المستقبل.. عالم اللايقين

المستقبل.. عالم اللايقين
        

قلق وتشاؤم وخوف من انهيار العالم وما فيه من نظم. هذا هو عنوان المرحلة التي نعيشها الآن فإلى أي مدى تسود ظلمة التشاؤم؟ ومن أي فج يأتي نور الأمل؟!

          من الأفكار التى بدأت تشيع فى بعض الأوساط الثقافية فى الخارج، وتلقى رواجا فى العديد من الكتابات المهتمة بالمستقبل، أن العالم يمر الآن بمرحلة تدهور سوف تنتهى بانهيار النظام العالمى، الذى يخضع للهيمنة الغربية، وذلك على الرغم من كل المظاهر التى تشير إلى عكس ذلك، والتى تعطى صورة باهرة تدفع الكثيرين إلى التفاؤل حول المستقبل والرضا عن الذات فى ضوء التقدم العلمى والتكنولوجى والازدهار الاقتصادى الحالى . ويستشهد المتشائمون حول مستقبل العالم بأن الغرب - الذى يعتبر فى رأيهم هو مصدر كل شئ - يفقد الآن وبسرعة فائقة قدراته على السيطرة السياسية على العالم ولم يعد فى إمكانه فرض نظمه على الآخرين مثلما كان يفعل فى القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حين بدأت الدول اللاغربية المستضعفة تتمرد وترفض الخضوع والانصياع للسياسات والثقافات والرؤى الغربية للأشياء، وترجع إلى تاريخها وتراثها الثقافى تستمد منه العناصر والمبادئ التى تساعدها على بناء قدراتها الذاتية واسترداد هوياتها المتمايزة ورسم مستقبلها الخاص بها . 

          يزيد من حدة هذا الشعور بالقلق والتشاؤم ما يواجهه العالم الآن من مشاكل وتحديات تستعصى على الفهم والحل فى كثير من الأحيان، كما هو الحال بالنسبة لمشاكل البيئة، أو العجز عن التحكم فى آثار التكنولوجيا الحديثة على المجتمع الإنسانى، أو تأثير العولمة على العلاقات بين المجتمعات والثقافات المتباينة، وعلى السلوك الفردى وأنماط القيم أو النتائج النهائية، التى قد تترتب على البحوث المتواصلة فى مجال الهندسة الوراثية، وغيرذلك من المشكلات التى لايعرف العلماء والمفكرون على وجه اليقين كيف يمكن التنبؤ بها، فضلا عن القدرة على مواجهتها والتغلب على آثارها السلبية التى قد تأخذ شكل تحولات اجتماعية واقتصادية وتغيرات سياسية جذرية بل واضطرابات سيكولوجية خطرة تصيب كثيرين من أفراد البشر.

نهاية التاريخ

          وقد أدت هذه الأوضاع المتغيرة وغير المستقرة بعدد من الكتّاب والمفكرين إلى وصف الحقبة الزمنية الحالية بأنها نهاية التاريخ، أو أنها تمثل مرحلة (الفرادة) وأنها نقطة تحول فى تاريخ الجنس البشرى تتميز «بالفوضى الخلاقة» وهكذا. وأيا ما يكون المقصود من هذه العبارة الأخيرة فإنها قد تنبئ فى بعض أبعادها بأن الغموض الحالى والمشكلات المتزايدة والمتسارعة والتحديات المتراكمة التى لاتجد لها حلا الآن قد تتمخض فى آخر الأمر عن قيام عالم جديد تماما يصعب التعرف عليه بدقة أو التيقن من ملامحه ومقوماته الأساسية فى الوقت الراهن ، خاصة أن جانبًا كبيرًا من الأحداث التى يتعرض لها العالم تخضع لبعض العوامل والقوى غير المنظورة، التى يصعب التحكم فيها أو توجيهها حسب رغبة الإنسان ومشيئته، وبما يتفق مع صالحه أو مايعتقد أن فيه صالحه. ومن هنا كان الكثيرون فى الخارج يرون أنه على الرغم من كل ما أحرزه الإنسان من تقدم فى العلم والتكنولوجيا فإن المستقبل تلفُه تماما غلالة كثيفة جدا من اللايقينuncertainty، وأن هذا اللايقين سوف يظل أحد الملامح الأساسية المميزة للوضع الإنساني فى المستقبل المجهول الزاخر بالتعقيدات والتناقضات، والذى تنجرف الإنسانية نحوه فى غير هوادة على مايقول لودفيج فون ميزس Ludwig von Mises

          ومن الطبيعى أن تثير هذه الحالة من الالتباس والغموض وغياب اليقين حول المستقبل كثيرا من الجدل بين رجال الفكر المهمومين بمصير المجتمع البشرى والعلاقات الإنسانية، خاصة أن تحديات المستقبل واستفحال تعقيدات الحياة نتيجة لتزايد كثافة التفاعلات بين الناس كمحصلة طبيعية لتأثير تيارات العولمة، أدت إلى انهيار الحواجز بين المجتمعات المختلفة فى جميع أنحاء العالم . فلم يعد فى إمكان أى من البشر أن يعيش بمعزل عن الآخرين، كما كان عليه الحال فى الماضى حين كانت الجماعات الصغيرة المتفرقة تعيش مغلقة على ذاتها إلى حد كبير . وقد اتسعت دائرة الاتصال بين الأفراد والشعوب والثقافات وأسهمت وسائل الاتصال الإلكترونى فى إزالة تلك العزلة الاجتماعية والفكرية، وامتد تأثير الإعلام إلى مناطق ومجالات عديدة ومترامية الأبعاد، وازدادت كثافة تدفق المعلومات المتنوعة والمتباينة والمتضاربة حول جميع الموضوعات، وتعددت وتنوعت الاكتشافات العلمية الجديدة التى كثيرا ماتنفض النتائج التى توصل إليها العلم من قبل، بحيث أخذ الشك يساور العقول حول كثير من الأمور التى كانت تعتبر من الحقائق (الثابتة) . وقد أدى ذلك كله إلى تداخل القيم وارتباك المعايير، بحيث أصبح من العسير التأكد مما سيكون عليه الوضع فى المستقبل.

          ويزيد من حدة اللايقين وسطوته وقسوته تعدد وتنوع المنظورات والأفكار، التى تحاول فهم وتفسير التحولات والتقلبات، حيث تتعارض وتتلاطم وجهات النظر والفلسفات حول الأحداث الجارية، كما تتباين الآراء حول ماهو صواب أو خطأ، ولا يكاد المرء يعرف إلى أين يتجه الجنس البشرى أو إلى أين يجب أن يكون ذلك الاتجاه والتوجه. فالمناخ العام السائد مليء بالاحتمالات وزاخر بالتساؤلات والمعلومات والاختيارات والإمكانات . وكل هذا التعارض والتنوع فى الإمكانات والذى يؤخذ على أنه دليل على التقدم من شأنه أن يقود إلى البلبلة، كما أنه يعتبر مؤشرا على حالة اللايقين التى يجد فيها العالم نفسه الآن، والتى سوف تتفاقم فى المستقبل.

الغد الغامض

          وقد يكون التفكير فى المستقبل - والانشغال الزائد بالتعرف مسبقا على ما سوف يكون عليه الوضع فى العقود القادمة، والاهتمام بالتخطيط الدقيق القائم على المعرفة المؤكدة اليقينية ووضوح الرؤية - اتجاها حديثا نسبيًا، بالرغم من اهتمام الإنسان، خلال كل تاريخه، وفى مختلف العصور والثقافات، بالغد. فقبائل الإيروكوى عند الهنود الحمر - على سبيل المثال - ينظرون دائما إلى سبعة أجيال قادمة قبل أن يتخذوا أى قرار يمس حياتهم القبلية بوجه عام. ويرى علماء الأنثروبولوجيا فى ذلك - وفى غيره من الأمثلة المشابهة - دليلا على انشغال العقل الإنسانى بطبيعته بالغد الغامض، والرغبة فى استشراف المستقبل، تحسبا بقدر الإمكان للمفاجآت غير المتوقعة وترتيب الحياة فى حدود الإمكانات المتاحة . وبصرف النظر عن مدى صحة أو خطأ مثل هذه الأحكام فالواقع أن تصورات الشعوب والقبائل البسيطة فى بنائها الاجتماعى ونظمها وأنساقها الاجتماعية، لاتتضمن ولا توحي بوجود اختلافات جوهرية بين الماضى والحاضر والمستقبل، نظرا لنمطية الحياة وندرة الاختلافات والتباينات والتغيرات والمستجدات فضلا عن قلة التنوع فى أساليب العيش والسلوك والعلاقات مما يجعل من أبعاد الزمن الثلاثة متصلا ثقافيا وحياتيا على درجة عالية من الرتابة ويكاد يخلو من المفاجآت والتحولات غير المحسوبة . فالزمن لدى هذه الشعوب زمن ضحل أو مسطح وقليل العمق بعكس الحال بالنسبة لمفهوم الزمن فى المجتمعات المعاصرة الكثيرة التغير والتنوع والتحولات. ولذا فإنه بالرغم من الاهتمام الطبيعى - ولو فى حدود ضيقة - وبالرغم من القلق المشروع لدى هذه الشعوب - كغيرها من الجماعات الإنسانية - بالمستقبل، فإنها تتمتع بقدر كبير من اليقين حول ماسيكون عليه الغد، الذى لن يختلف كثيرا عن الأمس وعن الحاضر القائم، وهو نوع اليقين الذى تفتقر إليه الشعوب الأكثر تقدمًا، وبخاصة فى الحضارة التكنولوجية الغربية الحديثة . فالأجيال السبعة القادمة التى يأخذها الإيركوى فى الاعتبار لاتعنى شيئا كثيرا فى واقع الأمر . فاليقين يرتبط إلى حد كبير بالرتابة أو على الأصح بعدم التعرض للتغيرات والتحولات والتقلبات المفاجئة والطفرات المتسارعة التى يتعرض لها المجتمع المعاصر نتيجة للتقدم العلمى والتكنولوجى الذى يغير وجه الحياة على فترات متقاربة وبسرعة رهيبة، لايكاد المرء يستوعب معها نتائج ذلك التقدم قبل أن تطرأ عليها تغيرات جديدة تقلب كل الموازين.

          وقد اختلف التصور الآن عن المستقبل اختلافا جوهريًا، عما كان عليه الأمر خلال القرون الطويلة الغابرة، ولم يعد ذلك المتصل الزمانى يسير على وتيرة واحدة نتيجة لتسارع الأحداث العالمية من ناحية، والتقدم التكنولوجى والقفزات الواسعة فى البحث العلمى من ناحية أخرى وارتياد مجالات جديدة، أدت إلى الكشف عن حقائق غيرت النظرة إلى كثير مما كان يعتبر حتى وقت قريب من الثوابت العلمية كما هو الشأن مثلا بالنسبة لبعض الأمراض أو حتى بالنسبة لتاريخ الكون وتكوينه . وأصبحت الأبعاد الثلاثة المكونة للمتصل الزمانى تؤلف وحدات متمايزة، إن لم تكن منفصلة تماما بعضها عن بعض، نتيجة لهذه العوامل التى أفقدت المجتمع المعاصر الشعور بالثقة واليقين حول صورة الغد. وقد تكون هناك رغبة قوية فى معرفة المستقبل، ولكن هناك فى المقابل صعوبات هائلة تحول دون تحقيق هذه الرغبة، نظرا للتغيرات المتسارعة وهو مايزيد من حدة الوقوع فى دائرة اللايقين.

إعادة النظر في التراث

          وليس ثمة شك فى أن النظم الاجتماعية السائدة الآن فى المجتمع المعاصر تختلف اختلافًا جذريًا عن النظم التقليدية المتوارثة، التى تتراجع وتتآكل بسرعة رهيبة أمام المستجدات التى يأتى بها العلم الحديث فى جميع الميادين . فلقد انتهى وانقضى عهد كل ماهو تقليدى فى الغالبية العظمى من المجتمعات ولم يعد لأنماط القيم وأنساق التفكير أو حتى للعادات الفردية التقليدية الدور القوى الفعال نفسه الذى كانت تقوم به فى الحياة اليومية حتى عهد قريب، إذ أفلحت العولمة وأساليب الاتصال الإلكترونى فى غزو المجتمعات والثقافات المختلفة وتغيير حياة الفرد العادى تغييرًا جذرًيا لا أمل فى الرجوع عنه، كما أجبرت تلك الشعوب على إعادة النظر فى الموروثات والنظم القائمة بالفعل وتعديل النظرة إلى العلاقات التى تربط أعضاء المجتمع بعضهم بعضا وتغيير التطلع إلى المستقبل والانشغال به. والطريف فى الأمر أنه على الرغم من أن التغيرات والتنوعات المتباينة مستمرة ومتواصلة بغير توقف فإن بعض المفكرين يرون أننا لانزال فى بداية مرحلة التغيير للوصول إلى مايسميه عالم الاجتماع البريطانى أنتونى جيدنز المجتمع الكوزموبوليتانى الكوكبى global cosmopolitan society الذى نمثل نحن فيه الجيل الأول، وهومجتمع مفتوح إلى أبعد الحدود وشديد التعقيد ولا يعرف العزلة عن العالم الخارجى وبعيد كل البعد عن التقوقع والانكفاء على الذات والتمايز عن الغير . وهذا الانفتاح اللامحدود يأتى بغير شك على حساب التقاليد والنظم والأفكار المتوارثة التى تؤلف الأساس الصلب الذى تقوم عليه الحياة فى المجتمع التقليدى المستقر، وفقدان هذا الأساس مع التغيرات السريعة والمفاجئة والمتلاحقة يترك الإنسان فريسة لشكوك اللايقين حول وضعه ومستقبله بل ومستقبل العالم ككل .

          ففكرة وجود مستقبل محتوم ومحدد المعالم ولامفر منه ويمكن معرفته مسبقا علم اليقين لم تعد سائغة أو مقبولة لدى كثير من المفكرين المهمومين بما سيكون عليه مجتمع وإنسان المستقبل . فلن يكون هناك فى رأيهم مستقبل واحد وإنما (مستقبلات) عدة - إن صح التعبير ، وأن كل ما على الإنسان أن يفعله هو أن يستخدم معرفته وقيمه وخبراته وتجربته فى الحياة فى تحسين مجال ونوعية المستقبل أو المستقبلات المتاحة، التى يمكنه التلاؤم والتعايش معها . ويخضع تشكيل هذه المستقبلات المختلفة لعوامل شتى متفاعلة تدخل فيها القيم الثقافية والأوضاع السياسية والمعتقدات الدينية والنظم التعليمية والبحوث العلمية المتقدمة، بل وتقلبات السوق والكوارث الطبيعية واستخدامات الطاقة والحروب وغير ذلك من الأحداث الطارئة وبعض الاتجاهات الأيديولوجية التى لم يكن لها وجود من قبل، والتى قد تقوم على مبدأ استخدام العنف فى التعامل مع الغير كما هو الحال بالنسبة للحركات والتنظيمات الإرهابية إلى جانب الإحساس الذاتي الداخلى لدى الناس فى هذا المجتمع المتغير، بعدم الاطمئنان إلى إمكان قيام صيغة اجتماعية ثابتة وشعورهم باللايقين إزاء جميع الأفكار المطروحة عن المستقبل. ربما كان الشئ اليقينى الوحيد هو أن المستقبل لن يكون مجرد امتداد وصورة (طبق الأصل) من الحاضر، وإنما ستكون هناك تفريعات وتنويعات عديدة من الأوضاع القائمة الآن، يصعب التنبؤ بما ستكون عليه وبمدى قدرة الناس على التفاعل معها، ونوع ذلك التفاعل، والآثار التى سوف تترتب عليه؟!

مأساة اللايقين

          فالمستقبل سوف يزخر إذن بعدد من اللايقينات النسبية حول أمور يصعب التكهن بها والحكم عليها بشكل نهائى وقاطع، بل وكثيرا ماتكون غير مفهومة . وقد حاولت بعض الكتابات والندوات تحديد أهم اللايقينات المحتمل أن يواجهها العالم حتى العام 2020 وبطبيعة الحال فإن إثارة هذه المسألة كانت تتخذ دائما شكل التساؤلات الخلافية عن أمور يدور حولها الشك دون أن تجد لها إجابات شافية أو قاطعة، ولذا فإن معظم ما كان يصدر بشأنها كان مجرد انطباعات وآراء تقوم على الظن والتخمين، كما هو الحال مثلا بالنسبة للتساؤل عن إمكان ردم الفجوة بين الذين يملكون والذين لايملكون، وهل زيادة التواصل بين شعوب العالم من جهة ومختلف القطاعات والفئات والطبقات داخل المجتمع الواحد من الجهة الأخرى، يمكن أن تؤدى إلى تحدى الحكومات والتمرد على الصفوة الحاكمة؟ وهل سيؤدى استفحال التوجهات نحو التدين إلى نشوب صراعات داخلية وعلى مستوى العالم؟ وهل سيزداد أم يتناقص عدد الدول النووية؟ وهل يمكن أن يختفى ويزول التنازع والتنافس بين الدول الكبرى، على الموارد الطبيعية، وبخاصة تلك التى توجد بوفرة فى مجتمعات العالم الثالث؟ وهل سيؤدى التقدم التكنولوجى إلى قيام مشكلات أخلاقية؟.. وما إلى ذلك. بل إن غياب اليقين قد يؤدى إلى غموض الموقف إزاء بعض الأمور الحياتية اليومية، ونوعية العلاقات التى يمكن أن تقوم بين الدول، مما يجعل من الصعب اتخاذ قرارات سياسية نهائية وحاسمة، وإنما هى مجرد سيناريوهات محتملة تقوم على افتراضات قد تتحقق أو تفشل دون أن يكون هناك على وجه اليقين ما يعزز أيا منها ويجعل منها أمرًا محتومًا لا مفر من أن يتحقق على أرض الواقع.

          وربما كان أفضل مثال يمكن الاستشهاد به فى هذا الصدد ويعطى فكرة واضحة عن مدى غياب اليقين وما ينجم عن ذلك الغياب من اضطراب وعدم وضوح الرؤية فى العلاقات الدولية هو ما يثار من تساؤلات حول نهضة الصين والهند وهل ستتحقق بطريقة سهلة وميسرة ودون متاعب؟ وهل سيسمح النظام العالمى القائم الآن بظهور قوى جديدة مؤثرة؟ فهذه كلها أمور لا تجد لها إجابات نهائية أو رأيًا واحدًا مقررًا ومؤكدًا ويقينيًا، وإنما يقف العالم إزاءها موقف العاجز الذى تتنازعه جميع الاحتمالات التى لايرقى أى منها إلى مستوى اليقين، وأن هذا الوضع سيكون هو العلامة المميزة للمستقبل.

          والواقع أن جانبًا كبيرًا مما يجرى الآن فى المؤتمرات والندوات عن المستقبل يدور حول البحث عن أفضل الطرق لتجنب الرؤى السلبية، التى تفتقر إلى المخيلة الإبداعية عن نوع المستقبل الخليق بأن يعيش الإنسان فيه، ونوع القيم التى يمكن الاطمئنان إليها كمبادئ إنسانية ثابتة يجب أن تسود فى مجتمع الغد، والوضع الإنسانى بشكل عام إزاء غياب اليقين عن كثير من شئون الحياة. فالملاحظ هو أن معظم الناس، بل وكثير من المنظمات والمؤسسات الكبرى لاتفكر بطريقة منهجية سليمة ومنطقية عن أشكال المستقبل، المحتملة أو المرتقبة وإن كانت هناك محاولات عشوائية لرسم خطوط عريضة لما يمكن أن يكون عليه المستقبل إذا أفلح الإنسان فى إيجاد وسائل فعالة تمكنه من توجيه الأحداث والتحكم فيها ولو بشكل جزئى . ولكن يبقى بعد ذلك التساؤل عن الوضع بالنسبة للعوامل والقوى التى لاتخضع لإرادة البشر، والتى كثيرًا ماتفاجئ الإنسان بأوضاع جديدة عليه تمامًا، لم يكن يدور بخلده إمكان وجودها، أو فداحة تأثيرها على مجرى الأمور كما هو الشأن بالنسبة للتغيرات المناخية التى يتعرض لها كوكب الأرض . كذلك يبقى هناك التساؤل الآخرعن مصير الجنس البشرى ككل، إزاء التقدم فى بعض جوانب العلم المتصلة بالتكوين الفيزيقى والبيولوجى والسيكولوجى للإنسان، وأثر ذلك على الحياة والعلاقات بين البشر، كما هو الشأن فى النتائج البعيدة المدى لعمليات الاستنساخ وبحوث الهندسة الوراثية . والخطير فى الأمر هنا هو أنه فى الوقت الذى يهتم فيه العلم بالتقدم المادى بشكل عام، يوجد نوع من إغفال - أو حتى إهدار - القيم الإنسانية المتعلقة بالكيان الآدمى، والتى يجب أن تؤخذ دائما فى الاعتبار على الرغم من عدم وجود شئ مؤكد على وجه اليقين عما ستكون عليه هذه القيم فى عالم الغد.

 

أحمد أبوزيد