هل يشتري المالُ الفن؟!

هل يشتري المالُ الفن؟!
        

          لاشك أن كل إنسان يعلم أن في العالم العربي ثروات مالية طائلة، تكاد أن تضاهي الثروات المالية في العالم. كثيرون من أثرياء العرب في كل بلد عربي زاروا ويزورون المدن الأوربية والأمريكية، وهم لا يزورون في أسفارهم سوى الأسواق والمطاعم، وتكاد القلة القليلة منهم تخصص وقتًا لزيارة متحف أو دار أوبرا. إذ إن الفن لا يعني لهم شيئًا ولا التاريخ، لهذا فالأسواق والمطاعم هي متاحفهم المفضلة.

          أنا هنا لا أنتقد الإنسان العربي. من حقّه أن تكون ثقافته الفنية ليست على مايرام أو معدومة، ومن حقه أيضًا أن يرفض ويبتعد عما لا يعرفه.

          إذا نظرنا إلى الفن التشكيلي في العالم العربي، نرى أنه يزدهر جيلاً بعد جيل، ويماشي عصره داخلاً في المجتمع الفني العالمي. مع هذا يبقى الفن في بلادنا محصورًا في قسم من المجتمع، وبقية المجتمع لا دخل لها فيه، إذ إن ما تبحث عنه وتستفقده هو التعليم والدراسة، وأمنية هذه الفئة من المجتمع هي هجرة الأمية للاقتراب من العلم والمعرفة.

          ما أستغربه في بلادنا هو وجود الفقر، وأراه يقف مقهورًا بوجه الثروات الطائلة في البلد ذاته، أي بلد عربي.

          أقول لنفسي، ولا أرى سوى نفسي لأن أكلمها، أقول لها مستغربًا إن في بلادنا فقراء وأميين، بينما نستطيع أن نعدم الفقر والأمية في هذه البلاد.

***

          يفتتح يوميًا متحف جديد في أوربا وأمريكا، أو عدة متاحف في اليوم الواحد، أصبحت السياحة ثقافية. ينتظر المئات من زائري المتاحف ساعات ليتسنى لهم الدور للدخول إلى المتحف المزدحم بالزائرين الآتين من الشرق الأقصى واسكندنافيا وجميع الدول الأوربية. أرى هذا في برشلونة ومدريد وباريس. بطلت السياحة أن تكون سياحة أكل وشرب وملبس، الإنسان المعاصر أصبح يتوق إلى التحرر من ضجة المدن ورتابة الحياة المادية، يتوق اليوم إلى حياة تتوازن فيها المادة والروح. وتقرّبه من الفنون وتبعده عن طغيان المادة التي تسمم المدن وفيها سكانها، والملجأ الوحيد هو الدخول في عالم يبعده عن ذلك، وهو عالم الفن.

          لا يستطيع بلد أن يضع الفن والثقافة في مرتبة عالية إذا كان حكامه تنقصهم المعرفة، وحب السمو بالفكر، الشعب توّاق للجمال إذا كان محاطًا به. إذا كان الحاكم من محبّي الفن والثقافة، وفي الوقت نفسه محب لشعبه، فهو يعمل ليعطي ما يحبّه لشعبه، أما إذا كان بعيدًا عن الاهتمام بالفن والثقافة، فشعبه يبقى أيضًا بعيدًا عنهما. أذكر ومنذ ثلاثين سنة تقريبًا، أراد متحف الفن في لندن أن يقتني التمثال المشهور للنحات الفرنسي «رودان» Rodin. في ذلك الوقت لم يكن لدى المتحف المال الكافي لشراء تمثال «القبلة» لرودان، فما كان من القيّمين على المتحف إلا أن وضعوا صندوقًا على باب المتحف للتبرّع لشراء هذا التمثال. ولم يطل الوقت حتى كان الصندوق مليئًا بالتبرعات من الزائرين، وقد اكتملت القيمة المالية لشراء التمثال الذي أصبح ملكًا لهذا المتحف في لندن. أي أن الشعب اللندني اشترى التمثال حبًا بالفن وحبًا ببلده.

***

          المفرح الآن هو أن بلاد الخليج العربي وعت النقص في بقية البلدان العربية، وراحت ومنذ سنوات تنشئ متاحف عالمية في مدنها، متاحف فنية وعلمية وأثرية، وهكذا أصبحت هذه المدن تهيئ لنشاطات فنية لأجيال ستهتم بالفنون ومن تلك الأجيال سيبرز الفنان العربي الجديد.

          نحن في حاجة إلى تثقيف إحساسنا، الفوضى الفردية والمجتمعية تجتاح حياتنا وتوقف تقدّمنا وتبعدنا عن النظام وعن احترام الآخر.

          الفن هو رفض الفوضى, وهو السبيل الذي يوصل إلى الوضوح، ونحن أحوج ما نكون إليه لترتيب حياتنا لنصل إلى مجتمع قادر على أن يفرّق ما بين الجمال والبشاعة، وأن يبعدنا عن الرداءة وهي اليوم في كل ما نراه ونسمعه، الشاشات التلفزيونية العربية تعمل ليلاً نهارًا لنشر قلة الذوق والتشجيع على الابتعاد عن الفن الراقي والأدب والعلم، أي عن الثقافة، التي دونها لن يصل الإنسان العربي إلى ما يستأهل أن يصل إليه من علم وحب للجمال ورفض الرديء والسطحي.

 

أمين الباشا