قبو يوم القيامة .. أحمد الشربيني

قبو يوم القيامة .. أحمد الشربيني
        

ماذا سيحدث لو ارتطم نيزك عملاق بالأرض؟ أو أمعن البشر في حماقتهم وأشعلوا حربا نووية؟ أو أفضى تغير المناخ إلى وقوع كوارث بيئية واسعة النطاق؟ لا أحد يعلم بالضبط حجم الدمار الذي سيصيب حينها كوكبنا المنهك.

          لكن الأمر المؤكد أن كوارث كابوسية من هذا النوع والحجم ستزيل الكثير من أشكال الحياة من على الأرض. لكن ماذا يمكن أن نفعل حينها للتخفيف من تأثير هذه الكوارث؟ الإجابة جاءت من النرويج في مشروع أشبه بأفلام الخيال العلمي. في فيلم الخيال العلمي الشهير «الاصطدام العميق Deep Impact»، الذي أخرجه ميمي ليدر في العام 1998، تدور الأحداث حول خطر وشيك يهدد الحياة على كوكبنا مع اقتراب مذنب ضخم من الأرض.

          ومع اقتراب الخطر أكثر من الأرض، يعلن الرئيس الأمريكي، في الفيلم طبعا، بناء عدة كهوف محصنة في ميزوري ومناطق أخرى في الولايات المتحدة كإجراء احترازي. وتقوم الحكومة بإجراء يانصيب وطني لاختيار عشوائي لثمانمائة ألف مواطن أمريكي عادي للانضمام إلى مائتي ألف تم اختيارهم مسبقا من العلماء، والمهندسين، والمدرسين، والفنانين، والجنود.

          ويبدو أن التهديد بفناء الحضارة الإنسانية لم يعد مقتصرا على أفلام الخيال العلمي، بل بات أمرا واقعيا تماما. فالكارثة النووية يمكن أن تحدث ليس فقط بسبب حرب نووية، بل يكفي لإشعالها حادث عارض في ترسانة نووية ما.

          وتغير المناخ نشاهده بأعيننا يحدث بتراكم شديد البطء، لكن هذا التراكم سيصل، إذا استمرت الاتجاهات الحالية كما هي، إلى نقطة اللاعودة، وهي النقطة التي لن يجدي التدخل البشري عندها في إيقاف التغير. وإذا وصلنا إلى هذه النقطة، فستنطلق سلسلة جهنمية من الكوارث البيئية التي ستكفي واحدة منها فقط لإزالة الحياة من أجزاء واسعة من العالم، إن لم يكن من على كوكبنا كله.

          فانفصال الصفيحة الجليدية الغربية في القارة القطبية الجنوبية يمكن أن يؤدي حدوث هذا إلى ارتفاع مستوى البحار بنحو خمسة أمتار خلال بضع مئات من السنين, وإلى تقويض الصفيحة الجليدية الشرقية للقارة القطبية الجنوبية, التي تحتوي على كمية من المياه تكفي لرفع مستوى البحار خمسين مترا، وذوبان قمة جرينلاند الجليدية سيغمر مياه البحار والمحيطات العديد من التجمعات السكانية التي نعرفها اليوم، وإذا بدأت اليابسة في نفث الكربون وتجشؤ الميثان المختزنين في باطنها فسيحدث تسارع كارثي في الاحتباس الحراري ربما يقضي على فرص أي عصر جليدي آخر قبل نصف مليون عام.

سفينة نوح

          يبدو أن هذه المخاوف، إلى جانب أهداف علمية أخرى، كانت وراء قرار الحكومة النرويجية البدء في مشروع دولي لتشييد قبو حصين في باطن جبل على جزيرة سفالبارد المعزولة في القطب الشمالي ليحتضن بنكا للبذور يضم عينات من بذور محاصيل كل البلدان. في فيلم «الاصطدام العميق»، يطلق على الكهف الذي سينقذ البشرية اسم «سفينة نوح»، بينما أطلق على المشروع النرويجي اسم مشابه هو «قبو يوم القيامة Doomsday vault»، ودلالة الاسمين واضحة.

          وقد صمم القبو ليكون قادرا على تحمل كوارث كونية مثل حرب نووية أو كارثة طبيعية. وبدأ بناء مشروع «قبو بذور سفالبارد الدولي» في مارس الماضي، ومن المقرر افتتاح بنك البذور في العام 2008. وسيتسع البنك حين اكتماله لتخزين ثلاثة ملايين عينة من البذور المختلفة.

بنك البذور

          وفي الوقت الذي ستتحمل الحكومة النرويجية فيه تكاليف المشروع، والبالغة خمسة ملايين دولار، فإن جمع العينات وصيانتها ستكون مسئولية الصندوق العالمي لتنوع المحاصيل Global Crop Diversity Trust ، وهو صندوق عالمي هدفه ضمان «الحفاظ على تنوع المحاصيل إلى الأبد».

          ويقول جيوف هوتين المسئول في الصندوق: «ما سيدخل إلى القبو هو عينة من الأنواع المحفوظة حاليا في مجموعات في مختلف أنحاء العالم».

          ويوجد حاليا نجو 1400 بنك للبذور في مختلف دول العالم، لكن العديد من هذه البنوك موجود في بلدان إما غير مستقرة سياسيا أو تواجه تهديدات بسبب البيئة الطبيعية. ويضيف هوتين: «ما نحاول القيام به هو بناء دعم لهذه البنوك، وبالتالي فإن عينة من كل مادة جينية في هذه البنوك ستوضع في بنك البذور في سفالبارد».

في عمق الجبل

          وسيتم بناء القبو بعمق 120 مترا داخل جبل في جزيرة سبتسبورجن التي تشكل إحدى الجزر الأربعة المكونة لأرخبيل سفالبارد.

          ويقول د. كاري فاولر، المدير التنفيذي للصندوق العالمي لتنوع المحاصيل، إن الاختيار وقع على منطقة سفالبارد، التي تبعد عن اليابسة ألف كيلومتر شمال النرويج، لأنها نائية ومعزولة جدا وأيضا لكونها منطقة مستقرة تصلح لمشروع طويل الأمد من هذا النوع.

          ويضيف فاولر: «لقد دققنا إلى أبعد الحدود في المستقبل. دققنا في مستويات الإشعاع داخل الجبل، ودققنا في البنية الجيولوجية للمنطقة. كما وضعنا نماذج للتغيرات المناخية الحادة المرتقبة خلال المائتي سنة المقبلة، بما في ذلك ذوبان الصفائح الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي، وجرينلاند، حتى نضمن أن هذه المنطقة ستبقى فوق سطح الماء الناتج عن ذلك الذوبان».

          وسيحافظ التجمد السرمدي permafrost (الطبقة الدائمة التجمد في المناطق المتجمدة) على درجة حرارة القبو تحت درجة التجمد. وستحمي القبو جدران سميكة من الخرسانة المدعمة، وأبواب من الصلب وغرف عازلة للضغط الهوائي، ومجسات للحركة، فضلا عن الدببة القطبية التي تجول في الخارج - مما سيجعل المنشأة الأسمنتية المبنى الأكثر أمنا من نوعه في العالم.

فورت نوكس

          سيعمل قبو سفالبارد القطبي كبنك لشبكة بنوك البذور في سائر أنحاء العالم التي يمولها الصندوق العالمي لتنوع المحاصيل.  ويقول رئيس الوزراء النرويجي ينز ستولتنبرج: «يعد هذا المستودع ذا أهمية عالمية، إذ إنه سيكون الوحيد من نوعه، بينما بنوك الجينات الأخرى ذات طبيعة تجارية».

          ويقول د. فاولر إن جانبا من البذور التي تحتفظ بها هذه البنوك ستودع في بنك سفالبارد، الذي سيصبح «فورت كنوكس للزراعة».

          وفورت نوكس Fort Knox في ولاية كنتاكي هو موقع الخزانة الرئيسية لاحتياطي الذهب في الولايات المتحدة الأمريكية  من العام 1936 ويضم حوالي 147.3 مليون أوقية من الذهب، ويعد أكثر المباني حراسة في العالم.

          ورغم أن القبو صمم لحماية الأنواع من أحداث كارثية، فإنه سيستخدم أيضا لتعويض بنوك البذور الوطنية عن ضياع بذورها.

          ويقول فاولر: «أحد الأمثلة حدث في سبتمبر الماضي عندما ضرب تيفون الفليبين ودمر بنك البذور فيها. وقد جاء الإعصار بقدمين من المياه والطين إلى البنك. وهو آخر شيء تريده في بنك للبذور».

إلى الأبد

          عند إيداع البذور في القبو، سيتم تخزين العينات في ظل درجات حرارة دون الـ18 درجة مئوية تحت الصفر. أما مدة طول الزمن الذي تحتفظ فيه البذور المجمدة بقدرتها على النمو فيعتمد على نوعها.

          فبعض المحاصيل مثل البازلاء لا يصمد سوى 20-30 عاما. وبعضها الآخر، مثل دوار الشمس ومحاصيل الحبوب يمكنه البقاء لعقود، وربما لقرون، عديدة.

          لكن في نهاية المطاف ستفقد كل البذور قدرتها على النمو، وتموت. لكن قبل حدوث هذا، سيتم أخذ بضع بذور من العينة المخزنة لتزرع في بيئة مناسبة لتؤخذ بذورها ويعاد تخزينها في القبو. وهكذا يمكن الحفاظ على مجموعات البذور إلى الأبد، وهو هدف المشروع. وعندما يبدأ بنك البذور في العمل في سفالبارد، فإن المنشأة سيتم تشغيلها بأدنى تدخل بشري ممكن.

          ويقول د. فاولر: «سيذهب أحد الأشخاص إلى الداخل مرة سنويا ليتأكد من أن كل شيء على ما يرام، لكن لن يكون هناك موظفون دائمون».  ويضيف: «إذا صممت منشأة لتستخدم في أسوأ السيناريوهات، فإنه لا يسعك أن تعتمد حينها على تدخل بشري مكثف».

          وبالإمكان أن تستمر الحبوب دون تلف في المستودع لمئات السنين، بل ربما لآلاف السنين. وحتى إذا تعطلت جميع أنظمة التبريد فإن درجة الحرارة في الجبل المتجمد لن ترتفع أبدا فوق درجة التجمد في تلك الجزر القطبية.

فقدان التنوع الحيوي

          يعتبر فقدان التنوع الحيوي أحد المخاوف البيئية الرئيسية. وتنبع أهمية هذا المشروع الفريد من أن اختفاء الأنواع النباتية يحدث في الطبيعة لأسباب مختلفة، ولا يحتاج الأمر إلى كارثة ما.

          ففي العام 1999، ظهر نوع جديد من فطريات صدأ الحنطة wheat rust الذي ينتقل هوائيا أدى إلى دمار 55 في المائة من محصول القطن. وسرعان ما انتقل إلى كينيا وإثيوبيا في العام 2003، وهو الآن خرج من إفريقيا وأخذ يجتاح جنوبي آسيا. وتفيد آخر التقارير أن هذا الفطر ظهر في المناطق الساحلية في باكستان وبات يهدد محصول القمح في الهند الذي يقدر بنحو 21.6 مليون طن. ومن أجل تطوير التنويعات المقاومة، احتاج العلماء إلى الوصول إلى كل التنويعات الجينية للقمح. وقد عجزوا عن الوصول إلى بعضها. لكنهم وجدوها في نهاية المطاف في بنك لبذور الأنواع المهددة في معهد فافيلوف في روسيا، ومن بينها أنواع تنمو في أواسط آسيا والقوقاز، بعضها لم يعد موجودا حتى في موطنه الأصلي.

          ومن هنا فإن قبو سفالبارد وبنوك البذور الأخرى الموزعة حول العالم ستضمن أن نجد هذه الأنواع عندما سنحتاج إليها. ومن دونها ستجيء لحظة لن يقف فيها شيء بين البشرية والمجاعة.

 

أحمد الشربيني   





قبو حصين سيضم عينات من بذور محاصيل كل البلدان





الظروف المناخية في القطب الشمالي ستساعد على حفظ البذور





حفظ البذور داخل القبو لن يحتاج إلى تدخل بشري يذكر





قمح إفريقيا وآسيا يهدده نوع جديد من فطريات صدأ الحنطة





انفصال الصفيحة الجليدية الغربية في القارة القطبية الجنوبية يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع مستوى البحار بنحو خمسة أمتار