الليشمانيا.. داءُ الجِلد والفَم والأحْشاء

 الليشمانيا.. داءُ الجِلد والفَم والأحْشاء
        

          حشرة صغيرة لايتجاوز جسمها ثُلُث حجم بعوضة، لا تصدر صوتًا عند طيرانها، تنهال لَدْغًا على من يزعجها وقت راحتها، مولعة بالتغذية على دماء بني البشر وبعض أنواع الحيوان حين تَعُمُّ الظُلمة وتعتدل الحرارة. تلك هي ذبابة الرَمْل الناقلة لأمراض الليشمانيا المفزعة التي بدأت تشد الانتباه أخيرًا خاصة أن انتشارها يتسع في المنطقة العربية.

          الليشمانيا Leishmaniasis مرض طفيلي ينتشر بلدغة ذبابة الرمل أو "الذبابة القاصدة" المَعْدُوَّة بالطفيل المسبب. وتوجد صور مختلفة للمرض، أكثرها شيوعا الليشمانيا الجلدية التي تتسبب في حدوث قروح جلدية، والليشمانيا الأحشائية التي تؤثر في أعضاء داخلية بالجسم وخاصة الكبد والطحال، إلى جانب الليشمانيا المخاطية التي تصيب الجلد والفم والأنف.

          وتعود تسمية المرض إلى العالِم ليشمان Leishman الذي اكتَشف أحد أنواع ذلك الطفيل المجهري المنتمي إلى البروتوزوا السوطية في العام 1900، وذلك في مَسحات طحال أُخِذَت من جندي تُوُفي بالحمى في الهند. وقد نُشرت ملاحظات ليشمان في العام 1903 وهو العام  نفسه الذي وَجَد فيه العالِم كارلِس دونوفان Charles Donovan الطفيل أيضا في الطحال.

          وتتسبب الليشمانيا الجلدية عن نوعي الطفيل: ليشمانيا تروبيكا L. tropica وليشمانيا ميجور L. major، وتنقلهما أنواع ذبابة الرَمْل من جنس فليبوتوماس Phlebotomus. وتتميز الإصابة الأولية بظهور بثرة حمراء صغيرة على الجلد مكان اللّدغ والتي تُخَبّأ تطور قرحة تحتها. وتوجد عادة قرحة أو أكثر على الجلد، تتكون خلال بضعة أسابيع من العَدْوَى قد تطول إلى بضعة شهور. ويمكن لتلك القروح - التي عادة ما تكون غير مؤلمة - أن تتغير في شكلها ومظهرها بمرور الوقت، وتنتهي بشكل يشبه البركان بحافة مرتفعة وفوهة مركزية، ويتغطى بعضها بقشور. وتتكون لدى بعض المصابين غدد منتفخة بالقرب من القروح (تحت الذراع مثلا إذا كانت القروح على الذراع أو اليد).

          أما الليشمانيا الأحشائية فيسببها نوع الطفيل ليشمانيا دونوفيL. donovi، وتنتقل بصفة رئيسية بواسطة ذبابة الرمل من جنس فليبوتوماس، وفي أمريكا الجنوبية بواسطة جنس الذبابة لوتزوميا Lutzomyia. وتتراوح فترة تحضين المرض بين 10 أيام وعام كامل (عادة حتى 2-4 شهور)، وتبدأ أعراضها عادة بحمى خفيفة مع بعض التوعك ثم تتطور إلى أنيميا وفقد في الوزن وتضخم في الطحال والكبد، وعادة ما يتجاوز حجم الطحال حجم الكبد. ويتكون لدى بعض المرضى غدد منتفخة. وتُظهر صورة الدم عادة انخفاضا في عَدَّات الدم شاملة نوعي كرات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية. وتشمل الأعراض العامة بروز البطن (نتيجة تضخم الكبد والطحال)، كما قد تمتد إلى الاستسقاء بالوجه ونزيف في الأغشية المخاطية إلى جانب صعوبة التنفس والإسهال.

          وتتسبب الليشمانيا المخاطية عن نوعي الطفيل: ليشمانيا برازيلينسس L. braziliensis وليشمانيا مكسيكانا L. mexicana، وتنتقل بواسطة جنس الذبابة لوتزوميا. وتتشابه دورة الحياة مع الأنواع الأخرى لليشمانيا من حيث وجود قروح على الجلد، لكن تشمل العَدْوَى الثانوية الأغشية المخاطية للأنف والتجويف الفمي. وقد تتسبب القروح في تشويه حاد للشفتين والأنف والأحبال الصوتية. وقد تؤدي إلى الوفاة نتيجة العَدْوَى الثانوية.

خطر ما بين الغَسَق والفجر

          إناث ذبابة الرمل من جنس فليبوتوماس هي التي تتغذى على الدم، أما الذكور فتتغذى على رحيق النباتات. وحين تغذية الإناث على العائل الفقري المصاب، فإنها تسحب الدم بما به من خلايا بَلْعَمِيّة macrophages (أولى خطوط الدفاع المناعي في العائل) مَعْدِيِّة. وبذا تحدث العَدْوَى للذباب أولاً خلال لدغ إنسان أو حيوان (فأر أو كلب مثلا) مصاب. ونظرا لأن تلك الحشرة لا تحدث صوتا خلال طيرانها فقد لا يدرك الناس وجودها، كما قد يكون من العسير رؤيتها نظرا لصغر حجمها. وتنشط الحشرة بشدة في فترة الغَسَق وخلال المساء وساعات الليل. ويقل نشاط الذبابة خلال الأوقات الحارة من النهار، وعلى الرغم من ذلك فإنها تَلْدَغ إذا ما أثيرت لسبب ما، مثلما يحدث عند هز فروع الأشجار التي تستكين عليها الحشرة للراحة، وذلك عند السير بين تلك الأشجار.

          والأفراد من جميع الأعمار معرضون للإصابة بالمرض إذا ما كانوا يعيشون في مناطق موبوءة أو مسافرين إليها، وهي أكثر شيوعا بالمناطق الريفية عن الحضرية. ونظرا لطبيعة الطيران المنخفض لذبابة الرمل، فإن الأطفال عادة أكثر عرضة للّدغ خاصة في وجوههم وكذلك أذرع الكبار. ونادرا ما ينتقل المرض من أمّ حامل إلى وليدها، ولكن ينتقل أيضا خلال عملية نقل الدم أو الإبر الملوثة.

دورات عجيبة متنوعة

          بجانب الانسان، تُعْدِي عدة أنواع من جنس ليشمانيا كثيرًا من الفقريات الأخرى شاملة الكلاب والقوارض كالفئران والجرابيع. وتتضمن دورة الحياة عائلاً فقريًا (إنسان مثلا)، وناقلاً (ذبابة الرمل) يقوم بنقل الطفيل بين العوائل الفقرية. وفي الناقل يتخذ الطفيل شكلا خاصا يعرف بالبروماستيجوت promastigote الذي يتكاثر جنسيا في أحشاء الناقل، إلى الدرجة التي يملأ عندها أحيانا خرطوم التغذية. وحين لدغ الناقل للعائل الفقري يُحقَن طور البروماستيجوت داخل العائل، ويُعتقد أن هذا يتم خلال محاولة الذبابة التخلص مما بخرطومها داخل العائل لتسهيل عملية التغذية. يتبع ذلك دخول الطور المذكور إلى خلايا العائل ثم تغيره إلى طور يعرف بالأماستيجوت amastigote الذي يتكاثر بدوره داخل خلايا العائل. وحين موت تلك الخلايا في النهاية تنطلق جموع الأماستيجوت وتُعْدِي خلايا أخرى. ويظهر المرض على العائل الفقري كنتيجة لقتل جموع الأماستيجوت للخلايا.

          وقد لا تنتشر جموع الأماستيجوت أبعد من موضع اللّدغ، ويحدث هذا في الليشمانيا الجلدية (التي تعرف أيضا بالقرحة الشرقية، قرحة حَلَب، قرحة أريحا Jericho، قرحة ديلي Dehli) والتي غالبا ما تندمل من تلقاء نفسها. وقد تنتشر إلى أعضاء أحشائية بالعائل (كالكبد والطحال وكذلك العقد الليمفاوية والأمعاء ونخاع العظام) كما هو الحال في الليشمانيا الأحشائية (تعرف عادة بأسماء محلية منها حمى كالا-اذار Kala-azar أو حمى دَم-دَم Dum-Dum)، أو إلى الأغشية المخاطية بالفم والأنف مسببة الليشمانيا المخاطية (تعرف بإسبنديا espundia أو أوتا uta). وإذا ما ترك النوعان الأخيران من الليشمانيا (الأحشائية أو المخاطية) دون علاج فإنهما قد يفضيان إلى الموت.

350 مليون نسمة في المواجهة

          تشير الإحصاءات الحديثة إلى أن عدد الحالات المصابة الجديدة بالعالَم كل عام حوالي مليون ونصف المليون لليشمانيا الجلدية، ونصف مليون لليشمانيا الأحشائية. وتوجد الليشمانيا حاليا في بعض أنحاء 88 دولة في العالم، حيث يعيش نحو 350 مليون نسمة في تلك المناطق. ومعظم تلك الدول توجد في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، ويتراوح مداها بين الغابات المطيرة بأمريكا الوسطى إلى مناطق الصحارى في آسيا الغربية.

          وينتشر طفيل ليشمانيا الجلد من نوع ميجور بشمال إفريقيا والشرق الأوسط والهند الغربية والسودان، والنوع تروبيكا في إثيوبيا والهند ومنطقة الشرق الاوسط الأوربية والشرق الأوسط وكينيا وشمال إفريقيا وأمريكا الوسطى والجنوبية. أما الليشمانيا الأحشائية فتوجد في أمريكا الجنوبية خاصة البرازيل، وبالعالم القديم: في دول الشرق أوسط الأوربية وشمال شرق إفريقيا والهند والصين. ويوجد أكثر من 90% من حالات الليشمانيا الأحشائية في الهند وبنجلاديش ونيبال والسودان والبرازيل. كما توجد الليشمانيا المخاطية بأمريكا الوسطى والجنوبية.

          ونظرة سريعة على عالمية الانتشار، يتبين وجود أمراض الليشمانيا في الأنحاء التالية: المكسيك، أمريكا الوسطى والجنوبية، من شمال الأرجنتين حتى جنوب تكساس (لا توجد في أوروجواي وشيلي وكندا)، جنوب أوربا، شمال وشرق وغرب آسيا، الشرق الأوسط، إفريقيا (خاصة شمال وشرق إفريقيا مع بعض الحالات في مناطق أخرى). ولا توجد الليشمانيا في أستراليا أو أوشينيا (جزر بالباسفيكي تشمل مالينيزيا وميكرونيزيا وبولونيزيا). وفي الولايات المتحدة نادرا للغاية ما يحدث بعض إصابة بالنوع الجلدي للقاطنين بالمناطق الريفية لجنوب تكساس، ولم تسجل أية حالة على الإطلاق بالنوع الأحشائي بالولايات المتحدة.

          وتوجد بعض أنواع الليشمانيا الجلدية في منطقة شرق البحر المتوسط شاملة إيران والعراق. كذلك بفلسطين المحتلة حيث سُجِّلت 95 حالة منها 24 بسكان طبرية في العام 2003 (زادت بمعدل 150% في العام 2003 مقارنة بالعام 2002. وكانت أعلى زيادة في مناطق طبرية حيث سَجَّلت وزارة الصحة هناك 44 حالة في السنوات الخمس الأخيرة. وقد سَجَّلت إحدى المستشفيات بنهاية العام 2003 في عَفُولَة بفلسطين المحتلة 40 حالة منذ سبتمبر العام 2002  (وهي قيمة أعلى 10 مرات عن الأربع السابقة). وفي العراق سَجَّلت هيئات الصحة في العام 2001 (10.9 حالات ليشمانيا أحشائية لكل 100 ألف نسمة).

          ومن رحمة القدر عدم تفشي نوعي الليشمانيا الأشد خطورة (الأحشائية والمخاطية) في معظم مناطق بلادنا العربية.

العلم وتمييز المرض

          في النوع الجلدي قد تلتئم القرحة من تلقاء نفسها خلال شهرين إلى عام، إلا أن هذا قد يستغرق شهورا أو حتى أعواما، وقد تكون موضعا لعَدْوَى ثانوية تتسبب في حدوث تشوهات، وقد تترك القروح ندبا قبيحة المظهر. وعند عدم العلاج فإن العَدْوَى نادرا ما تنتشر إلى الأنف أو الفم (حيث يمكن حدوث ذلك ببعض طرز الطفيل الموجود في أمريكا الوسطى والجنوبية على وجه الخصوص). وعادة ما يكتسب الجسم مناعة ضد المرض بعد ذلك، ولكن قد يتكرر حدوث عَدْوَى النوع الجلدي للفرد أكثر من مرة.

          وتُشخَّص الليشمانيا الجلدية بالقروح، حيث تؤخذ منها عينات تفحص تحت المجهر لاستبيان وجود الطفيل بها باستخدام بيئات خاصة. وقد يكون مفيدا إجراء اختبار للدم لاكتشاف وجود الأجسام المضادة للطفيل (الاستجابة المناعية) خاصة في النوع الأحشائي. وتساعد طُرُق الإليزا ELISA أو طُرُق آي إف إيه IFA (طرق تحليلية تعتمد على عِلم المناعة) في تشخيص المرض، وإن صعب معها التعرف على توقيت الإصابة، كما توجد بعض المشكلات الأخرى في التشخيص تتعلق بتشابه أعراض المرض مع مثيلتها لبعض الأمراض الأخرى.

          ومن سوء الحظ، فإنه يستعصى غالبًا التمييز بين أنواع الطفيل، بل كثيرًا ما يحدث التباس عند محاولة التمييز. لذا فلا يعتمد تمييز الأنواع عموما على الشكل الظاهري للطفيل، ولكن على ظهور المرض وأعراضه، والعائل المصاب ومكان العَدْوَى به، وكذلك نوع الناقل. كما تُستخدَم وسائل بيوكيميائية ومَصْلِيّة لتمييز الأنواع.

نحو وقاية وعلاج آمن

          من البديهي أهمية اتباع سبل الوقاية بمناطق وجود المرض. وتُعدّ الحماية من لَدْغ الذباب الناقل بالمناطق الموبوءة أفضل وسيلة لوقاية المقيمين أو المسافرين إلى تلك المناطق، حيث لم تتوافر حتى الآن مع الأسف الأدوية أو اللقاحات لمنع المرض. ولخفض مخاطر اللّدغ يلزم : (1) المعيشة بمقار مَحْمِيّة بالسِلك المُثقب الضيق ومكيفة الهواء إن أمكن، وتجنب الأنشطة خارج المكان خاصة من الغَسَق حتى بعد الفجر، (2) حين الوجود خارج المقر تُرتدى قمصان طويلة الأكمام وبنطلونات وجوارب طويلة مع إدخال القميص في البنطلون، (3) تستخدم طاردات الحشرات على الأماكن العارية من الجلد وتحت نهايات الأكمام وأرجل البنطلون. (4) رش الملابس بمركب البيرميثرين حيث يعامل كل خمسة غسلات للملابس، (5) رش مقار المعيشة والنوم بمبيد حشري، (6) حال الاضطرار لقضاء الليل بمقر غير مَحْمِيّ بالسِلك تُستخدم حامية الأَسِرّة bed nets من شاش أو تُل أو ما شابه "ناموسية" والتي يمكن زيادة فاعليتها بنقعها في محلول البيرميثرين كل بضعة أسابيع. ومن المفضل الحصول على هذه الأشياء قبل السفر إلى تلك المناطق. وتُجرَى التجارب على قدم وساق حاليا لإنتاج لقاحات بأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط وإن نالت درجات متفاوتة من النجاح. ويتكون اللقاح المُرَشَّح حاليا من جموع البروماستيجوت المُضْعَف مع مركب بي سي جي BCG كمادة مساعدة ضد الليشمانيا الجلدية. كما تُجرَى تجارب إكلينيكية مكثّفَة بمرحلتها الثالثة الجديدة بالهند كعلاج جديد بالفم بديلا عن الأدوية الأخرى المتاحة حاليا والتي لأغلبها آثار جانبية حادة. كما تُجرَى الدراسات المستفيضة أيضا لتنشيط الخلايا البَلْعَميّة لكي تتمكن من قتل الطفيل، وذلك باستخدام بعض العقاقير التي تُحَفِّز من إنتاج بعض المواد التي تساعدها في ذلك.

          ولا تخفَى أهمية مكافحة ذبابة الرمل، ففي ستينيات القرن الماضي تَوقّف نقل مرض الليشمانيا الأحشائية تقريبا في الهند خلال فترات حملات مكافحة مرض الملاريا واستئصالها، وذلك بسبب متبقيات المبيدات التي استخدمت داخل الأبنية لمكافحة بعوض الأنوفيليس الناقل للملاريا، التي تسببت أيضا في القضاء على ذباب الرمل. وبعد انحسار تلك الحملات عادت ذبابة الرمل. وفي العام 1977 تم تسجيل 100 ألف حالة للّيشمانيا الأحشائية في ولاية بيهار. وعلى الرغم من وجود عوائل فقرية لبعض أنواع من الليشمانيا الأحشائية في بعض الدول كالهند، فإن بعض الدول الأخرى كالسودان وإثيوبيا بها هذه العوائل كبعض أنواع القوارض والقطط والرَبَّاح genet. لذا لا تخفَى أيضا أهمية مكافحة عوائل الطفيل الفَقَْرية البرية خاصة الفئران، والقطط والكلاب الضالة، حيثما وجدت.

حياتي دموعْ
وقلبٌ ولوعْ
وشوقٌ، وديوانُ شعرٍ وعودْ
حياتي، حياتي أسىً كلهّا
إذا ما تلاشى غدًا ظلُّها
سيبقى على الأرضِ منه صدى
يرددُ صوتي هنا منشدًا:
حياتي دموعْ
وقلب ولوعْ
وشوقٌ، وديوان شعرٍ وعودْ

فدوى طوقان

 

سيد عاشور أحمد   





قروح الليشمانيا إذا لم تعالج تبدأ تترك أثرًا مبكرًا





قروح الليشمانيا إذا لم تعالج تبدأ تترك أثرًا مبكرًا