في فرانكفورت هل يبقى الملك على عرشه؟

 في فرانكفورت هل يبقى الملك على عرشه؟

عدسة: سليمان حيدر

"جونتر جراس" الأديب والفنان الألماني الفائز بجائزة نوبل للآداب في آخر أعوام القرن العشرين, بدا أصغر من أعوامه السبعين بعقود عدة, بينما وجهه الموسوم بشاربه الكث, ونظّارته المنزاحة إلى أسفل, يحفل ببهجة ظاهرة وسط الزحام الهائل حوله عند مدخل قاعة (النشر الإلكتروني) التي تحمل رقم (4) بين 15 قاعة ضخمة ضمّها معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في دورة انعقاده الحادية والخمسين في أكتوبر الماضي.

كان جونتر جراس متجّهاً إلى منصة ناشر كتبه في الجناح المخصص للأدب الألماني بالطابق الأعلى, لكن الزحام أحدق به, فشققت الزحام شاهراً بطاقة الموفد الصحفي لأفسح مجالاً لزميلي سليمان حيدر حتى يختطف بضع صور وسط غابة (الكاميرات) التي رفعها أصحابها عالياً فوق رءوسهم لتجاوز عدساتها الزحام إلى المحتفى به, وما إن صرت وجهاً لوجه أمام (جونتر جراس) المشعّ بقوة الحضور البسيط والثري في آن - شأن روايته الشهيرة الرائعة (طبلة الصفيح) وشأن المبدعين الكبار في كل زمان ومكان - حتى نسيت صور سليمان, ومددت يدي مصافحاً جونتر جراس لأحسّ بيده التي كتبت ورسمت ونحتت مئات الأعمال البديعة لفنان من أشهر كُتّاب ما بعد الحرب العالمية الثانية, كانت المصافحة خاطفة, ولا أعرف إن كانت تهنئتي له قد بلغت سمعه أم لا? (باسم زملائي من الكتّاب والقرّاء العرب.. أهنئ الجائزة بك), ولا أعرف إن كان ردّ بشيء, لكنني لحظة مصافحته رأيت وجهه يحفل بتهلل بالغ الودّ, كانت برهة خاطفة, لكنها طبعت في ذاكرتي صورة لا تنمحي للوجه المميّز, وتركت في يدي إحساساً بيد الكاتب العالمي الدافئة والممتلئة قليلاً, والتي أبدع بها ما أوصله إلى مرتبة الأمراء, في رحاب مملكة الكتاب المطبوع. وعندما تحرّك آخر الفائزين بجائزة نوبل للآداب في القرن العشرين شاقّاً طريقه بعد الوقفة القصيرة عند المدخل, بدا وكأن مغناطيساً يفرغ منصّات وأجنحة النشر الإلكتروني من أصحابها ومشرفيها وروّادها جميعاً, ويسحبهم وراءه كرداء ملكي منسوج من آلاف البشر, وكان هو هناك في المقدمة, لا يبين من فرط الزحام, بقامته الربعة المتوسطة الأميل إلى القصر, لكنه كان هناك في المقدمة, توقف الزحام عندما توقف, ولمعت (فلاشات) المصوّرين من كل أرجاء العالم, عُزفت موسيقى احتفالية, وقيل كلام لم أتبيّنه, ثم صعد جونتر جراس على شيء مرتفع ليحلّق كطائر خرافي أليف فوق زحام محبّيه, ألقى كلمة موجزة حافلة بالامتنان وبوعد (الاستمرار معاً), ولوّح بغليونه الشهير, فانطلق الآلاف يغنّون: (عيد ميلاد سعيد يا جونتر.. عيد ميلاد سعيد).

كان جناح النشر الإلكتروني كله يحتفل بعيد ميلاد واحد من سادة الكلمة المطبوعة.

قلم عملاق, ومدينة في أسطوانة

فرانكفورت التي تتوسط قلب ألمانيا, وتقع على مفترق الطرق بين كل أنحاء أوربا تشتهر بأنها مدينة البنوك والتجارة العالمية والمعارض الدولية والتسوّق والانبساط (بكل ألوان طيف الانبساط), وهي تدين بصعودها للإمبراطور (شارلمان) نفسه الذي حوّلها من قلعة محدودة إلى مدينة يتوّج فيها الأباطرة الجرمانيون, والآن هي مدينة أوربية عصرية ذات سمت ألماني مميز, يمزج بين حداثة ناطحات السحاب وبريق الزجاج والمعدن في المحيط, وبين الأبنية الجرمانية ذات العليات المثلثة, والزخارف الباروكية في القلب العتيق للمدينة, حيث ولد في 28 أغسطس عام 1794 شاعر الألمان الأكبر جوته في بيت تغطي جدرانه خضرة اللبلاب وبهجة الصباح حتى الآن.

وعلى ضفاف نهر (الماين) الذي يشق المدينة تبدو ناطحات السحاب منعكسة على سطح مياه النهر الفسيح وكأنها بنايات مانهاتن النيويوركية على مياه الأطلسي, لهذا يدعو البعض فرانكفورت مزاحاً بـ (ماين هاتن) نسبة إلى نهر الماين, يسكنها 634 ألفاً, ويتدفق عليها من الخارج ومن الأطراف يومياً 300 ألف إنسان, ومع ذلك لا يحسّ زائرها أبداً بوطأة الزحام, ولا بتلوث هواء الشوارع رغم كثرة المركبات, ومنذ النظرة الأولى, يتضح كثرة الوافدين غير الألمان من بين سكان المدينة, وهم يشكّلون 25% من مجمل سكانها, أتراك, وعرب, وأفارقة, وآسيويون, وثمة شوارع كاملة ذات نكهات تشير محالها وأرصفتها ومطاعمها إلى جذور قاطنيها ومرتاديها.

تحت هذا السطح المعماري والديموغرافي والصناعي والتجاري, تنبض حياة ثقافية حافلة بأنغام أوبرا فرانكفورت الشهيرة, واحتشاد للمتاحف الثقافية رفيعة المستوى في تجاور مدهش بمكان واحد يسمّونه (ضفة المتاحف), فعلى امتداد ميل كامل, يمكنك أن تخرج من متحف لتدخل آخر في زخم ثقافي يكاد لا يُضارع في العالم كله, لهذا - وعبر ولعي بالفلاسفة الألمان وإبداعات هيرمان هيسه وزيارتين سابقتين لألمانيا - أرى أن الثقافة الألمانية ظُلمت لدينا ظلماً كبيراً يستحق التصحيح, فـ(التنويريون) الأوائل قدّموا لنا الغرب مختزلاً في فرنساً وإنجلترا اللذين أرسل هؤلاء (التنويريون) كطلاب بعثات إليهما, وثمة مدخل آخر لظلم الثقافة الألمانية لدينا, هو تواري هذه الثقافة خلف ستار شهرة ألمانيا الصناعية, رغم أن الثقافة الألمانية لا تقل رفعة عن تفوّق هذه الصناعة, بل أعتقد أنه لولا هذه الثقافة الرفيعة ما كانت تتحقق دقة وقوة الصناعة لدى الألمان.

في الصباح الأول الذي فاجأنا ببرودة منعشة وغير متوقعة للقادمين من إحدى أكثر مناطق العالم حرارة, سألنا عن المكان الذي يقام فيه المعرض الدولي للكتاب, وقيل لنا إنه شديد القرب من فندقنا في شارع (بازلر), ووصف أحدهم المكان قائلاً: (ستمشون حتى محطة القطارات القريبة وتعبرونها, ومن ثم سترون أمامكم على مسافة بسيطة ناطحة سحاب طويلة رفيعة, هناك ستجدون مدخل المعرض).

وبالفعل, مشينا عشر دقائق حتى صرنا أسفل ناطحة السحاب التي تشبه قلماً بارتفاع 265 متراً, يشرع سنّه في وجه السحب, إنها بُرج المعرض (ميسى تورم), واسمها المتداول بين الناس (القلم) فهل هي صدفة أن يكون المدخل إلى أرض المعارض في فرانكفورت بُرجاً على شكل قلم?!

البُرج هو المركز الإداري لأرض المعارض, وهي مؤسسة خاصة تنظّم مجموعة من المعارض العالمية على مدار العام, فقبل معرض الكتاب كانت هناك معارض دولية للسيارات, ومستلزمات البيوت, والأزياء والعطور, وثمة معارض تالية للبنوك وتقنيات المحاسبة, والصناعات الدوائية, وجميعها تُدار بمنطق اقتصادي يستهدف الربح, وهي تربح إلى درجة إدراجها ضمن شركات المنافسة في بورصة فرانكفورت.

كنت قد درست مخطط المعرض جيداً عبر معلومات وافية حصلت عليها من شبكة الإنترنت, لكن ليس من رأى على الواقع كمن اطلع عبر الشاشة أو على الورق, فالمعرض مدينة كاملة من الأبنية المابعد حداثية, المشيّدة من المعدن والزجاج, بها شوارع تجوبها باصات خاصة, والقطار يدخلها, ومن المؤكد أن هناك مهابط للطائرات, وثمة نفق للمترو يوشك على الاكتمال, أما قاعات العرض هائلة المساحة, فهي تتوزّع على ثلاثة أبنية تتراوح طوابقها بين 3-5, وثمة 4 أبنية بكل منها طابقان, مدينة من مدن الخيال العلمي يغمرها الضوء عبر الزجاج, ومعظم شوارعها وسلالمها تتحرّك كهربياً, وخلال دقائق من الوجود داخلها تصبح الحركة فيها يسيرة وشديدة الوضوح.

رغم أن المساحة المخصصة للعرض شاسعة بلغت هذا العام 190 ألف متر, يتوزع عليها أكثر من 385.000 عنوان, منها: 894 عنواناً جديداً لأكثر من 6643 عارضاً وناشراً ومنتجاً لبرامج الكمبيوتر ولوحات الفن من 113 دولة, هذا إضافة لقرابة 300.000 زائر وكاتب وناشر وبائع كتب وممثلين للصحافة والإعلام يبلغ عددهم 11 ألف صحفي, والأرقام كلها تتفوق على أرقام معرض السنة الفائتة. المعرض مدينة تقنية فسيحة استطاعوا تحويلها إلى واقع افتراضي مختزن في أسطوانة مدمجة بحجم راحة اليد, وبضغطة زر من أزرار أجهزة الكمبيوتر المتاحة مجاناً في المركز الصحفي يمكن لمن يشاء أن يتجوّل في أرجائها الواسعة, ويتوقف عند دقائق ما تحتويه الأجنحة ومنصّاتها, بل أرفف العرض, ويمكنه أن يتابع الندوات, ويحصل على جديد المداخلات والأخبار أولاً بأول, ومن ثم ينطلق بسرعة الرصاصة ليصيب هدفه بدلاً من إضاعة الوقت في البحث عنه وسط ركام آلاف العناوين, ومئات الفعاليات المستمرة في كل ركن بأركان هذه المدينة.

كان كل شيء معدّاً سلفاً بدقة ألمانية برّاقة, وأنيقة, وتكاد لا تحتمل الخطأ أو حتى التغيير, لهذا توافرت الأرقام - التي أوردت بعضها - والرؤى منذ اليوم الأول.. وكان ذلك مدهشاً.

أهل الكتاب.. واعرباه

معرض فرانكفورت للكتاب هو في حقيقته العملية سوق العالم الكبرى التي يتم فيها تبادل حقوق النشر ومنح رخص إعادة النشر والترجمة, لهذا لا يبدو مستغرباً بعد التعرّف على هذه الحقيقة أن نكتشف تخصيص أربعة أيام كاملة من أيام المعرض الستة (من 13-18 أكتوبر) للناشرين والعارضين وممثلي الصحافة والإعلام, أما الجمهور, فليس له إلا يومان فقط يُفتح فيهما باب البيع المحدود, فثمة كتب ومطبوعات ووسائط إلكترونية تُعرض للتعرّف على المنتجات المستقبلية للناشرين والتي لن تطرح في الأسواق إلا بعد عام أو عامين.

الهدف العملي هو التجارة والترويج لمنتجات (العقل البشري) Brain power), لهذا تجد المنصات والأجنحة الكبيرة مزوّدة بما يشبه مقاصف أنيقة داخل حدودها يستريح بها الروّاد, وتقدم لهم المرطبات والشاي والقهوة والكعك, وبالطبع (عيّنات) البضاعة وعقود النشر والترجمة.

لكن الأهداف التسويقية ليست غاية وحيدة في نظام عمل معرض فرانكفورت, فثمة تطلعات فكرية تندرج في نسيج هذه السوق الثقافية العالمية, وثمة فعاليات هدفها الصعود نحو هذه التطلعات والتسامي بها, وهو ما عبّر عنه رئيس اتحاد الناشرين والموزعين الألمان (رولاند أولمار), عندما قال: (المعرض هو أكثر من مجرد معرض تجاري يمكن تلخيصه في أرقام وإحصاءات تسويقية فقط, إنه عنوان شراكة وصداقة بين أهل الكتب).

هذه الشراكة والصداقة لم تكن مبالغة لفظية, بل حقيقة ملموسة ترجمتها اهتمامات القائمين على المعرض والفعاليات التي نظّموها, فثمة ندوات على مدار أيام المعرض ناقشت مواضيع مثل: الثقافة والفن وحرية التعبير, والعولمة والتنوع الثقافي, وقضايا النشر والمعرفة في الألفية الثالثة, والنشر التعليمي العابر للقارات, أما الاهتمامات (الأممية), إن صح التعبير, أو العبر أوربية بشكل ما, فقد كانت لافتة, فلأول مرة بعد سنوات من مقاطعة المعرض, مثلت إيران بخمسة ناشرين مستقلين على خلفية الانفتاح الخاتمي, وتنائي الرئيس الإيراني عن فتوى قتل سلمان رشدي.

كما عقدت ندوة مشتركة لكـُتّاب من كل جمهوريات يوغسلافيا السابقة, وشكّلوا معاً ما أسموه (مجموعة 99) لخلق تيار من التلاقي الثقافي بين إخوة الأمس يجابه جنون التعصب العرقي والديني في البلقان, وقد تحمّس جونتر جراس لهذه المجموعة, وأعلن عن انضمامه للمشاركة في نشاطاتها القادمة.

أما عنّا, فقد كان هناك ذلك العنوان المكرر في الغرب, والممل دائماً (المرأة في العالم العربي), وكأنه ليس لدينا قضايا فكرية وحياتية غير (اضطهاد المرأة العربية) أو (نضالاتها) أو (نجاحاتها), ورغم أن عنوان هذا العام كان أفضل كثيراً (دور المرأة في الانفتاح الثقافي بالعالم العربي), فإن اختزال صورة العرب في هموم شق واحد من مكوّناته هو تكريس لانطباع غربي لا يخلو من شبهة التسويق في اسـتبداد الرجل الشرقي, بينما الرجل كالمرأة سواء في معاناة واحدة تحت سقف العشوائية الشائعة, والتخلف المدني الملحوظ, والتربص الظلامي بالنوايا الثقافية والإبداعية, وتهديدات البيئة والمناخ والفقر والتسلط والجهل من كل نوع.

وعلى ذكر أحوالنا هذه, أحب أن أعرّج قليلاً على الأجنحة العربية في معرض فرانكفورت والتي كانت بكل المقاييس فضيحة يدركها كل مَن انتبه إليها في سياق الصورة العامة لهذا المحفل الثقافي العالمي الأهم في قلب أوربا. ومن الغريب أن كثيرين من القائمين على شأن هذه الأجنحة العربية, كانوا في غاية الرضا عن أنفسهم, وهو رضا يتجاوز قول طه حسين في أحد كتاب الدرجة الثالثة المشاهير في زمنه: (ماذا تقول عن رجل رضي عن جهله, ورضي عنه جهله?), فالمسألة ليست جهلاً فقط, بل هي سوء نية متعمّد لغايات دنيا كبدل السفر والنزهة وإعطاء الانطباعات الكاذبة لدى المسئول, ولقد رأيت وسمعت موظفاً طويلاً عريضاً يسجّل لقناة فضائية في أحد أركان جناحه الرسمي المتهرئ, ويتحدث بكل جسارة وافتـئـات متعمّد عن: عالمية (مستوانا)!

الأجنحة العربية الرسمية جميعها كانت في ركن خلفي مهمل من القاعة السفلية رقم 9, تعرض على الأوربيين والألمان كتبا عربية رديئة الصنع, متواضعة التأليف, والكتب المترجمة إلى لغة أوربية بينها كانت لا تخرج عن إطار كتب (التلميع) الرسمي الفجّ, وحتى الإبداع المترجم كان لأسماء واختيارات لا تكاد تتعدى منطق المجاملة لأسماء معظمها لا يُقرأ داخل وطنه العربي.

أمّا قلة الذوق, في معرض جوهره يتعلق بالثقافة - أي قمة الذوق - فحدّث ولا حرج: كـُتب مرصوصة على أرفف عارية وكأنها دكاكين بقالة أسوأ حتى من عرض بائعي الكتب على الأرصفة, والديكورات منعدمة, والملصقات في ملقها المعتاد داخلياً, نسيت نفسها, وكررت ذاتها في قلب أوربا الديمقراطية المتقدمة, والطبيعي أن تكون النتيجة عكسية ومضادة لأهداف المتملقين, لهذا خلت أجنحة العرب إلا من موظفيها.

قد يُقال إنها رقّة حالنا, ولا أرى إلا أنه هواننا على الناس وعلى أنفسنا قبل كل شيء, وعدم الإخلاص في أبسط وأوضح صوره, فتركيا التي كان جناحها قريباً من الجناح العربي قدمت نقيضاً في الأداء وتحوّل جناحها إلى مزار يشغي بمرتاديه, قد يُقال إن ذلك بفضل كثرة الأتراك في ألمانيا, فأسأل: وما قولكم في جنوب إفريقيا التي صارت منافساً دولياً في إنتاج الكتاب والميديا المصوّرة?, ولا أريد أن أذكر إسرائيل التي وضعت جناحها وسط الكبار في أوربا وأمريكا, ونجحت في تكريس كـُتاب وكـُتب لدينا ما يفوقها بمراحل, ناهيك عن كتب الدعاية المصنوعة بدهاء, والتي سرقت أرضاً عربية وتراثاً عربياً, وراحت تقدمه للعالم على أنه موروثها, وقد عرفت كيف تقدمه, بينما دسناه نحن بأقدام التهافت والملق والأداء الشكلي الخالي من الذوق والروح والضمير.

نحن, والله, لسنا معدمين, ولسنا أقل من غيرنا في مضمار الثقافة خاصة, فنحن كأمة عربية شيء كبير وكثير إن انتقينا من ذواتنا الأفضل والأجدر وقدّمناه بإخلاص ودأب, ودليلي على ذلك من معرض فرانكفورت ذاته, فالآثار والتنوّع البيئي والإبداع الأدبي العربية جميعاً كانت مواد نادرة يصوغها ويسوقها ناشرون عالميون من أمريكا وكندا وأوربا, يربحون منها, وينجحون, وثمة فنان للخط العربي كان يقدم عرضاً حيّاً وتسويقياً لفنّه داخل جناح ناشر ألماني - ويبدو أنه ألماني التجنس, عربي أو مسلم الأصل - ما كنا نمر على موقعه إلا ونضطر إلى الدوران بعيداً حتى نتجاوز زحام الجمهور المبهور من حوله, ولنعد إلى موضوعنا!

بالبلايين, نعم, بالبلايين!

لقد ذهبت إلى فرانكفورت, وفي رأسي يطن سؤال كبير واحد, أساسي, ومتفرّع, هو: (هل تموت الكتب, هل ينتهي زمن المطبوعات, هل يتحقق السيناريو المستقبلي الذي راج في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين, والذي ذكّرنا به (رولاند أولمر) رئيس اتحاد الناشرين الألمان, وكان يبشر بـ: (شركات نشر دون ورق, وكتب ليست على ورق, ومكاتب لا تعرف الورق)?

أخذت أدور بين الأجنحة, العالمية خاصة, وأنا أحاول الإجابة عن السؤال الكبير, وكان اسم الألماني (جوتنبرج) متشبثاً بذهني وأنا على الأرض الألمانية أستطلع أمر الكتب, فهذا النجار (جوهانز جانز فلايس لادن زوم جوتنبرج) أحدث انقلاباً في حياة البشرية على الأرض عندما دشّن اختراع الطباعة بحروف معدنية منفصلة تتراكب وتُطلى بالحبر لتنطبع على الورق في منتصف القرن 51, هكذا وُلدت الكلمة المطبوعة, أو تكرّست تاريخياً, فثمة إشارات موثقة لإرهاصات طباعية في الصين القديمة باستخدام أحرف من الصلصال المحروق, وتبعتها كوريا بتجارب تستخدم أحرفاً من خشب السندر في الطباعة في مطلع القرن 12, ثم نجحت في أوائل القرن 14 في إنجاز طباعة بأحرف معدنية متحرّكة داخل قالب وهي طريقة كانت شائعة لدى ضاربي العملات وتشكيلها من النحاس والبرونز منذ القرن 12, وقد يكون جوتنبرج قد استلهم اختراعه للطباعة من هذا الطيف الآسيوي البعيد, فقد كان والده عضواً في اتحاد مدينة (مينز) لضاربي سك النقود, وبغض النظر عن أصل الاختراع, والذي جاء على درب ممهّد ساهم فيه العرب بنقل اختراع الورق من الصين ونشره وتوفيره مع نهاية القرن 14 بسعر زهيد أقل 400% عمّا كان عليه بإدخال عناصر القماش البالي والعظام في مصانع الورق المتحركة بتقنية القوى المائية في سمرقند. وبذلك صار الورق أرخص كثيراً من الرقائق الجلدية, وصار مادة جديدة وفيرة ورخيصة للمخطوطات, ومن ثم للكلمة المطبوعة على يد جوتنبرج في منتصف القرن 15.

لقد قدم هذا النجار الكلمة المطبوعة للعالم الحديث, وسرعان ما تحوّلت إلى مملكة للكتاب المطبوع الذي ضمّ إليه الحكايات الشفهية والتاريخ المرسل, والعلوم الغائمة, وكل أنواع القول والكتابة, وأتاحها للجميع وليس للخاصة, فصارت الكتب أساس المعرفة البشرية وخزانة إبداعاتها, وناقلة علومها طوال ما يقارب خمسة قرون ونصف القرن, بكل ما تبع ذلك من تأثيرات عقلية ونفسية واجتماعية, فهل آن لهذه المملكة, مملكة المطبوعات, والكتاب مليكها, أن تنهار ويهبط هو عن عرشه أمام زحف النشر الإلكتروني والاجتياح الرقمي في عصر الكمبيوتر والإنترنت?

كان طبيعياً أن أبدأ بالإجابة من صالات الكتب نفسها, فهي أقرب من المركز الصحفي الذي كنت أتابعه كل صباح, وهي أقرب إلى نفسي كواحد من ملايين البشر الذين تربّوا في بلاط الكلمة المطبوعة, وصاروا من رعاياها جيلا بعد جيل, وعلى مدى خمسة قرون ونصف القرن.

في أولى صالات الأجنحة الدولية (رقم 8), حيث يحتشد عمالقة الناشرين, رأيت الكتب تتألق, في عناية ملحوظة بفنون الشكل, حيث الألوان والتفريغى لإعطاء الرسوم أبعاداً ثلاثية, والطباعة التي لم تكتف بأن تكون بارزة, بل تحوّلت إلى ما يشبه النحت, وكان هناك اجتياح لكتب الأطفال والكتب التعليمية المبتكرة, ولاحظت دخول الجامعات كناشر بمستوى احترافي, كأكسفورد, ومعهد الفيزياء, وكلية الطب الملكية, كما لفت نظري النشاط المتعدد للدور الصحفية, فدار (التايم) تقدم المجلة والموسوعة والكتاب, وكتاب الطـفل والأسطوانة المدمجة, الشيء نفسه تفعله الـ(ناشيونال جيوجرافيك), والفضائيات تدعم بثّها بالموسـوعات والكتب كما لدى BBC, وثمة عودة لطبـع الكلاسيكيات, ولكن بشكل مجموعات شديـدة الفخامة وكأنها هدايا للاقتناء, وبالرغم من وجود كتب التشويق والإثارة والغرائب بشكل لافت, فإن الكتب رفيعة التخصص موجودة أيضـاً وبعنـاية خاصة, وكان هناك توجه عام للاهتمام بالصورة سواء لإسناد النصوص في الكتب أو بتخصيـص كتب مصوّرة أساساً مع تعليقات موجـزة على الصور, خاصة الكتب التي تقدم حصـاد القرن العشرين من كل زواياه.

بدا الكتاب بصحة جيدة جداً من خلال المشاهدة في الأجنحة الدولية, وكان لابد أن أدقق في صحة الانطباع, فعدت إلى المركز الصحفي, واسترجعت من موقع المعرض على الشبكة خطاب وزير الشئون الثقافية والإعلام بالحكومة الألمانية الفيدرالية (ميشل ناومان) الذي ألقاه عند الافتتاح, إذ تذكّرت إشاراته عندما قال: (إن الناس لا يولدون قرّاء, وثمة إرادة مشتركة بين الناشرين والقرّاء, صحيح أن تجارة الكتب تعاني ضغوطاً شديدة في السنوات العشر الأخيرة, لكن الإحصاءات تظهر زيادة, وإن قليلة (5و-1%), في بيع الكتب بألمانيا عن العام السابق, ومؤشرات القراءة لم تنحدر, لكن أمامنا تحديات هي كيف نجذب انتباه الجمهور بكتاب جيد الإخراج, كتاب جميل, وكيف ندعم ونحدّث (تعليم الثقافة), إن الكتب لاتزال هي المنتج الأكثر أهمية في معرض فرانكفورت, وإن كان يتحوّل عاماً بعد عام إلى معرض للإعلام Media, فربع المعروض منتجات لوسائط متعددة, وكل رابع ناشر يقدم منتجات معرفية رقمية إلى جوار الكتب, لكن هذا يدعم الكتاب, فهذه الوسائط تخلق زبائن جدداً للكتاب, وأهم سلعة يتم تبادلها على الإنترنت الآن هي الكتاب, لكن ذلك لا يشكّل إلا 4, % من مجمل تجارة الكتب في ألمانيا والتي تبلـغ 18 بليون مارك).

رقم مذهل ذلك الذي يشتري به الألمان كتباً في السنة الواحدة, 18 بليون مارك ألماني, فهل عرفنا من أين يأتي التمدّن السياسي, والاجتماعي, والتقدم الاقتصادي?

لقد زرت مكتبة (مركزاً لبيع الكتب) في وسط المدينة بفرانكفورت, ودخلت ولم أعرف من أين أو كيف أخرج? فالمكتبة عالم متكامل, خمسة طوابق شاسعة ومتـفـرّعة ومنسّقـة بأناقة ووضوح وتخصص لا يهمل فرعاً من فروع المعـرفة, وثمة صالونات وثيرة حيث يمكنك أن تلتقط أي كتاب من الأرفف, وتجلس لتقرأ فيه حتى لو قرأته كله على ساعات عدة, أو أيام عدة دون أن تشتريه, ولن ينظر إليك أحد شزراً أو ينهرك بفظاظة كما يحدث لدينا كثيراً إذا أراد الإنسان تصفّح الكتاب لبضع دقائق قبل أن يقرر شراءه!

كانت (المكتبة) عامرة بمئات آلاف الكتب وآلاف الناس, ومزوّدة بخدمات تتيح البقاء داخلها أطول وقت ممكن, حمامات ومطاعم وأماكن للتلاقي وشرب القهوة, ولم يعد ينقصها إلا أسرة للراحة أو للمبيت إن تطلب الأمر مواصلة الاطلاع قبل الشراء.

نعم, أصدّق أن الألمان ينفقون سنوياً 18 بليون مارك لشراء الكتب!

ولنعد إلى الكتب في معرض الكتب, فالسؤال لايزال مطروحاً.

الزحف الرقمي.. إلى أين?

مكثت أتردد على صالة (النشر الإلكتروني) يومياً لأتابع الجديد, ولا أفوّت عرضاً Demonstration, أو نقاشاً حتى أعرف مصير مليكي, الكتاب المطبوع, الذي تربى عقلي على يدي صفحاته, وكنت أنتظر بتشوّق واستثارة قنبلة بيل جيتس الجديدة التي أُعلن عنها في جناح (مايكروسوفت) الهائل والباذخ التصميم, لقد قالوا إنهم سيقدمون عرضاً للكتاب الإلكتروني تحت مسمى (القارئ) Reader, على اسطوانة بها مختارات من كتب بنجوين في محاكاة رقمية لمواصفات الكتاب, وكان ذلك في يوم الخميس 14 أكتوبر, وذهبت مبكّراً وانصرفت متأخراً, ولم أر ذلك الكتاب الإلكتروني الموعود, كل ما هنالك تحسينات تقنية تُقلل وميض الشاشات, وتثبّت الأحرف وتوضحها بما يقرّبها من شكل أحرف الكتاب المطبوع).

وفي اليوم التالي, أعلن مسئول من مجموعة (فيرونيس شوهلر) الأمريكية المستثمرة في مجال النشر الإلكتروني أن (الكتاب الإلكتروني لن يكون له تأثير على صناعة الكتاب قبل عام 2003).

فماذا عن ابتكـارات النشـر الإلكتروني الأخرى?

يمكنني الإشارة إلى أهم ما رأيته من تطوّرات وتتمثل في: قطع أشواط متقدمة في إنجاز برامج متطوّرة للترجمة الآلية بين اللغات الأوربية جميعاً مما يوحي بأن المستقبل القريب جداً سيلغي الحواجز اللغوية بين أقطار أوربا, بل الغرب كله بما فيه الولايات المتحدة, وقد رأيت عروضاً لبرامج قراءة النص وترجمته فورياً, والترجمة عبر التعرّف على الصوت مما أسمى بالمترجم الشخصي, والقلم الماسح (سكانر) الذي يخزّن المقتطفات المذكورة من النص المطبوع لحظة القراءة.

الظاهرة اللافتـة هي اتساع دائرة الحصـول على الكتـاب عبر الإنترنت, والطـباعة الإلكترونية حسب الطلب, وتسـريع خدمة الشبكات وتخفيض أسعارها.

فما أثر كل هذه الإنجازات على مملكة الكتاب المطبوع?

بيترفيدهاس مدير المعرض, وهو مثقف نشط أسس جمعية دعم الآداب من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يجيب عن السؤال قائلاً: (لن يكون المستقبل رقمياً بالكامل, الكتاب سيبقى).

لكن ما حدود هذا البقاء? سؤال يلتقطه رئيس اتحاد الناشرين الألمان (رولاند أولمار), وهو رجل (يده في الشغل), يقول: (ثمة تطور في النشر الإلكتروني لا ثورة, فحتى الآن تجارب الكتاب الإلكتروني محدودة وثانوية في مواجهة النشر الرئيسي أي الكتب, المتغـير هو هيكلية تجارة الكتب, فموقع بيع الكتب الإلكتروني على الشبكة يضم الآن 1200 بائع ألماني, ونصف الطلبات على الكتب تتوجه إلى محال بيع الكتب العريقة).

الواضح من الإجابات, ومن الرؤية العيانية, أن الكتاب باق على عرشه كأداة أولى للثقافة, لكن إلى متى?

هنا لا توجد إجابة قاطعة, اللهم إلاّ إذا عوّلنا على وعود اقتحام الكتاب الإلكتروني لساحة النشر كمنافس للكتاب المطبوع عام 2003.

فلننتظر, ونر!

 

محمد المخزنجي