غابت السياسة عن أمريكا.. فاحتلت "الفضيحة" مكانها

غابت السياسة عن أمريكا.. فاحتلت "الفضيحة" مكانها

يوم 19 أكتوبر عام 1988 سقطت سوق الأسهم في نيويورك 40 نقطة في ساعة واحدة. السبب هو أن شائعة سرت في السوق تؤكد أن صحيفة واشنطن بوست الأمريكية سوف تنشر في اليوم التالي التفاصيل الكاملة عن العلاقة غير الشرعية التي تربط بين نائب الرئيس والمرشح لرئاسة الجمهورية في أمريكا جورج بوش و"عشيقته" وهي موظفة في وزارة الخارجية. رئيس تحرير "البوست" بن برادي خرج عن التقاليد الصحافة وظهر علي التلفزيون ليعلن أن صحيفته لا تملك خطة لنشر هذه الفضية. وهدأت البورصة، ولكن القصة عادت لتتفجر مجددا بعد 4 سنوات.

في غياب السياسة.. المرأة هي من يحكم الانتخابات الأمريكية، وهنا تفاصيل.

"اتجه يمينا في الانتخابات التمهيدية ثم يسار في الانتخابات العامة" هذه نصي0حة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون للمرشحين لرئاسة الجمهورية، ومع أن مثل هذا التكتيك الانتخابي يكشف عن قدر من النفاق والانتهازية، فإنه يؤكد في الوقت نفسه أن معركة المتنافسين على الرئاسة هي " سياسية" بالدرجة الأولى. فهناك يمين وهناك يسار، وعلى المرشح أن يلعب بين الاثنين، أو أن يسعى للفوز بأصوات اليمن واليسار معا(!).

النصيحة ربما كانت صحيحة حتى منتصف الثمانينيات. بعد ذلك، صارت " الفضيحة " وليست السياسة هي ما يحكم الانتخابات الأمريكية، سواء على مستوي الرئاسة أو على مستوي حكام الولايات أو أعضاء الكونجرس، أو قضاة المحكمة الدستورية العليا.. ولأن خلف كل فضيحة امرأة، فقد صارت المرأة هي "الناخب الأول ".

هل كان يستخدم الواقي ؟

هل كان السيد كلينتون يستخدم " الواقي" عندما كان ينام معك؟ السؤال طرح على السيدة "جنيفر فلورز" خلال مؤتمر صحفي عقدته في فندق "والدروف استوريا" وهو أهم فنادق نيويورك، وكشفت خلاله عن العلاقة التي كانت تربطها بالمرشح للرئاسة بيل كلينتون ، شبكة "سي. إن. إن " نقلت وقائع المؤتمر على الهواء مباشرة، وهو ما دفع كثيرين من الإعلاميين والسياسيين إلى التأكد على أن " كلينتون" بعد الفضيحة صار " لحما ميتا " أي أنه سقط بالضربة القاضية.

حاكم ولاية أركنساس ومرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة بيل كلينتون يخوض معركته في مواجهة الرئيس جورج بوش على أساس الاقتصاد.، ورفع شعاره الشهير "أنه الاقتصاد.. يا غبي" ولم يكن يخطر له بالتأكيد أن بطل "عاصفة الصحراء" سوف يفاجئه في غرفة النوم - زوجته السيدة هيلاري كلينتون أعادت الكرة إلى مرمي الخصم، فقالت في مقابلة تلفزيونية. إن الإعلام يكيل بمكيالين، وأنه لولا ازدواج المقاييس لما أمكن للرئيس جورج بوش أن يستمر في علاقته " غير الشرعية" وعلى مدى سنوات.

وللمرة الأولى خرجت صحيفة "نيويورك تايمز" وهي تنشر على صفحتها الأولى تقديرا كالتالي "أن الشائعات التي تم تكذبها عن العلاقة غير الشرعية للرئيس جورج بوش قد عادت للظهور..".

وعلاقة بوش، على نقيض علاقة كلينتون، لم تكن خبرا، ففي مطلع الثمانينيات كان بوش نائبا للرئيس، ويروي الصحفي هوارد كيرتز في كتابه "السيرك الإعلامي " أن صحافته أمضت فترة شهرين في تلك الفترة وهي تحاول أن تجد دليلا على تلك العلاقة، غير أنها فشلت، ومثلها كثيرون..

غير أن حمى الانتخابات في عامي 91 و92 أعادت إحياء العلاقة، ودخلت في التفاصيل، فكشفت، للمرة الأولى عن اسم العشيقة المزعومة، وهو "جنيفر فيتزجيرالد" وقد لعب الإعلام على تشابه الاسم الأول للعشيقتين "جنيفر". وفي يونيو عام 1992 اختارت مجلة "سباي" صورة بوش غلافا لها. ومعها عبارة "لقد خدع زوجته ". وفي التفاصيل التي ظهرت في كتاب " بيت الطاقة" ينقل المؤلف عن السفير الأمريكي لويس فليد أنه عندما كان سفيرا في جنيف عام 1984 ساعد نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش على تأمين منزل يجمعه مع " عشيقته" في خلال محادثات الحد من الأسلحة النووية التي كان يقودها بوش، وبرغم أن السفير لم يطرح أي برهان على أن الرئيس تربطه علاقة مع جنيفر، فإنه أعرب عن عدم ارتياحه بسبب الترتيبات التي اضطر للقيام بها لتأمين منزل للرئيس أثناء أقامته في جنيف.

وسائل الإعلام تابعت الفضيحة المزعومة وكشفت أن الرئيس بوش عين جنيفر في منصب نائب مدير البروتوكول في وزارة الخارجية، أي أنه كان ينفق عليها من أموال دافع الضرائب الأمريكي، وقامت القيامة، ولم تجد صحيفة محترمة مثل " واشطن بوست " حرجا في أن تقول بمكر شديد: "أن السيدة جنيفر فيتزجيرالد " خدمت الرئيس بوش في "أوضاع (Positions) مختلفة". السيدة بربارة بوش المعروفة برصانتها ووجه " الجدات " الذي تحمله، لم تملك إلا أن تصف هيلاري كلينتون بأنها " عاهرة"!

وتوازنت الكفتان في معيار الفضيحة، ومع ذلك فإن المحكمة مازالت تتابع النظر في قضية جينفر فلورز العشيقة المزعومة للرئيس بيل كلينتون.

بيرو: أنقذت ابنتي

الملياردير "روس بيرو" الذي خاض معركة الانتخابات الماضية، وربما يخوض الانتخابات الحالية، قدم نفسه باعتباره مستقلا عن الحزبين المتنافسين والغارقين في فساد السلطة، ووعد الناخبين في حال فوزه بأن يحقق "معجزة" الموازنة المتوازنة، من بين أشياء أخري، ولكن فجأة، وبعد أن أنفق عشرات الملايين من الدولارات في حملته، قرر الانسحاب. لماذا ؟ في مقابلة تليفزيونية، قال بيرو إن قرار انسحابه تم لإنقاذ حفل زواج ابنته (!).

كيف ؟ سأله مقدم البرنامج بدهشة
ورد بيرو: إن جماعة إدارة بوش قد كلفت مجموعة من الخبراء التقاط صورة لابنتي في وضع "مريب" تبدو فيه "سحاقية". وقال بيرو إن المؤامرة تأتي في سياق مؤامرات أخرى بدأت في السبعينيات عندما أرسل الفيتناميون الشماليون فرقة اغتيال إلى منزله في تكساس.

غير أن كلباً للحراسة كان يمتلكه تمكن من الانقضاض علي أحد أعضاء الفريق، والتهم نصف مؤخرته، مما اضطر الفريق إلى الهرب.

كما بدأ بيرو هجوما مضادا على الرئيس بوش فزعم في مقابلة صحفية أنه كشف شخصيا للرئيس عن علاقات أقامها ولد الرئيس مع شخصيات " مشبوهة ". ولم يوضح بيرو إذا كان بين هؤلاء الشخصيات عناصر نسائية، تاركا للإعلام مهمة الاستنتاج.

وضاع حديث الاقتصاد وتبخرت المعجزة لتبقى المؤامرات - الجنسية الخاصة - هي عنصر الحسم في حياة المرشح للرئاسة الذي سبق أن أعلن: " إن ما يميزني عن كلينتون هو أنني لن أقبل بالتأكيد أي شاذ جنسيا في إدارتي وليس في الجيش وحده ".

الفضائح في الحياة السياسية الأمريكية ليست جديدة. كتاب " داخل البيت الأبيض " يكشف كيف أن السيدة ليدي بيرد، زوجة الرئيس جونسون فاجأت زوجها في الغرفة البيضاوية في البيت الأبيض مع سكرتيرته في وضع " مرتاح تماما ". ويتحدث عن علاقات الرئيس جون كنيدي الذي كان يستخدم مكتب شقيقه في نيويورك، وكان يحتل منصب المدعي العام كي يختلي بالممثلة مارلين مونررو.

ولكن الرأي العام كان يتعامل مع هذه الفضائح باعتبارها نوعا من التسلية والترفيه، وبقي الرئيس جون كنيدي، كما يقول الكاتب جور فيدال، أكثر الرؤساء شعبية في أمريكا حتي بعد أن كشف الإعلام عن شذوذه الجنسي. كانت الفضيحة تؤثر في الرأي العام، يستغل منصبه أو نقود دافع الضرائب الأمريكي لإرضاء عشيقته أو عشيقه، كان الناخب الأمريكي يتابع البرنامج السياسي للمرشحين، وكانت الحدود الفاصلة بين الجمهوري والديمقراطي واضحة. وكانت عبارات من نوع اليمين المحافظ واليسار الليبرالي تحمل مضمونا سياسيا واجتماعيا وثقافيا يميز بين الفريقين.

ولكن في عصر المعلومات باتت السياسة وقفا على النخبة، وهم أقلية من السياسيين المحترفين والخبراء وأصحاب المصالح وقوى الضغط، وأصبحت عبارة من نوع " الموازنة المتوازنة " هي أقرب إلى الطلاسم برغم أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يعتبر أنها خط المواجهة الأول. وغابت الحدود الفاصلة بين اليساري الليبرالي واليميني المحافظ، إلى حد أن الناخب صار يحار في تعريف المرشح. ولعل حكاية الجنرال كولن باول هي نموذج ساطع في هذا السياق.

الجنرال لا يحب السياسة

في يوليو العام الماضي لمع اسم الجنرال باول باعتباره أبرز المرشحين لمنصب الرئيس في الانتخابات الحالية. ظهرت صورته على غلاف مجلتي " تايم ونيوزويك " وعشرات المجلات الأخرى، وكان ضيف الشرف في أكثر من برنامج تلفزيوني.

باول، رئيس هيئة الأركان وأحد أبطال "عاصفة الصحراء" في حرب الخليج لم يعلن ترشيحه رسميا، يقول في حوار مع مجلة "تايم" في يوليو العام الماضي: "لا أحب السياسة، لا أشعر بأي حاجة ملحة كي أكون سياسيا، ومع ذلك أريد أن أبقي الخيار مفتوحا..".

وهذا الخيار المفتوح علي خدمة وطنه، يقوم، كما يقول، علي برنامج أخلاقي " إذ علينا أن نعيد الشعور بالخجل إلى مجتمعنا، لم يعد هناك ما يثير غضبنا أو خجلنا. نحن ننظر إلى تلفزيوناتنا ونشاهد جميع أنواع الزبالة، ونسمح لها بالدخول إلى منازلنا. فنحن لم نعد نخجل منها. ويروي باول أنه أثناء زيارة له إلى المملكة العربية السعودية تفقد خلالها خطوط القتال، قبل بدء عاصفة الصحراء سأل جنديا أمريكيا أسود ما إذا كان يشعر بالخوف، ورد الجندي: أبدا، أتعرف السبب، والتفت إلى رفاقه، وقال: "أنا هنا وسط أسرتي وبين أفراد عائلتي". ويعلق باول : إذا كنا نستطيع أن نبني روحا عائلية في قلب شاب أسود وأن نرسله 8 آلاف كيلو متر في مهمة، وأن يشعر أنه لم يغادر عائلته، نكون قد حققنا شيئا.. ويضيف: " إن هناك الكثير من الصراخ في أوساط نظامنا السياسي، ولكن علينا أن نبني حياتنا علي مبادئ أساسية أهمها أن أمريكا هي عائلة.." وتقول المجلة "إن باول ليس سياسيا ، وهو لا يملك ملفا يكشف عن مواقفه السياسية، إنه مع حق الإجهاض ومع دعم الضمان الصحي.. لكنه يغامر بأن يبدو ساذجا مقارنة مع السياسيين". وتدعم المجلة ترشيحها للجنرال باستقصاء نال فيه باول 56 في المائة للمرشح بوب دول.

عودة "القائد الملهم"

كان هذا في يوليو الماضي، وفي مارس العام الجاري، وبعد 8 أشهر علي المقابلة الأولي. ومع أن باول لم يعلن ترشيحه، فإن "تايم" تنشر استقصاء جديدا، يؤكد فيه 47 في المائة أنهم سوف ينتخبون بوب دول إذا اختار كولن باول نائبا للرئيس، في مقابل 45 في المائة لقائمة تضم كلينتون ونائبه آل جور. أما إذا قرر المرشح الجمهوري بوب دول أن يخوض الانتخابات بنائب رئيس آخر غير الجنرال باول، فإنه ووفقا للإستقصاء لن يحصل على أكثر من 40 في المائة، مقابل 49 في المائة لخصمه كلينتون.

إذن كولن باول هو " بيضة القبان " فيما لو قبل أن يترشح لمنصب نائب الرئيس.

لماذا هذه الشعبية الكاسحة للجنرال: هل لأنه جمهوري، أم ديمقراطي أم مستقل ؟ هل لأنه يميني محافظ أم يساري ليبرالي ؟

الإجابات، وفق الاستقصاء، تحدد مدي غياب السياسة، إذ إن 40 في المائة يريدون جمهوريا و17 في المائة يريدونه ديمقراطيا، ويبقى 19 في المائة يقولون إنهم لا يعرفون إلى أي جهة أو حزب يتبعونه، في الوقت نفسه، فإن 40 في المائة يصفونه بأنه محافظ و9 في المائة بأنه ليبرالي و39 في المائة لا يستطيع تحديد هويته السياسة. وتستنتج المجلة أن نسبة عالية من الديمقراطيين سوف تصوت جمهوريا، إذا كان باول في قائمة المرشح الجمهوري. وفي غياب السياسة، وتما هي الحدود الفاصلة بين اليمين المحافظ واليسار الليبرالي تصبح "شخصية القائد" هي ما يستقطب الناخبين ويظهر "القائد الملهم" مجددا، بالانتخاب هذه المرة ، وليس بانقلاب برعت دول العالم الثالث في ممارسة طقوسه المقدسة ودفعت الثمن غاليا.

 

شوقي رافع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات