الاحتفال بابن خلدون

الاحتفال بابن خلدون
        

احتفالنا بابن خلدون، هو احتفاء بالتيار العقلاني النقدي في تراثنا العربي الإسلامي، وإعلاء من شأن كل ما يؤكد العقل المفتوح والاجتهاد الخلاّق الذي أضاف به المفكرون والعلماء والأدباء في تراثنا العظيم من فكر وعلم وأدب إلى ميراث الإنسانية.

          عندما احتفى المجلس الأعلى للثقافة، في القاهرة، بابن خلدون، لم يكن ذلك المرة الأولى التي يحتفي به العالم فيها، فإن المجلس الأعلى كان يحتفي بالتيارات العقلانية، التي ينتسب إليها ابن خلدون بأكثر من معنى. والعالم كله احتفى بابن خلدون أكثر من مرة. مؤكدًا انحيازه إلى التيارات الإنسانية في تراثنا، تلك التيارات التي لابد أن نجعل أنفسنا امتدادًا لها، ونقطة انطلاق إلى ما بعدها، خصوصًا أننا نعيش في زمن يعادي العقل والعقلانية، وينظر في ريبة إلى التيارات الإنسانية، زمن تسيطر فيه نزعات الانغلاق والاسترابة في الآخر، فضلاً عن غلبة التقليد والحجر على الاجتهاد والمغايرة، وأخيرًا، التمسك بمفاهيم ثقافية واجتماعية جامدة، تقوم على التعصب لا التسامح، الاستبداد لا الحرية، الإظلام لا الاستنارة، الصوت الواحد المفروض من الأعلى، وليس الأصوات المتعددة، التي تُجسّد معنى التنوع الخلاّق في الحضارة أو الثقافة أو المجتمع.

          ونحن نعلم أن تراثنا العربي ليس كيانًا واحدًا ثابتًا، وإنما هو مجموعة من التيارات المتوازية المتآزرة في بعض العصور والأزمنة، المتعارضة المتضادة والمتصارعة في أزمنة وعصور مغايرة. ويمكن أن نتحدث - أولاً - عن التيار العقلاني الذي تجلّى في جهود علماء الكلام الذين دافعوا عن العقيدة الإسلامية ضد المشككين فيها، مستخدمين المنطق، جامعين بين المعرفة الدينية، التي كان إتقانهم لها في وزن إتقانهم للمعارف الفلسفية الوليدة في المجتمع الإسلامي. ابتداء من القرن الثاني للهجرة، والمترجمة عن الفلسفات السابقة للأمم الأقدم في حضاراتها، وعلى رأسها الحضارة اليونانية، التي قدّمت للعرب أفلاطون وتلميذه أرسطو والعديد من المدارس الفلسفية (الرواقية والفيثاغورية والسفسطائية وغيرها من المدارس)، التي عرفها العرب وترجموا عنها، وأضافوا إليها، ولذلك يكتمل التيار العقلاني، في الحضارة الإسلامية، بإضافة جهود أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وأمثالهم إلى جهود المتكلمين الذين انقسموا إلى مذاهب وفرق، ابتداء من المعتزلة أمثال النظام والجاحظ والقاضي عبدالجبار وغيرهم من الذين أطلق عليهم اسم فرسان الكلام. ولا يقتصر المتكلمون على المعتزلة بالقطع، فثمّ غيرهم من الفرق الكلامية، التي ظلت مقترنة بالدفاع عن الدين ضد أعدائه، كل فرقة بحسب منظورها الاعتقادي والفكري، وذلك على نحو أكّد التنوع والتعدد في التيار العقلاني الذي لم يقتصر على الإفادة والنقل عن حكمة اليونان والهند وفارس وغيرها من حضارات العالم القديم، بل جاوز النقل إلى الإضافة الكمية والكيفية، تعقيبًا وتفسيرًا، مخالفة وتأييدًا، معارضة ونقدًا، فكانت النتيجة حيوية التيار العقلاني الذي ظل مزدهرًا طوال عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وصعودها في كل الاتجاهات، وعلى كل المستويات التي تجمع ما بين فنون الأدب وأنواع التفكير ومدارسه، الأمر الذي ظل في صعود لم ينكسر إلا مع الضعف الذي أصاب الازدهار الحضاري، وترك الآثار السلبية، التي تزايدت بتزايد الفساد السياسي الداخلي والغزو العسكري الخارجي، فكانت النتيجة انحدار الحضارة العربية وغروب شمسها.

قادم في لحظة المغيب

          ولقد جاء ابن خلدون في لحظة المغيب، فأخذ على عاتقه جمع تراثه المعرفي والحضاري في عصور ازدهاره، والحفاظ عليه باختزانه في «المقدمة»، التي جمعت خلاصة المعارف العربية السابقة في عصور صعودها العظيم، ولذلك أصبحت «المقدمة» موسوعة موجزة لمعارف العرب وفنونها في كل مجال. ولم يكتف ابن خلدون بدور الناقل، بل أضاف دور الناقد الذي يقيس كل ما حدث من خلال رؤيته الرائعة عن «العمران البشري» وكيفية تكوّنه وازدهاره وصعوده وهبوطه على السواء، وكانت النتيجة نظرياته عن العصبية، وعن دورات الدول، والعلاقات التي تربط المجموعات البشرية. وكانت نتيجة ذلك تأسيس «علم الاجتماع» الذي يظل مدينًا له بفضل النشأة والتأسيس. وهو الفضل الذي اعترف به العالم كله لابن خلدون حيث جعلوه المؤسس الأول لذلك العلم الذي قاد إلى كشوف وحدوس جذرية مهمة، موازية، في علوم السياسة والاقتصاد وغيرهما من العلوم الحديثة، التي زرع ابن خلدون بعض بذورها الأولى بعبقريته الفذة الفريدة. وكانت هذه العبقرية قرينة عقله الذي جمع بين النقل والعقل، وجاوز المعرفة النقلية بما وضعها موضع المساءلة العقلانية، فأضاف إليها بما كشف عن الروابط بينها من منظور وحدة المعرفة الإنسانية، وتضافر الاختصاصات وتجاوبها في مدى المعرفة المتفاعلة.

          وأتصور أن الطريقة التي كان يعمل بها عقل ابن خلدون، من حيث بحثه الدائم عن العلل والأسباب هي التي قاربت بينه والتيار العقلاني الذي يصل الأسباب بالمسببات في تركيب صاعد يشمل كل شيء. باحثًا عن ماهية الظواهر ومكوناتها والعلاقات بينها، خصوصًا من حيث أداء كل ظاهرة من الظواهر لوظيفة تتجاوب أو تتوازى مع غيرها من الوظائف.

          ولاشك أن قوة التيار العقلاني في الحضارة العربية كانت تجد دعمًا لها في التيار العلمي التجريبي الذي برز فيه أبوزكريا الرازي وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم، فضلاً عن ابن سينا الذي كان جامعًا بين التيارين وواصلاً لهما في مدى التفاعل والتجاوب بينهما. ولذلك ظل التيار العلمي التجريبي مزدهرًا في موازاة ازدهار التيار العقلاني، واجدًا براحه في المساحة المفتوحة عن حرية العقل والتجريب، التي أتاحها وأسسها التيار العقلاني. فكان عونًا على تقدم التيار العلمي بالقدر الذي كان تقدم التيار العلمي التجريبي دعمًا له وعونًا في عدد غير قليل من المشكلات، التي عرض لها ممثلو التيار العقلاني، وكانت ثمارها نتيجة التعاون الذي لم ينقطع إلا بعد أن تزايدت الشروط المعرقلة لكلا التيارين، والتي أدّت بهما إلى الثبات ثم الجمود والانهيار.

          ومن اللافت للانتباه أن مناخ الحرية والتسامح الذي كانت تعيشه الحضارة العربية الإسلامية، في حقب ازدهارها، هو المسئول عن ازدهار التيار الثالث في الحضارة الإسلامية. وهو تيار التصوف الذي يعتمد على الحدس وصفاء الروح، في مجاهدة مستمرة، تؤدي إلى أحوال التجليات والكشف، صحيح أن بنية التصوف، من حيث هو مجاهدة روحية، نقيضة لبنية التيار العقلاني الذي يجعل الأولوية عنده لبحث العقل عن قوانين السببية، ولكن هذه البنية كانت موازية في مغايرتها، حتى في دفاعها عن طبيعة عملها ورؤاها الحدسية الكاشفة.

بين النقل والنقد

          أما آخر التيارات، فهو التيار السلفي المرتبط بالنقل، لكن ليس بالمعنى المعادي للعقل النقدي أو الحدس الصوفي في كل الأحوال، فمن المؤكد أن عصور التقدم، التي شهدتها الحضارة العربية الإسلامية كانت قرينة حيوية الحوار بين هذه التيارات، ونتيجة تعايشها المشترك القائم على الاختلاف الصحي الذي يؤدي إلى غنى التجارب وعمقها بمبدأ الحوار حتى لو كان قائمًا على الاختلاف، ولم يضع مبدأ الحوار بين هذه التيارات الأربعة إلا في عصور الضعف والفساد اللذين تغلغلا في بنية الدولة، جنبًا إلى جنب الغزو الخارجي الذي أضاف إلى كارثة التتار والمغول كارثة الصليبيين. وكان ذلك بعد سقوط الأندلس، التي قاومت طويلاً، لكنها انكسرت في النهاية نتيجة صراع ملوك الطوائف فيها، واستعانة بعضهم بالأجنبي على خصومهم من بني جلدتهم، فكانت النتيجة أن ذهب الجميع وسقطت دويلاتهم، التي كان آخرها غرناطة، التي أسلمها صاحبها، وخرج منها باكيًا نادمًا مقهورًا، تتردد في سمعه الأبيات التي يقول واحد منها:

ابكِ مثل النساء مُلكًا مُضاعًا لم تُحافِظْ عليه مثل الرجال


          وكان قدر ابن خلدون أن يأتي مع غروب ذلك كله، ويعيش في عالم عربي محاصر، ومقتحم بالتتار والمغول من ناحية، والصليبيين من ناحية ثانية، فلم يستسلم لقدره، وقاوم جرثومة المرض في الحضارة، التي شهد غروبها، ولم يقبل انهيارها بل تحدّاه بعلمه وفكره، فظلّ يتأمل ما حوله، ويدّخر ما جمعه من تراث السابقين عليه، ويمعن النظر العقلي في الأسباب والقوانين التي أدّت إلى الغروب والسقوط، وكان ما وصل إليه من أفكار وإضافات جديدة بمنزلة استجابة جسورة إلى زمن الانحدار، وتمرّدًا عليه، وتحديًا له في آن، ولذلك تتزايد قيمة تجربة ابن خلدون في زمنه الذي يشبه زماننا الذي تتربص به الأخطار الداخلية وتقتحمه من كل اتجاه. وأحسب أن هذا هو السبب الذي يجعلنا نتجاوب مع ابن خلدون الذي يمكن أن تحفزنا شجاعته على مواجهة الضعف والهزيمة فيما حولنا، وتساعدنا استجاباته العقلانية المتحدية لشروط الضرورة في عصره الذي يكاد يشبه عصرنا.

          ومن المؤكد أن حرصنا على الدولة المدنية (التي تصون العقائد والديانات وتحترمها وتستلهمها) هو الوجه الآخر من حرصنا على بعث إنجاز ابن خلدون في ذاكرتنا الثقافية الجمعية، وعلى نشر أفكاره في عصرنا، وليس من المصادفة أن يؤدي تبنّينا تيارات الثقافة المدنية، وانحيازنا إلى حواراتها المتفاعلة، وسعينا إلى إقامة التوازن فيها بين العقل والنقل، الدين والعلم، الحدس والتجريب، كل ذلك يدفعنا إلى البحث عن النظائر والأشباه التي تدعمنا في ماضينا الحي، وتعيد إلى حياتنا المنكسرة نسمة الازدهار الحية العفية. أقصد إإلى النسمة التي تندفع بحافزها الخلاّق فينا، فتدفعنا في اتجاه التطور الذي لا نهاية له أو حد، أو في اتجاه العمران الذي تكثر فيه العلوم وتعظم الحضارة إذا استخدمنا لغة ابن خلدون، ذلك المفكر العبقري الذي علّمنا أن الظلم مؤذن بخراب العمران، كما علّمنا أنه لا بقاء للدول من غير عصبية، أو رؤية جذرية، متوهجة للعالم، رؤية يكون تلهبها دافعا لانطلاقها إلى أن يفتر حافزها، وتنطفئ نارها الداخلية، فتبدأ في الشيخوخة والانحدار والخراب، وتسقط لتحل محلها أخرى غيرها، تنطوي على توهج جديد، ونار دافعة عفية، تستبدل بالهرم الفتوة، وبالشيخوخة الفانية الشباب الواعد.

          غوص للأعماق لقد كان ابن خلدون كأقرانه - ابن سينا وابن رشد وغيرهما - ابن عصره، ولكنه غاص في علاقات هذا العصر بحثا عن العلة والداء، منتقلا من السطح إلى الأعماق، ومن الثانوي إلى الأساسي، ومن العرضي إلى الجوهري، وكانت النتيجة أنه وصل من تراكم الملاحظات والمعطيات إلى القوانين الأساسية التي تحكمها في كل مجال، فاكتشف فلسفة التاريخ الذي لا يفارق جدل الصراع بين الأضداد، والعمران البشري الذي يقوم على القوانين التي ترد التكثر إلى وحدة، هادفة إلى اكتشاف الثوابت وراء المتغيرات. هكذا، جاوز ابن خلدون عصره بالغوص فيه، وجاوزه زمنه إلى غيره من الأزمنة، مكتشفًا من خرائط المعرفة الجدية ما جعله معاصرًا لنا.

          ولم يتوقف إبداع ابن خلدون في التاريخ والاجتماع والاقتصاد وغيرها، بل جاوز ذلك إلى أفق المعرفة الموسوعية التي تُدرك أهمية العلاقات البينية بين المعارف المختلفة، وذلك من خلال إحصائه لعلوم عصره ومفاتيحها، ليس بالمعنى الذي نجده في «مفاتيح العلوم» للخوارزمي أو «إحصاء العلوم» للفارابي، وإنما بالمعنى الذي يدنو مما نؤكده في فلسفة المعرفة المعاصرة من ضرورة تضافر الاختصاصات وأهمية المعرفة البينية التي لايزال يتقدم بها الوضع المعرفي المعاصر إلى آفاق غير مسبوقة.

          ولم يكتشف ابن خلدون خرائط المعرفة الجديدة في مجالاتها الباهرة التي توصّل إليها إلا لأنه انحاز إلى العقل لا النقل، وآثر الابتداع والاجتهاد على الاتباع والتقليد ولذلك انقطع معرفيا عن كتابة التاريخ السابقة عليه، وأعلن فلسفة جديدة للتاريخ، لا تعتمد على تكديس الأخبار والوقائع، بل صياغة القوانين التي تتجلى بها العلاقات التي تحكم حركة الأخبار والوقائع، وبالقدر نفسه، أعمل ابن خلدون عقله الإبداعي فيما نقله عن الفلاسفة السابقين عليه، وأضاف إليه ما انتهت إليه خبرة حياته الاستثنائية، وما تراكم لديه من ملاحظات تأملها بعميق بصيرته وحدوسه، وأعاد بناء ذلك كله في صياغة مبتكرة، مؤسسًا «علم العمران» وشروطه وقوانينه وحركته ما بين أضداده التي يزدهر أو ينحدر بها، وما نقوله عن العمران الخلدوني نقوله عن لوازمه، فالرجل ترك نظرات في الاقتصاد تقترب به من المادية التاريخية والجدلية في آن.

          لقد عاش ابن خلدون في زمن انهيار وانحدار وظلم واستبداد وظلام وجهل، زمن غزو أجنبي وتهديدات لم تنقطع من القوى الكبرى الغازية في ذلك الزمان، زمن غلب عليه حكّام صغار، ضعاف مستبدون، تلاعب بهم المحيطون بهم، وحرّكتهم الأهواء والمطامح الشخصية وليس مصالح الشعوب، من المجازر والدماء التي أهرقها جنود تيمورلنك في أكثر من عاصمة عربية، خصوصًا دمشق التي تخلّى عنها الناصر فرج بن برقوق. ولذلك، كان الكثير من القوانين التي انتهى إليها ابن خلدون من تأمل زمنه منطبقة على ما نعيشه في زماننا، ولنتذكر ما قاله عن المغلوب المولع أبدًا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، وعن أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوّة أو ولاية أو ما شابه ذلك وأن طبيعة الحاكم هي الانفراد بالمجد، ومن ثم الاستبداد، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران، وانحطاط العلوم، وغلبة التقليد، وغياب العدل المقترن بشيوع الفساد.

          وقد تحدى ابن خلدون زمنه بتسليط العقل التأملي عليه، ودراسته، وتعرية مثالبه، بما يقود إلى معرفة جذور الداء، ومن ثم إمكان اكتشاف الدواء، وهو لذلك معاصر لنا بكل معنى الكلمة، وعلينا أن نتعلم منه الدرس المضمر الذي يقول إن الكتابة الكاشفة عن الانحدار وأسبابه هي حلم بالصعود وإمكان له، وأن رصد الخراب وتحليل مظاهره، حتى بالمعنى الوضعي، يمكن أن يكون مقاومة له بمعنى من المعاني.

نص مفتوح

          وما أكثر الدروس التي يمكن أن نتعلمها من ابن خلدون الذي وصف المؤرخ البريطاني الكبير توينبي كتابه «المقدمة» بأنه «أعظم كتاب من نوعه ألّفه عقل إنساني في أي زمان أو مكان». ولا أريد أن أتحمس حماسة توينبي، ولكن يهمني أن أؤكد ضرورة أن نقرأ ابن خلدون في ضوء زماننا، ومن منظور مشكلاته المتكاثرة التي يمكن أن نجد بعض الحلول الناجعة لها فيما كتبه ابن خلدون في القرن السابع للهجرة ومطلع القرن الثامن. ولا غرابة في ذلك. فكتابة ابن خلدون نص مفتوح على زمنه وعلى زمننا وغير زمننا، فهو نص يظل في حالة كشف مستمر، وقابل للتأويل بعدد قرائه في كل مكان وزمان، ابتداء من فرنسا القرن التاسع عشر التي بدأت ترجمته والتعريف به، قبل إيطاليا وألمانيا وإنجلترا، وليس انتهاء بمصر التي افتتحت الدراسات الخلدونية في العصر الحديث، مع أطروحة طه حسين للدكتوراه من السربون عن «الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون» سنة 1917. وهي الأطروحة التي ترجمها محمد عبدالله عنان سنة 1925، وكانت دافعا لما كتبه ساطع الحصري، وبداية للتتابع الكثيف والغريز للدراسات الخلدونية ما بين مشرق العالم العربي ومغربه على وجه الخصوص. إن نظرة طائر إلى العدد الذي يصعب حصره من الدراسات الخلدونية - على امتداد الكرة الأرضية - تؤكد التعدد اللانهائي لإمكانات تأويل النص الخلدوني واختلاف توجهه حسب البيئات المستقبلة، والمجموعات القارئة، وذلك في تقاطعها مع الزمان وتعامدها على المكان.

          وأعتقد أن تعدد أوجه النظر في بحوث أي مؤتمر يقام عن ابن خلدون، أو كتاب يكتب عنه، شاهد جديد على أن النص الخلدوني يظل إمكانا مفتوحا على القراءة التأويلية إلى ما لا نهاية، الأمر الذي يؤكد ثراءه الاستثنائي، وغنى آفاقه المعرفية.

          ويبدو أن الإمكان المفتوح لقراءة نص ابن خلدون ينتقل من كتابته إلى حياته ومواقفه، فهي حياة ومواقف إشكالية، تنطوي على أسئلة قابلة للاختلاف حولها، ابتداء من كيفية صياغة موقف المثقف الرافض جذريا لحكام زمنه الفاسد، مرورا بإمكان انصياع هذا المثقف، خوفا أو طمعا، لمطالب الحكام أو الغزاة، مثلما فعل ابن خلدون مع تيمورلنك، وانتهاء ببحث هذا المثقف عن حيل تنجيه من ورطات الدنيا على نحو ما نطقت شخصية ابن خلدون في مسرحية سعد الله ونوس البديعة «منمنمات تاريخية».

رجل في القاهرة

          وأيا كانت قراءة ابن خلدون أو الإجابة عن الأسئلة المؤرقة التي تطرحها حياته ومواقفه،في مدى التأمل، فإن هذه الحياة تغري المبدعين بالكتابة عنها في زماننا، وذلك ابتداء من سعد الله ونوس في شمال المشرق، حيث سورية، وليس انتهاء بما كتبه سالم بنحميش عن ابن خلدون «العلامة»، في أقصى المغرب العربي وأتصور أن الأسئلة التي صاغتها حياة ابن خلدون الإشكالية وطرحتها على المبدعين العرب الذين تناولوا حياته، من قبل أن نقرأ الكتاب الجميل «الرجل في القاهرة»، هي الوجه الآخر للأسئلة التي تطرحها نصوصه التي قد يخالف فيها التنظير التطبيق. إن إسهامه التاريخي كإنجازه المعرفي، في «المقدمة» على وجه الخصوص، يظل حضورًا خلاقا في ثقافتنا المعاصرة، وفي الثقافة الإنسانية بوجه عام، حتى لو ظللنا عاجزين عن الإجابة عن الأسئلة التي لاتزال بلا إجابة. ومنها السؤال عن مدفنه الذي لا نعرف عنه سوى أنه كان بمقابر الصوفية خارج باب النصر في القاهرة المملوكية التي عاش تناقضاتها وانكساراتها، لكنه أحبها كما أحبّته، واحترمها كما احترمته، ولاتزال تكنّ له الاحترام وتتذكره بعد أكثر من ستمائة عام على وفاته، وترى في الاحتفاء به تأكيدًا لثقافة الابتداع التي تثري بها الدولة المدنية وترتقي بها، والثقافة الإنسانية التي نشارك بها غيرنا على امتداد العالم كله.

          ولذلك، لم يدهشنا العدد الكبير من الباحثين الأجانب الذين جاءوا من أقطار العالم المختلفة، ليؤكدوا مع أقرانهم العرب البعد الإنساني لابن خلدون الذي أصبح ملكًا للإنسانية كلها بما أضافه إلى معرفتها وإلى ميراثها الفكري الذي يظل حفيًا به، فخورًا بما أنجزه في ميراث الإنسانية التي ينتسب إليها.

 

جابر عصفور