قصص على الهواء.. العربي والبي بي سي

قصص على الهواء.. العربي والبي بي سي
        

تنشر هذه القصص بالتعاون مع
هيئة الإذاعة البريطانية  - القسم العربي

أصوات شابة في القصة العربية

لماذا اخترت هذه القصص؟

          اشتركت أغلب القصص في المنطقة التي تقع بين القصة والمقال، فمعظم الكتّاب لهم رأي في الوطن والدنيا من حولهم، والقصص ليست بحقل للآراء، لكنها المقالات التي تتحمل ذلك. واشتركت معظم القصص في لغة إنشائية، تتسع أحيانا للموعظة المباشرة، وعلى الرغم من ذلك فهناك عدد لا بأس به من الكتاب يعرفون أن القصة القصيرة هي دفعة واحدة، إذا امتد زمنها تحدد مكانها، والعكس صحيح، وأن في الفن عامة لابد أن تأخذ الفكرة ثوب الحدث، وعلى الرغم من أن المشتركين بعض من لهم إسهامات سابقة فإنهم وقعوا أيضا في المنطقة بين القصة والمقال، أو لم يقدموا حدثا له قيمة كبيرة، ولقد وقع اختياري على «يوم في حياة صابر»، للمصرية بثينة محمود لإنسانيتها وتمحورها حول الضعف الإنساني الذي يغفر لجلاده من فرط المهانة، وقصة زهرة رحمة الله اليمنية بعنوان «السر»، لتماسكها وتمحورها حول الرهبة أو الخوف، وقصة دولت المصري «أسرّة فردية» من فلسطين، فنحن معها أمام ثلاث حالات من «الوحدة»، الإنسانية مؤثرة، ثم أخيرًا قصة زكية علال من الجزائر «قبر مفتوح» التي اختصرت فيها الألم الروحي للمرأة العربية، وإن بطريقة عجائبية، تبدو مفارقة للواقع، لكنها كادت تجعل الرمز حقيقة، وعلى الإجمال يبدو أن القصة القصيرة لاتزال فنًا مغريًا على الرغم مما يقال عن زمن الرواية، والمدهش أن القصص الفائزة أصحابها كاتبات، إنها صدفة، لكنها تعكس معنى حاجة «شهرزاد» إلى البوح، أو قدرتها على الحكي حتى الآن.
--------------------------------------------

هذه هي القصص التي فازت في مسابقة القصة القصيرة في شهر أبريل والتي تبثها الإذاعة البريطانية ضمن برنامج
(بي بي سي اكسترا) كل يوم خميس.

يوم في حياة صابر
بثينة محمود الدسوقى - مصر

          ــ اصحى.. فوق

          ــ تمام يا فندم

          صرخت بها وأنا أضرب الأرض بحذائى الغليظ، واضبط وضع سلاحى على كتفى، يدى ترتفع تكاد تصفع رأسى وتهوى إلى جوارى فى حزم

          يذهب الباشا، وأبقى كالصنم فى مكانى، كم ساعة لبثت واقفا هنا؟ لست أدرى، أعرف طبعا أن أجيب لو سألنى أحدهم عن الساعة، علمنى ذلك الحاج فاروق حلاق قريتى، وأهدانى أخى سليمان ساعة جديدة عندما نجحت فى الابتدائية أخفيها تحت أكمامى، لكنى لاأستطيع الحراك الآن، الموكب على وشك الاقتراب، يمر الباشا كل فترة ويزعق بهذا :

          ــ الموكب قرّب، انتباه يا ولاد ال.....

          ــ تمام يا فندم

          فى الصباح الباكر، وعندما جاءت بنا العربات من الوحدة، كانت الشوارع هادئة، والأشجار المحيطة بنا تمتلىء بالطيور التى تستعد للانطلاق، شاهدت هذا من شباك العربة الصغير قبل نزولى، ولكنى منذ أخذت مكانى لم ألتفت، أشعر أن المكان من حولى جميل، هل يمكننى الالتفات قليلاو آه.. هذا «على الشبراوى» يقف بعدى، إنه لايرانى، لعله نائم، سيجيء الباشا الآن ويفزعه «ضحكت دون ان أهتز» كم هو رائع هذا الشارع وهذه البنايات الشاهقة، يا إلهى.. عالية جدا، ويبدو لى من فوقها.. ما هذا؟ هل نقف بالأعلى أيضا؟ الباشا موسوس جدا، ما الذى يمكن أن يحدث، ومن يجرؤ على مهاجمة الباشا الكبير جدا؟ ولماذا يهاجمه أحد من الأصل؟ أليس هو ولى أمرنا وراعينا وحاميا كما يقولون؟ لماذا إذن...

          ــ اثبت ياعسكرى

          ــ تمام يا فندم

           ماذا كنت أفعل؟ هل كنت أحك جلدى؟ أم أتثاءب؟ لعنة الله على التفكير الذى يدفعنى للغفلة، الباشا يقترب، أشعر به يقترب، استر ياستار

          ــ أيوه يا باشا، كله تمام

          الحمد لله، اللاسلكى أنقذنى، ماذا كنت أقول؟ نعم.. الحر شديد جدا اليوم والعرق يخرج من كل أجزاء جسدى وكأنى أُعصر، أتذكر الآن البلد وجوها العليل «بلدنا حلوة»، وكلها خير، وناسها طيبون، ولكنهم غلابة يستكينون كلما زعق أحدهم مثل الباشا، يخضعون للخفر ولشيخ البلد وللعمدة وللمأمور، وهؤلاء لابد أن يكون هناك من يخضعون له من الكبار، الحياة كلها درجات، وليس عيبا أن أكون فى أول السلم وخاضع للجميع، ليس عيبا.

          الملح بدأ يتراكم تحت ملابسى ويلدغنى كلدغ النحل، أود لو ألقى بهذا السلاح وأركض عاريا فى الشارع، سيقتلنى الباشا بالرصاص «قهقهت من دون حركة»، الناس من حولى يتحركون، عدد قليل جدا من الناس فالموكب لا يمر إلا فى الشوارع الخالية، احتياطات أمن، هكذا يقول لنا الباشا، ولكن هناك سؤالا يداهمنى دومًا، كيف أتصرف إذا وجدت خطرًا؟ وسؤال أخطر، كيف أشعر بالخطر وأنا لا يمكننى الالتفات ولا أستطيع النظر إلا أمامى مباشرة؟ ماذا لو جاءنى أحدهم من الخلف وطوق عنقى وأردانى قتيلا؟ ماذا سيحدث للباشا الكبير جدا حينئذ؟ والله سأحزن عليه

          ــ اصحى يا خويا، أنت نايم، قدامى على الصف

          لسعنى الباشا على قفاى، لكنها «حاجة بسيطة»، ضاع الألم لأنى تحركت أخيرا، أهتف معهم وأنا أقفز فى الصف هتافا لا أفهمه، لكنى أبتسم، فالباشا الكبير جدا غير اتجاهه، أو ربما غير رأيه، واستراح اليوم فى البيت.

أسرّة فردية
دولت محمد المصري - فلسطين

سرير (1)

          وهكذا من غير سابق إنذار، انطفأت وترمّلت، لبست فستانًا مشطورًا بالطول إلى لونين، نصف أسود، ونصف أبيض، تماوجت مع الوفود المشيّعة، وعلى المقبرة نثرت الورد والآهات، وفي حفل العزاء الثلاثي، رقصت، ورقصت حتى استطاعت أن تطرد دمعة متحجرة كانت تسد المجرى، وبعد مرور أربعين مترًا من الزحام والمواساة، جاءها ذلك الرجل الذي يملك شاربًا في جهة واحدة، بينما يعمد إلى حلق الجهة الأخرى دون أن يرتاب أن في مظهره ما يثير العجب، الرجل الذي اعتاد أن يصحبها عند النوم، ويحكي لها حكايات قديمة، لكنها كانت قد شعرت بفداحة ما كانت تستمع إليه، وبقربها من امتثالها لأكذوبة الحنان والحب الذي كانت تفتقده، أمسكت المفاتيح، طردت الكائنات، الأثاث، الهواء، الذكريات، ولم تبق إلا الصور المفزعة لتمكّنها من الطعن، وتتمكن هي من الشعور بالألم ثم أحكمت إغلاق الأبواب، وهي تراقب من نافذتها العالية، ومن وراء الستائر السوداء كيف تحول الرجل ذو النصف شارب إلى خنفساء على شكل علامة استفهام دون أن تلاحظ في غمرة تساؤلها عن الأشياء، أنها تحولت إلى حلزون على شكل نقطة ليس بعدها أسطر جديدة

سرير (2)

          «يا بني صرت شابا وأحلم أن أراك عريسا في ليلة اكتمال البدر».

          بحثت في كل الأصقاع عن غزلانية القد، ملساء الشعر، صغيرة السن، تفقدت هذه، وتلك حتى نجحت إحداهن في اختبارات المهارة المنزلية والحنكة في تدبر وعاء من العجين لعدد من الأفواه العاملة، وفي ليلة العرس، رقصت الأم بالشموع، وتألقت نار صغيرة تتمايل على وقع الكفوف المبتهجة، زغردت الأم، وهللت حتى بُح صوتها، وبعد أن أمسك ابنها يد عروسه مصطحبًا إياها إلى شقته الصغيرة التي مُنحت لهم، فاضت دموعها، دموع لم تعرف لها معنى، عادت إلى البيت تحمل الشموع المطفأة، بدا المكان خاويًا، ناقصًا، بالرغم من شخير زوجها غير الآبه، باتت ليلتها تحاول أن تنسى تعبها إلى جانب السرير الذي كان ولدها معتادًا أن ينام فيه، لم تملّ وهي تتحسس جسد السرير، كانت تسمع آهاته، تقبله، تعطيه الدواء في الوقت المحدد، تمسح العرق المتصبب منه، تضمّه حتى يغرق برائحة عنائها، فإذا ما ضلّ يومًا، يعود، وتوقظه باكرًا ليذهب إلى المدرسة، ولأن الدموع التي ذرفتها لم يلق أحد لها بالًا، فقد أيقنت أنها سعت لولدها في أمر لم تكن متأكدة من قدرتها على احتماله، لذلك وقفت خلف متاريس الأمومة تحارب من أجل سعادة ولدها الذي توقعت أنه في تعاسة بالغة، ولم يهنأ لها بال حتى عاد طفلها ينام في سريره الفردي في الغرفة المجاورة لغرفتها.

سرير (3)

          الليل عين، النهار عين أخرى، وما بينهما تتفجر الروح من الكبت المتواصل وتحمل ما لايمكن احتماله، أمي منذ متى وأبي يسافر. صرخ الأطفال الملقون على عتبة الفقد، ولم يهتز لصراخهم سوى الحشرات الزاحفة هنا وهناك، تلك التي حزمت أمتعتها، رحلت مفضلة ترك الفتات وما تبقى من فراش ودثار لهؤلاء المساكين، وعندما لم تستطع الجدران تحمّل الأسرار أكثر، انفجرت، انهارت، باحت بأسرار ليس من حقها أن تبوح بها، لكن الجمهور المصفق في الخارج لم يسمع الأنات، لم ير الجسد الذي يتوسّد المناديل الورقية، التي سيبيعها في الصباح الباكر، ولا الجسد الآخر الذي يحلم أن يجد كنزا بين أكوام القمامة، من قال إن بيتًا من غرفة واحدة وملحقاتها كان هناك، لم ير الأم التي احتضنت طفلتها هي تتمنى أن تزوجها عندما تبلغ الثالثة عشرة من أحد الأثرياء حتى لو كان بعمر جدها، ترد الشقاء المتوقع عنها، لم يعلم أحد بنيتها حرق نصف السرير المزدوج، لعلها تقصد من خيالها وتوسع المكان، لم يتسن لها كل ذلك، ومن بين كل تلك الضوضاء السخيفة بقي طفل، يزحف على ركبتيه يشدّ قدميه يستعطفها لتمنحه قوته، وقد ورث السؤال الوحيد (منذ متى يسافر...؟).

قبر مفتوح
زكية علال - الجزائر

          هي امرأة تحضن قبرها تماما كما تحضن الطفلة دميتها.. هي امرأة ترفضها كل المدن.. كل الوجوه التي تتناثر على صدر الصباح، لهذا قررت أن تنصب خيمة على جسدها وتلف غيمة حول رأسها لتروي على مسامع الكون تفاصيل حبها.. هي أفاقت هذا الصباح، فاكتشفت أنها تحضن قبرا.. هو ما كان قبرا قبل اليوم، بل كان شمسا تربعت على قلبها فأنارت جوانبه المظلمة، وأشاعت الدفء بين جدرانه الباردة، كان قمرا انحنى أمامها ذات مساء حالم? لا يشبه كل المساءات التي تزور الشوارع وتطبع على جبينها الوضاء قبلة لا تزال المدينة تعيش على حرارتها.. هو أسند رأسه إلى جدار صدرها فاحتضنت أوجاعه، وحملته إلى عالم ليس فيه وجع.. علمته كثيرًا من حروف الأمل وأبجديات الفرح..هي ما كانت تعتقد أن للقمر أنيابًا تعض كما الوحوش، ولا كانت تعرف أن للشمس وجهًا آخر غير الذي تشرق به على الوجود، أمها علمتها أن في جوف البشر قلبًا قد يقسو حينا، ولكنه يلين في كثير من الأحيان، قد ينبض بالحقد مرة، ولكن.. ينبض بالحب مرات عديدة.

          عندما كانت تعبر الشارع الأول قررت ألا تنظر في وجه أحد حتى لا يغريها بالبقاء.. عندما قطعت الشارع الثاني ابتسمت بنشوة، فقد أحست أنها عبرت نصف المسافة وبين أحضانها وطن ليس من ورق، وليس دمية أيضا.

          عندما شرفت على النجاة، شعرت بوهن يغزو رجليها، فأسندت رأسها إلى شجرة طاعنة في السن كي تلتقط أنفاسها، ثم راحت تتحسس ما فوق صدرها نظرت إليه.. صرخت من هول الفاجعة التي كادت تفقدها ما تبقى من وعيها، فهذا الذي تهرب به من غثيان المدينة تحول هو الآخر إلى قبر ينفتح في أعماقها.. هو ما كان قبرًا قبل يوم.. كان وطنا هرب إلى صدرها ذات ليلة أمطرت فيها سماء المدينة جمرًا.. نارًا.. ولهيبًا.

          عندما كانت صغيرة، رسمت له بيتًا من ورق في غرفتها، كان بيتًا جميلًا لونته ببراءة الطفولة فيها.. نوافذه تطل على عالمها، وبابه لا ينفتح إلا على قلبها وأفاقت ذات ليلة عاصفة لتكتشف أن بيت الورق لم يبق له أثر.

          عندما كبرت الطفلة، وتقلصت سذاجتها، أقامت له بيتا من حجر على ضفاف النهر الذي يعبر قريتها.. نعم.. هي باتت تدرك أن الورق ليس كالحجر، ونزيف القلب ليس كنزيف الحبر، وأن المعطوف ليس له - دائما - حكم المعطوف عليه، وأن حروف الجر ما عادت نزيهة كما السابق، هي ما زالت تذكر من حقيبة طفولتها أنها وقفت يوما للإجابة عن سؤال طرح في القسم، فنطقت المدينة مرفوعة بعد حرف جر، ساعتها تبسم المعلم ضاحكًا من قولها ورد عليها «حروف الجر تجر الجبل، فكيف بالمدينة».

          الآن.. هي تعي جيدا أن حروف الجر لا تسحب وراءها غير بؤساء القوم وذوي النوايا الطيبة، ما عدا ذلك فهو مرفوع لتعذر النطق !

          هي تعترف أن جسمها الضعيف ما عاد يحتمل ثقل هذا القبر المفتوح على أعماقها، فرت إلى أمها وأبيها وأخيها وبنيها، لكن لا جدوى، لكل منهم شأن يغنيه عنها.

          وأخيرًا قررت أن ترفع أمرها إلى الملك فهو - وحده - يملك أمر البلاد والعباد - سعت إليه في قصره.. دخلت عليه، ثم حدثته بصوت مبحوح: «أيها الملك.. أستحلفك بالذي يسر لك أمر هذا الملك بين يديك، أن تخلصني من لعنة هذا القبر المفتوح الذي يتمدد على صدري ويمنع عني الحياة».

          بعد صمت طويل خاطبها من فوق عرشه قائلا: «أيتها المرأة ادخلي بيتك آمنة، فنحن ها هنا- منذ سنين- نناقش أمر هذا القبر الذي انفتح على قلب المدينة، وعندما نصل إلى حل ستعرفين ذلك من كل شاشات العالم».

          خرجت من القصر مكسورة.. حزينة، فهي تعرف أن وعد الملوك كرسم في الهواء، ونقش على الماء، لهذا عرجت على القاضي لتطرح قضيتها في حضرته، فأفهمها أن رقم قضيتها بعيد جدا، وعليها أن تنتظر دورها ألف سنة أخرى!

          لم يبق أمامها إلا شيخ المدينة، فرحلت إليه تشكو له لعنة هذا القبر الـذي يلاحقـها كظلهـا ويلتصق بها كجلدها، تحدثت إليه كثيرا... كثيرًا حتى باتت الحروف تخرج عرجاء، مرهقة، لكنه ظل صامتًا لم ينبس ببنت شفة.

          ساعتها.. بكت.. بكت بسعة النهر الذي يعبر قريتها.. بكت حتى ضاع بياض عينيها، لأنها تعرف أن شيخ المدينة لا يسكت عن شيء، ولا يصمت عن قضية إلا إذا كان حلها عسيرًا.. بل مستحيلا.

السر
زهرة رحمة الله - اليمن

          تجمدت الدماء في عروقي حين أبصرت في وجهه المسكون بالرعب نافورة من الدم وجسمه المغطى بمساحة واسعة من الغبار.. كان يشق طريقه بين الأشجار بصعوبة وقد أنهكه الإعياء وقفت أمامه وهو يلهث وبادرته بالسؤال:

          - ماذا هناك يا عبده.. تكلم؟

          نظر إلى مصعوقا، تحركت شفتاه وارتخت أنامله وسقط عنق زجاجة مهشمة كان يحمله وانغرس في الرمل، كانت هناك آثار دماء وعرق ورمال على ملابسه ويديه قلت له :

          -هناك جرح غائر في وجهك.

          مددت يدي نحوه، لكنه أبعدها بعنف، ألقى نظرة رعب للخلف وراح يجرجر أقدامه بسرعة..نظرت إلى الأمام بين أشجار البرتقال، انطلقت أنا أيضا إلى الأمام بسرعة هائلة، وقفت على الشاطئ الهث من التعب ومصعوقًا من هول المفاجأة..كانت الفيللا المهجورة الغارقة في الظلام والمسكونة بالصمت والوحشة دومًا تشتعل الآن بالأضواء والحركة. رأيت مخلوقات بهيئات بشرية تحمل وجوهًا غريبة تخرج منها، وفي أجسادها أزرار كبيرة تومض بالألوان والأشكال وتسير على جسر ممتد منها إلى البحر وهي تحمل صحائف معدنية لامعة، تعبر الجسر إلى سفينة فضائية كمحارة ضخمة تربض على صدر البحر وتطلق صفيرًا حادًا قاطعًا، أطبقت يدي على أذني بشدة، مرت ثوان كانت المركبة تلملم مداخلها وتقلع جسدها وتنفك عن الجاذبية وهي تصدر عويلا حادا، تحركت الأرض تحت قدمي وتكوم جسدي على الرمل.، كانت السفينة ترتفع، لم أتمالك نفسي رحت أركض بشدة خلف الضوء الواهن الهارب نحو السماء وهو يتبدد ويتلاشى حتى يغدو نجمة بعيدة، كان عنقي مشدودا وعيناي غائبتين في الفضاء وجسدي غارق في الإعياء وروحي مبددة بين الحقيقة والحلم، مر وقت طويل وأنا على هذه الهيئة حتى شملني الهدوء.

          تذكرت أول اتصال في مركز الشرطة حيث أعمل، اتصلت امرأة تدعى أم سامي حدثتني بأنها رأت شيئا غريبا في تلك الفيللا المهجورة، حدثتني بأنها رأت حزمة ضوء تتسلل من النافذة ولكنه اختفى بسرعة، وفي يوم آخر كان هناك بلاغ حول مجموعة من الأولاد يلعبون الكرة في الساحة الجانبية للفيلا المهجورة فطارت الكرة فوق سور الفيلا وتسلل واحد منهم خلفها لكنه لم يعد منها.. وفي يوم اقتيدت امرأة من الحي إلى المركز.. كانت في هياج شديد تشد شعرها تمزق ملابسها..كانت مطلقة تعيش مع طفلتها لكن إدمانها على المهدئات وأشياء أخرى حولت وصاية الحضانة من المحكمة لمصلحة الأب وفي يوم كانت تقود طفلتها إلى منزل الأب حين استوقفتها صديقة لها في الطريق وأخذت تجاذبها أطراف الحديث.. تسللت الطفلة صوب الفيلا ودخلتها عبر بابها الحديدي الموارب.. أحست الأم بابتعادها، فانطلقت صوب الفيلا وبحثت عنها في كل أرجائها كان الصمت يصفر في كل مكان فتهالكت على الأرض وراحت تبكي.

          كانت الأخبار والبلاغات عن الفيلا تتوارد وتتكاثف والملف أمامي ينتفخ بالتفاصيل والتعقيد، بعد عدة أيام تسللت إلى الفيلا ورحت أجوب الحجرات والأروقة وافتح الأبواب وأغلقها ويتعلق في أذني صريرها الموحش، وفي إحدى الحجرات وجدت نفسي تنزلق في نفق سفلي ضيق أتزحلق على أرضية من خشب - مشبوك - كان صوت الماء ورائحة الملوحة ترسخ يقيني بأنني على سطح البحر وكانت أشباح أسماك سوداء تجوب بشراسة تحت قدميّ.. تحملق في وجهي.. كان البريق المنطلق من عينيها الزجاجتين القاسيتين ينزلق في أعماقي كدبابيس معدنية وأسنان فكها الواسع يقذفني في لجة رعب ويعذبني يقين بأنني في فخ مفترس.. رحت أتشبث بقاعدة النفق وأدفع جسدي إلى الأعلى وأضغط بكلتا يدي وقدميّ على أطرافه الصلبة وأصعد إلى الأعلى..

          جلست على الشاطئ وأمعنت النظر إلى الفيلا وهي تغتسل بالظلمة والصمت والهواجس، كأنها إحدى الكواكب البعيدة كـان البحر يتنفس بهدوء والنسيم البارد يصافح وجهي، والسر الرهيب قد انبلج من رحم الظلمة وذاب في سكون الفضاء الواسع.

          ماذا يريدون منا.. من أطفالنا..؟

          لملمت نفسي ورحت أحث الخطى في الظلام يغمر، لم أدر كم مشيت، وهناك يقين حاد يسحقني بأنني أحمل سرًا رهيبًا ينوء به كاهلي ولكن لن أجد من يصدقني..

 

إبراهيم عبدالمجيد