أرقام

شرق أوربا: رحلة العودة
حين ظللت الاشتراكية أجزاء واسعة من العالم، وحين هزمت الرأسمالية في مواقع هامة مثل أوربا الشرقية، قال علماء السياسة والاجتماع: "إنه تحول تاريخي. وكما كان التحول من عصر الإقطاع إلى عصر الرأسمالية هاما في تاريخ الإنسان، فإن الانتقال من الرأسمالية للاشتراكية يحمل نفس الأهمية".

الآن، يشهد العالم رحلة العودة من الاشتراكية. الاتحاد السوفييتي يتحدث عن نظام السوق والالتحاق بالمؤسسات الرأسمالية وفي مقدمته صندوق النقد الدولي، ألمانيا الشرقية تتوحد مع ألمانيا الغربية ويجري إنشاء وكالة خاصة للإشراف على تحويل المشروعات الحكومية في الشرق لمشروعات مملوكة للقطاع الخاص. في نفس الوقت فإن بنكا أوربيا للتعمير ينشأ في غرب أوربا ويستهدف مساندة التحولات التي تحدث في الشرق الأوربي.

و.. طوال الشهور التي احتلت ربيع وصيف عام 1991 كانت الأنباء تتدفق حول تحولات في الشرق في مقابل مساعدات من الغرب، وبطبيعة الحال كان الاتحاد السوفييتي في مقدمة الدول التي نالت الاهتمام الأول، وبينما كان الجدل مستمرا في موسكو حول خطوات التحول ومداها وسرعتها، كان الجدل أيضا ساخنا في الدوائر الغربية حول المدى الذي يذهب له الغرب في مساعدته للاتحاد السوفييتي وبينما تحفظت دول - كاليابان وبريطانيا - على المساعدات بدعوى أن برامج التحول أبطأ من اللازم تحمست دول أخرى لمزيد من العون، مقابل مزيد من التحول.

عام حاسم

في صيف هذا العام كانت معظم الدول في شرق أوربا قد أعلنت ما يمكن أن يسمى بإعلان نوايا لما تريد أن تفعله، وقبيل شهر من قمة الدول الصناعية السبع والتي انعقدت في منتصف يوليو، كان البنك الأوربي للإنشاء والتعمير قد تقدم ببرنامج للإصلاح الاقتصادي في الاتحاد السوفييتي وكان رئيسه قد زار موسكو للتفاهم، وكانت ملامح البرنامج تشمل: التحول للقطاع الخاص، وتحرير الاقتصاد مع إعطاء أولوية لتحرير المنشآت الصغيرة والإسكان والاتصالات اللاسلكية والنقل والزراعة والطاقة والصناعات الغذائية، مع اتخاذ خطوات في مجال التجارة والنقد والبنوك المشتركة والاستثمار الأجنبي.

وبينما ذهبت التوقعات إلى أن الاتحاد السوفييتي سوف يحتاج وحده إلى أكثر من مائة مليار دولار لمساندة التحول، كانت التقديرات - في منتصف العام- أن الدول الصناعية الأربع والعشرين عليها أن تقدم ( 40 ) مليارا من الدولارات لست دول في أوربا الشرقية.

وكانت الإشارات حول أبعاد الصفقة التي شملت التمويل مقابل التحول واضحة المعالم، فالبنك الدولي يعلن عن تخصيص قروض لكل من بولندا ويوغسلافيا وبلغاريا والمجر" بهدف التحول لاقتصاد السوق "، ومحافظ بنك رومانيا المركزي يعلن في تصريح خاص أن رومانيا قد بدأت مسيرة الإصلاح بخزان غير ممتلئ الوقود، وقد أصبح الخزان فارغا، والاتحاد السوفييتي يعلن - في منتصف العام أيضا - وعلى لسان مسئوليه أنه إذا لم تصل المساعدات الغربية إلى موسكو بحجم معقول فإن كل شيء يهدد بالانهيار.

الشرق إذن راغب في الانتقال، والسؤال: ما هي مصلحة الغرب لتمويل ذلك؟.

أسواق جديدة

الأرقام السابقة والتي بدت في صيف عام 1991 ليست كل شيء، فإن ثمن التحول لا يمكن أن يكون (140) مليار دولار، فعبء التحول في ألمانيا الشرقية لم يدخل في حساب هذه الأرقام، والرحلة مستمرة مع كل تقدم في خطوات " التحرير "، لذا، فإن السؤال - وفي دوائر الغرب ودوائر الفكر السياسي- " لماذا"؟.

بلغة المصالح فإن الهزيمة الأيديولوجية لا تكفي وحدها، ولكن هناك عديدا من المصالح المباشرة:

أولا: تلك السوق المتسعة التي سوف يسقط الجدار من حولها، سوق الاتحاد السوفييتي التي تقترب من الـ ( 300 ) مليون مستهلك، وسوق دول شرق أوربا والتي تجاوز المائة مليون نسمة.

إنها سوق واسعة كافية لإنعاش الاقتصاد الغربي الذي عانى من تباطؤ النمو طويلا.

ثانيا: هذه سوق واسعة للاستثمار، فرحلة التخصيص ( أي الانتقال للقطاع الخاص ) يعوقها افتقار الدول الشرقية لمدخرات رأسمالية جاهزة للتحرك، ومهما كانت قدرة القطاع الخاص الناشئ والصغير في دول أوربا الشرقية فإنه لا يستطيع - وفي مدى قريب - شراء تلك المؤسسات الضخمة التي أنشأتها الدولة في موسكو أو بودابست أو بوخارست أو غيرها والحل فتح باب للاستثمار الأجنبي وللمشروعات المشتركة التي تختلط فيها الأموال الشرقية والغربية، والحكومية مع غير الحكومية.

ولأن التحول رسالة وتجارة، فإن كثيرا من مساعدات الغرب ومؤسساته سوف توجه أيضا لخلق قطاع خاص في دول شرق أوربا.

ثالثا: إن التحول في أوربا الشرقية بما يعنيه من إلغاء الصدام " الأيديولوجي وتخفيف التوتر السياسي أو إذابته، هذا التحول يعني تخفيف أعباء التسلح وميزانيات الدفاع. وقد بلغ الإنفاق العسكري لدولتين فقط هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة (570) مليار دولار عام 1988 طبقا لتقديرات معهد أبحاث السلام ( سيبري)، كان للأمريكيين السبق ( 320 مليار دولار ) وكان للسوفييت المركز الثاني ( 250 ) مليارا..

الآن يتحول جزء كبير من هذه الاعتمادات لمجال الاقتصاد والتكنولوجيا.

رابعا: إن رحلة العودة من الاشتراكية سوف تستغرق كل الاهتمام وكل الموارد في السنوات المقبلة، وعلى طول الساحة الأوربية الشرقية، وسوف يكون لذلك أثران : تنافس أقل على أسواق العالم الثالث، ومهادنة أكثر في مجال التحرك الدولي.

هل يمكن أن نختزل كل ذلك في عبارة موجزة ؟ أظن أن ذلك ممكن: فالرأسمالية تحتاج إلى تجديد يتناسب مع التطور التكنولوجي الهائل الذي أصبح يعتمد على المعرفة وأدواتها أكثر مما يعتمد على جهد البشر، السوق الرأسمالية بحاجة لأسواق جديدة تضمن لها استمرار النمو والانتعاش.

وقد جاءت الفرصة ذهبية: تراجع في الشرق، صحبه تقدم من الغرب، بدايتها: حفنة دولارات، ونهايتها: سيطرة أكثر لما أسمينا طويلا: العالم الأول.