكر، بحيث إنه ليس من العجيب ألا يتذكر المرء أي شيء من هذا، فالأطفال الصغار ينطلقون من تصور خطأ مفاده أن كل الناس يرون الأمور كما يرونها هم، أما الأطفال الأكبر سناً فقد عدلوا هذه النظرية بناء على تكرار الفشل، فقد أدركوا أن للناس الآخرين قناعات مختلفة عن قناعاتهم أنفسهم، حتى وإن كانت هذه القناعات خطأ.

          إلا أن هذا ليس التفسير الوحيد الممكن للنتائج، ففي أواسط الثمانينيات من القرن العشرين عادت نظرية الفهم من خلال الإحساس برؤية جديدة ثانية تعتمد على التواصل والتفاهم، مما يساهم في تفسير سلوك الآخر أو التنبؤ به بدلاً من إسقاط سلوكنا الخاص على الآخرين، وهناك نظرية تسمى نظرية المحاكاة وما يتطور لدى الأطفال الصغار وتطوير القدرة على وضع أنفسهم مكان الآخر.

          وهناك نظرية أخرى تعتمد على التقدم الذي أحرزه علم الأعصاب في تصور طريقة استجاباتنا للآخر، فقد وجدوا في مقاطع محددة من القشرة الدماغية لدى قرود المكاك - وهي قرود آسيوية - نوعًا جديدًا من الخلايا العصبية، أطلقوا عليها الأعصاب العاكسة، وتنشط هذه الأعصاب عندما يراقب القرد تصرفًا معينًا، وعندما يقوم بها هو بنفسه، وقد تم بشكل خاص وصف الأعصاب التي تستجيب لحركات يد أو فم بسيطة من نحو «أعصاب القبض» و«أعصاب المعالجة اليدوية». «فأعصاب المسك باليد»  تستجيب على الأغلب عندما يتم إمساك أشياء صغيرة بين الإبهام والسبابة وكذلك لدى الإنسان يعتقد بوجود أعصاب عاكسة مشابهة. فخلف الجبين، في اللحاء الماقبل أمامي  يتم تسجيل نشاطات قوية عند التخطيط والملاحظة، بالإضافة إلى ذلك فقد وجد كف لتلك الأعصاب الحركية التي قد تكون مسئولة عن تنفيذ التصرف المراقب وذلك عند قيام الشخص بمجرد الملاحظة، ويظهر المرضى الذين تكون لديهم هذه المناطق الدماغية متضررة سلوكاً غريباً:

          إنهم يقلدون الإيماءات التي يتم إجراؤها أمامهم بشكل آلي (لاإرادي). ويرى علماء الأعصاب في الأعصاب العاكسة الأساس البيولوجي للقدرة على  التعرف على قناعات أو رغبات أو مقاصد الآخر.

بصيرة الحياة اليومية

          في وسعنا أن نميِّز في حياتنا بين مستويين يمكن لمبدأ الغاية أن يتجلَّى من خلالهما: مستوى مباشر، وآخر غير مباشر، فيمكن للمبدأ الغائي للحياة، في صورته الضيقة، أن يعبِّر عن نفسه من خلال أية أحداث تفيد في توجيهنا نحو مستويات أعلى من التعلم واليقظة العقلية، مَن منَّا لم يتفق له، في وقت من الأوقات، أن يواجه موقفًا أو يقابل شخصًا، يدرك فيما بعد أن «القصد» منه كان التمهيد لشوط جديد مهم من أشواط نموِّه الداخلي؟ هذه «المسارات الحياتية» - إذا جاز التعبير- تتخذ صورًا لا حصر لها مثل جملة بسيطة نسمعها من أحدهم ونحن نمشي في الشارع قد يظهر لنا المبدأ الغائي في مناسبات نادرة من خلال أحداث أو اقتران ظروف تقترب من المعجزة حيث نجد صياغة لما نريده من حياتنا من مثل تلك الظاهرة الشائعة التي يقتحم فيها كتابٌ ما حياتنا بالسقوط من على رفِّ مكتبة أو بأية وسيلة أخرى في وقت نكون في أمس الحاجة إلى الاطلاع على محتواه، وقد يلتمس بعضنا هذا بفتح المصحف عشوائيًّا للانتصاح بخصوص مشكلة تواجهه.

المنظور الأوسع للحياة

          عندما نتقدم في العمر ونستعرض ما فات من عمرنا، قد يبدو وكأن له نظامًا ومخططًا متسقين، كما لو أنه كان من تأليف أحد الروائيين. إن أحداثًا بَدَتْ طارئةً وقليلة الشأن لدى وقوعها يتضح أنها كانت عوامل لا غنى عنها في نسج حبكة متماسكة، فمن ذا الذي ألَّف تلك الحبكة؟ يقترح الفيلسوف شونهاور أن حياتك برمَّتها، مثلها كمثل أحلامك المكوَّنة من مظهر من مظاهر نفسك لا تعقله نفسك الواعية، مكوَّنةٌ أيضًا من الإرادة الكامنة فيك. وكما أن الناس الذين التقيتَ بهم ظاهريًّا بمحض المصادفة أصبحوا أدوات رئيسية في تنسيق حياتك، كذلك أنت أيضًا كنت من حيث لا تدري تخدم كأداة، مانحًا المعنى لحياة الآخرين. والأمر برمَّته يتناغم وينسجم مثل سمفونية واحدة عظيمة، كل ما فيها ينسِّق كلَّ ما فيها من حيث لا نعي، ويخلص شونهاور إلى القول بأن الأمر كما لو أن حياتنا هي معالم حلم واحد عظيم يحلمه حالمٌ مفرد وتحلم فيه أيضًا كل شخوص الحلم؛ بحيث إن كلَّ شيء مشدود إلى كلِّ شيء آخر، تحرِّكه إرادةُ الحياة الواحدة التي هي الإرادة الكلِّية في الكون.

          ويمكن أن نشبه تفتح شروط الحياة بمراحل المسرحية، ففي الفصل الأول، توضع الشروط الأساسية التي توطد أسُس الدراما برمَّتها، وفي الفصل الثاني، تندرج تحديات أو مصائب في حياة البشر، بينما في الفصل الثالث يُسار بالتحدي إلى نتيجة نهائية. فعلى الرغم من أن «مصائب» الفصل الثاني يمكن أن يُنظَر إليها من حيث دينامية العلة / المعلول الناجمة عن الفصل الأول، فإنها، من وجهة نظر مسار الحياة الأوسع، يمكن أن تُرى أيضًا بوصفها أشواطًا في نموذج نموٍّ لا يتضح إلا في الفصل الأخير للمسرحية. على غرار ذلك، يمكن القول إن التحديات التي تظهر في مستهل حياتنا قد تحملنا على صرف ضروب من العمل يكمن القصد منها في ثنايا مخطط نمو أوسع، هو صيرورة التفردُ، شريطة أن نكون قادرين على إدراج درايتنا وبصيرتنا الوجدانيين في القضايا الأوسع التي تنجم عن تلك الأشواط التأسيسية من العمر.

          إن عثرات الحظ وسوء الطالع الذي ينزل بنا، منظورًا إليها في سياق أوسع، لا تبوح بمغزاها إلا عندما تُرى على خلفية نموِّنا الروحي البعيد المدى، الذي هو عينه صيرورة تفردُنا. إن البُعد الروحي لقصدية الحياة قد لا يكون جليًّا في سياق عمر واحد، تتخذ البلايا والعثرات ومصاعب القَدَر ومنعرجاته، في سياق أعمار عديدة، مغزى مختلفًا بوصفها مراحل في رحلة التطور العظيمة. إن ذاتنا الحقيقية أو كياننا الفردي العميق يدرك الحوادث الأرضية إجمالاً إدراكًا يختلف بشكل كلي، من حيث سعة الرؤية والحس الزمني، ويتطور، من حيث نموُّه الروحي، على مدار الزمن بالقياس إلى السبعين سنة التي نحياها على الأرض. ومن الممكن أن يحدد الإنسان لنفسه غاية وهدفا في الحياة على الرغم من كل المظاهر الجزئية التي يحياها ولنتذكر المسلَّمة المتعارف عليها في الحياة الروحية: «عندما يكون التلميذ على أهبة الاستعداد لتلقي العلم يظهر المعلِّم». من هنا يمكن لنا، بتنمية الاستعداد للتلقي والشعور الدائم بـ «إجلال الحياة»، واختصار صيرورة التعلم كما تبدو ليس من خلال معلِّمين أحياء وحسب، ولكن من خلال قراءة أحداث وأحلام ورموز متنوعة.

          إن عملية التِماس إشارات وتعاليم روحية يمكن لها أن تتيسر بواسطة الرياضة الروحية، كالصلاة العميقة والتأمل والصوم الروحي، مما يضع المرء في حالة طنين قصوى مع الفطنة الخفية التي توجِّه حياتنا، ومن الأمثلة الدرامية على هذه الفكرة «طلب الاستخارة» في التراث الإسلامي، حيث يزهد المشارك في الحياة الدنيوية وينتبذ بصفة مؤقتة مكانًا معزولاً في الطبيعة على أمل تلقِّي رؤيا خاصة أو تعليم حياتي. ومع أن الاعتقاد الشائع هو أن الكشف المطلوب يجب أن يتخذ شكل رؤيا من نوع ما، فإنه كثيرًا ما يأتي على هيئة حدث طبيعي درامي أو حادث تزامُني يتعلق بحيوان أو طير أو نبات أو حتى جماد لأن كل شيء حي، بحسب الموروث الديني.

كرهتِ حقائقَ دنيا الورى وهمتِ بأوهامِ دنيا الخيالْ
فما يتصبّاكِ إلا الرؤى وسحرُ الطيوفِ وسحرُ الظلالْ
متى يا ابنةَ الوهمِ تستيقظين متى ينجلي عنك هذا الخيالْ
أفيقي، كفاكِ، لقد طالَ مسراكِ عطشى وراءَ سرابِ الرمالْ


فدوى طوقان

 

رمضان بسطاويسي محمد