فنون سينما نيكسون.. الرئيس العنيد والفيلم المؤلم

فنون سينما نيكسون.. الرئيس العنيد والفيلم المؤلم

من بعد سلسلة أفلامه السياسية الجادة مثل "مولود في الرابع من تموز"، "ج. ف. ك " وتلك الاجتماعية التي لا تقل حدة، مثل السماء والأرض و"The Doors"، يتقدم المخرج أوليفر ستون نحو الفيلم الذي يجسد - أكثر من أي فيلم آخر حققه - التاريخ الأمريكي الحديث وعلى نحو لم نشاهده في عمل سينمائي آخر قادم من هوليوود.

"نيكسون" دراسة في السياسة والنظام الأمريكيين في حقبة ريتشارد نيكسون ، الرئيس الأمريكي رقم 37 والوحيد الذي استقال من منصبه في تاريخ البلاد. كذلك فإن الفيلم عودة إلى ما يقض مضجع المخرج: الوضع الذي ساد الجبهة الداخلية للولايات المتحدة بينما كان الجنود الأمريكيون يحاولون تنفيذ أوامر البيت الأبيض بمقارعة الغول الشيوعي الفييتنامي.

"نيكسون" - الفيلم هو أيضا قراءة في شخص وحياة الرئيس نيكسون، كما في الظروف السياسية التي ساقته إلى الرئاسة، وتلك التي أحاطت به رئيسا حتى اضطراره للتخلي عن منصبه. لكن هذا وحده ليس كل شيء على الرغم من أنه إيجاز لخط سرده الرئيسي، فالفيلم أيضا عن الشخصيات الأخرى التي أحاطت بالرئيس من أمه وأبيه إلى هنري كيسنجر، وج. إدغار هوفر وألغر هيس. وعن حرب فييتنام والعلاقة الأمريكية- الصينية واغتيال كنيدي. إنه فيلم عن الفرد والأمة، عن العبث والكذب والفساد، كما عن الرغبة في الإصلاح من دون امتلاك الوسيلة لذلك، عن النظام فاسدا والذي يأكل كذلك الفاسدين فيه.

يبدأ الفيلم بالرئيس نيكسون وهو يستمع إلى أشرطة ووترجيت مؤسسا الشخصية من نهاية فترة حكمها عام 1974 ثم عائدا إلى فترات مختلفة من ماضيها عن طريق مشاهد فلاش باك طويلة. أحد هذه المشاهد يعود بنا إلى مطلع الخمسينيات عندما كان ريتشارد نيكسون صبيا لعائلة محافظة (تتبع مذهب ال.كواكرز الدينية). في يوم تضبطه أمه يكذب. تنهره وتحذره من عاقبة ذلك.

الحادثة لم تبرح مخيلة ريتشارد طوال حياته، بل ونرى أنه في نهاية المطاف، كيف أن الكذب هو الذي أودى في النهاية بحياة الرجل السياسية بعدما وضح أنه كان على علم بفضيحة ووترجيت. الأكثر أنه استخدم كلمات نابية بحق الأقليات حاول عندما ووجه بها شطبها من المحضر بصورة متوترة، ليكتشف أن عليه أن يشطب صفحات كاملة. هذا، إلى جانب خصال أخرى مما يؤدي إلى الكشف عن أن ذلك الرجل لم يكن أهلا للحياة الرئاسية في البيت الأبيض، وأنه نموذج للعبارة الشهيرة ماذا ينفع المرء إذا ربح العالم وخسر نفسه؟ التي أراد بها ستون أن يفتتح الفيلم لغاية تجسيدية واضحة.يسرد الفيلم أجزاء من تاريخ نيكسون السياسي. دخوله الكونجرس وهو في مطلع الثلاثينيات من عمره. تضلعه بمحاكمات المكارثية التي ساعدته على ولوج الحياة السياسية أكثر، وشكلت صورته على أساس أنه من المحافظين الأشداء (إن لم يكن بغباء جوزف ماكارثي نفسه كما يقترح الفيلم)، ثم وصوله إلى منصب نائب الرئيس أيام دوايت أيزنهاور.

لكن وسط فرحته، كان هناك انحسار في البيت الزوجي. زوجته (جوان آلن) تبدأ بالخشية على زوجها من انطلاقته المبكرة، وعلى زواجها من الانهيار تحت وطأة انشغال الزوج بمتطلبات السياسة.

هذا إلى جانب خسارته انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1960 أمام جون ف. كنيدي مما تسبب في فترة من تراجعه السياسي. لكن إذا ما كان فوز جون ف. كنيدي قد تسبب في عزلة نيكسون المحدودة، فإن اغتياله هو ما تسبب في إعادته إلى القمة حسبما يؤكد الفيلم. في ذات يوم اغتيال كنيدي، كان نيكسون يجتمع وعددا من اليمينيين المتعصبين والأثرياء الذين يعتبرون كنيدي جبانا وليبراليا يدعو إلى انخراط السود مع البيض في المدارس، ويهادن كاسترو والاتحاد السوفييتي. في ذلك الاجتماع أظهر هؤلاء لنيكسون المستمع بيقظة استعدادهم لدعمه إذا ما قرر ترشيح نفسه للرئاسة.

بعد موت كنيدي، يقرر خوض انتخابات الرئاسة ثانية مستندا إلى دعم هؤلاء وإلى دعم رئيس ال. إف بي آي إدغار هوفر (يؤديه بوب هوسكينز) الذي يعلن له مساندته له إذا ما سانده هو خلال فترة رئاسته. يقبل نيكسون تلك المساندات ويفوز بالمنصب.

وإذ تسلم نيكسون السلطة، واصل ما كان كنيدي في سبيل إيقافه: حرب فييتنام.

ستون الذي لا يكف عن الرجوع إلى تلك الحرب متألما ومؤلما، يجد هنا زاوية أخرى يطل منها عليها. إنها زاوية استعداد الرئيس لإلقاء القنبلة النووية على فييتنام الشمالية إذا ما اضطر لذلك، وإصداره الأوامر بخرق أجواء كمبوديا لمهاجمة هانوي ودك تحالفها مع الفييتكونج. لكن كل ذلك لم ينفع في كسب الحرب، ولا عزز من وحدة الصف الداخلية. على العكس، حكم نيكسون بلدا مزقته تلك الحرب إلى فئات وأهاجت الشعب عليه كما البوليس على الشعب متصديا للمظاهرات المندلعة.

اللقاء عند أعتاب لينكولن

هنا يستعين المخرج بمشهد (هو الواحد والسبعون في الفيلم) له وقع كابوسي وتأثير مهم على محاولة المخرج إيضاح شخصيته من الداخل والخارج:

سيارة الرئاسة تتوقف عند صب لينكولن فجر يوم ويخرج منها ريتشارد نيكسون، كما يؤديه الممثل البريطاني أنطوني هوبكنز. العتبات العريضة التي تؤدي إلى تمثال لينكولن في أعلى البناء، مليئة بالمتظاهرين الشبان والشابات الذين قضوا ليلتهم نائمين هناك. كانوا قد اتخذوا من المكان مأوى لهم منذ أن بدأت احتجاجاتهم ضد الحرب الفييتنامية. نيكسون يصعد الدرج ببطء، برغم ذلك يتعثر بحاجيات النائمين. ريثما وصل إلى قمة السلم، كان بضعة من هؤلاء المتظاهرين قد صحوا وتعرفوا على الرئيس وسريعا ما أحاطوا به.

في سيناريو نيكسون كما كتبه ج. ريفل وكريستوفر ويلكنسون وأوليفر ستون، يصف الكتاب المشهد ب. السريالية. والمخرج ستون يحرص على تصويره كذلك، بل وإضافة الحس والمظهر الكابوسي له. نيكسون بلا حرس ولا مرافقين (باستثناء سائقه) ينفرد بلقاء مع فئة من الشباب الليبراليين الذين يدعون لإنهاء الحرب، عكس الدعوة التي اندفع لها الرئيس بحماس موسعا نطاق الحرب، ومؤمنا بأن الطريق الوحيد لإنهائها هي القوة العسكرية حتى. كما نعلم من مشهد آخر. لو أدى الأمر لاستخدام القنبلة النووية.

إذ يتحلق حول نيكسون الشباب، يعمد المخرج لكشف جانب آخر من شخصية الرئيس: عدم قدرته على التواصل مع الآخرين حتى ولو سعى. كما نراه يفعل هنا - لذلك - يبدأ الحديث عن كرة القدم ويحاول إثارة بعض الضحك قائلا إنه كان لاعبا لحين، حيث كانوا بالطبع يستخدمونني كدمية لشل حركة اللاعبين.

لكن محاولته لا تنجح. فتاة تنبري بصرامة لتخبره بأنهم هنا للحديث عن الحرب. وهو يرد مؤكدا أنه يفهمهم بعضكم يعتقد أنني سيىء. لكني أفهم كيف تشعرون. حقا أفعل. أريد السلام أيضا، لكن سلاما مع شرف. حينما يسألونه: كيف يكون ذلك يرد بأنه سلام حتى ولو مات في سبيله البعض.

لا شيء من هذا ولا شيء من كلمته المطولة حول المشاكل المشابهة التي واجهها لينكولن، وحول حياته ونشأته هو، وكيف كان يطرح على نفسه أسئلة مشابهة حين كان في مثل أعمارهم عني الكثير. وإذ يهرع الحرس الشخصي الذي تم الاتصال بهم ليحيطوه ويعيدوه إلى سيارته، ندرك كم أخفق هذا الرئيس، بخلاف كل الرؤساء الآخرين (باستثناء ليندون جونسون، ربما) في الوصول إلى الشعب والتواصل معهم.

صورة داكنة

ما يسعى إليه أوليفر ستون هو تقديم شخصية معقدة من أساس نشأتها المحافظة. شخصية افتقدت حنانا مباشرا ووجدت نفسها تسعى دوما لإرضاء الأب والأم، كل بميله المختلف. عندما كبر نيكسون لازمته تلك الحاجة للحنان والسعي للإرضاء، لكنه لم يعرف لا كيف يكسب الحنان ويبادله بالمثل، ولا كيف يرضي الناس بدءا بزوجته وانتهاء بكل الشعب الأمريكي.

الصورة التي يرسمها المخرج حول نيكسون داكنة خصوصا عندما يذهب إلى حد ولوج فضيحة ووترجيت ومحاولات الرئيس المخفقة في التستر عليها حتى إذعانه لضرورة تخليه عن الرئاسة.

الفيلم، على دكانته، يفتح المجال أمام نقاشات سياسية وفنية عديدة. إنه لا يحفل بتشييد جو خاص من هيمنة الصورة على الموضوع، لأن الموضوع مهيمن ولا حاجة للمزايدة عليه. لكنه يقدم على تصوير مشاهد كثيرة بالأبيض والأسود أو بكاميرا مائلة قليلا. الحاجة هنا تكمن في أعماق المخرج. كذلك القدرة على تفسير السبب في ذلك، لكن ما هو واضح هو أن المخرج يرى في الأبيض والأسود صورا شعاعية يبحر فيها داخل عقل وباطن الشخصيات المعرضة.

وتمثيل أنطوني هوبكنز بديع. ربما تخونه الدقة وتفاصيل ناتجة عن عدم التشابه، لكن الرجل لا يخفق في تقريب صورته إلى صورة الشخصية التي يمثلها حتى تحاكيها على أقرب وجه ممكن. كل الأداءات الأخرى ممتازة وبعضها كان عليه أن يضبط لكي يستطيع المخرج توحيد الجهد التمثيلي ضمن مظلة واحدة. كذلك فإن العناصر الإنتاجية الأخرى (التصوير، التوليف، الديكور، إلخ..) تعمل على ذات النسق المتلاحم بغية إنجاح التجربة ككل.

***

تعليق على كلام:
السينما العربية موجودة أو معدومة ؟

السينما العربية موجودة أو معدومة في العدد الأخير من مجلة "ألف"، التي تصدرها الجمعية الأمريكية في مصر، ومن بين المواضيع المتعددة التي طرحها العدد ضمن ملفه الخاص بالسينما العربية، مقابلة مع المخرج السوري محمد ملص ("أحلام مدينة"، "الليل") يتحدث فيها عن أفلامه ونفسه والسينما بشكل عام.

ما يستوقف المرء هو ذلك الرد على أحد الأسئلة الذي ينفي فيه المخرج وجود سينما عربية. يقول: "المشكلة الجوهرية، أنني لا أعتقد أن هناك سينما عربية على الإطلاق، والمحاولات المتناثرة والمتباعدة والقليلة - لأسباب حضارية وسياسية - لم تتمكن من صياغة شيء يمكن تسميته "سينما عربية" (...) وإنما هناك أفلام عربية في بلدان عربية.." ويمضي السينمائي المعروف في شرح ما يقصده متعرضا لأوضاع السينما في أكثر من دولة عربية وللحال الإنتاجي ضمن مختلف الأنظمة. لكن كل ذلك لا يؤكد أو ينفي وجود سينما عربية.

في الحقيقة، أن المنظور هو الذي يندفع للتحديد هنا. منظور المخرج إلى فنية السينما مثلا، أو إلى مقوماتها اللغوية، متوقعا أن يكون ذلك شرطا هندسيا لبناء السينما العربية. ومع أنه يتعرض لأنظمة الإنتاج ولأنظمة الحكومات وتوليها السينما، فإنه لا شيء هنا يمنع من أن تكنى السينما العربية بهذه المجموعة من الدول ذات اللغة الواحدة والثقافة الواحدة.

صحيح أن هناك أفلاما مغربية أكثر مما هناك سينما مغربية مثلا، لكن مجموع هذه الأفلام مع مجموع الأفلام التونسية أو اللبنانية أو الكويتية والمصرية والسورية بالتأكيد يخلق محفلا لسينما لا يمكن تسميتها إلا بالعربية. والحال الإنتاجي في أكثر من دولة أوربية هو مشابه للحال في الدول العربية، لكن ذلك لم يمنع من اقتناع الأوربيين بأن لديهم سينما أوربية مختلفة، بطبائعها وشخصياتها وثقافتها عن السينما الأخرى. بل لم يمنع البلجيكيين مثلا أو البولنديين أو السويسريين من الحديث دوما عن سينماتهم المحلية.

ولعل الأوان قد آن لكي ننظر إلى الأمور واقعيا ونبتعد عن ذلك النوع من التحليل الذي يحاول، ولو من باب التواضع الجم، خلع كل شيء تاريخا وحاضرا وثقافة.

***

وراء الكاميرا
مارتن سكورسيزي: ربما الهالة تضمحل

خلال عشرين سنة، تعلمنا أن مارتن سكورسيزي مخرج كبير وسينمائي قدير. هل يمكن أن نلغي "سائق التاكسي" بصوره الحادة من البال؟ هل يمكن أن ننسى "الثور الهائج" و"كايب فير" و"صحبة جيدة" و"لون المال" و"ملك الكوميديا"؟
الجواب في مطلع النصف الثاني من التسعينيات: نعم. ليس لأن التسعينيات ذات دور فعال في فتح العين على الحقيقة.

وليس هذا الناقد فجأة ما اكتشف سرا يقلب الصورة رأسا على عقب، بل لأن المسألة كانت في الأساس - لدى بعضنا - اعتقادا بأن ما نراه هو مجال فني متقدم لم يصل إليه آخرون في السينما الأمريكية، ولدى البعض الآخر كانت تشبها بالنقد الغربي، أو معظمه على الأقل، وبالنسبة لقليلين منا، كانت موقفا مناقضا لم يشأ أحد أن يصدقه حينها. لكن لنلاحظ معا حقيقة ما وقف عندها معظم النقاد، شرقا وغربا، بالتقدير من أفلام سكورسيزي خلال السنوات العشرين الماضية أو نحوها:
"بوكسكار برتا" (1973) لم يزد عن كونه فيلما مقلدا لموجة العصابات الريفية آنذاك.

"شوارع منحطة" (1974) أساسه معايشة الواقع لكن انظر إليه اليوم. هل تجد فيه فنا؟
"سائق التاكسي" (1977) فوضى مركبة حول رجل يبدو موقفه أخلاقيا لكن فعله خطأ. أين الغاية؟.
"الثور الهائج" (1983) هذا أكثر أفلام سكورسيزي نجاحا بين النقاد، لكن هل تصوير وحشة ووحشية رجل مذنب له ما يبرره مادام تصويرا لا يقصد به إدانته؟
"ملك الكوميديا" (1985) أجواء مصنوعة ثم متهاوية في محاولة لفرض وضع كوميدي غير ناجح.
"بعد الدوام (1986) مثير للاهتمام، فاقد جدواه ومعاد للمرأة.لون المال (1988) كل كرات طاولة البليارد تصيب أهدافها، لكن تمعن إذا ما كان الفيلم يصيب أي هدف.

"صحبة جيدة" (1992) عنيف جدا لكن ما الهدف من عنفه؟ ثم أليس هناك نصف ساعة أخيرة يفقد الفيلم فيها طريقه وإيقاعه؟ كايب فير (1993) تكفي مقارنة نسخة سكورسيزي بنسخة 1959 من ذات الفيلم التي أخرجها ج. لي تومسون لتكتشف جانبا من الهالة الأكبر حجما من الحقيقة.

"عصر البراءة" (1994) هل شاهدت فيلما بمثل ذلك النفس الممطوط والممل؟
الآن، هناك "كازينو"، عودة سكورسيزي إلى سينما العصابات. الفيلم مثير للاهتمام، كغالبية أفلامه، مثير الشخصيات، كغالبية أفلامه، لكنك ستشعر بالبرودة تجاهه ككل وستتساءل عن جدواه.. كغالبية أفلامه.

 

محمد رضا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أنتوني هوبكنز يراجع دوره مع مخرج الفيلم أوليفر ستون





محمد ملص مخرج أحلام مدينة الليل





مارتن سكورسيزي