مراجعات خلدونية متجددة

مراجعات خلدونية متجددة
        

          سررت مما كتبه الأكاديمي الدكتور محمد جابر الأنصاري في «العربي» العدد (574) سبتمبر 2006 ضمن (منتدى الحوار) ردًا على مقالي السابق في «العربي» العدد (571) يونيو 2006. إنني أترحّم على روح ابن خلدون، التي جمعتنا على مائدة «العربي» السخيّة. سررت لأنه تبيّن لي أننا أصبحنا متفقين في كثير من النقاط حول ملف «ابن خلدون» الذي نشر في «العربي» العدد 561 / 2005. وبقيت نقاط أخرى قابلة للحوار، وسأذكر بإيجاز المهم منها حسب تسلسل مقاله الذي يبدو فيه جامح الأفكار، ناظرًا من زاوية واحدة، مثيرًا لموضوعات جانبية متداولة بين مثقفينا منذ أمد، وكذلك بين علمائنا وبعض المستشرقين، وسأذكر الأدلة.

أ- نقاط الاتفاق:

          1- كلانا يؤمن، مثل الجماهير الأخرى بقوة الإسلام العظيمة بما فيه من مبادئ كاملة وشاملة ومفيدة، وليس لديّ حساسية معينة تجاه الفكر لأنه قاصر عن مجاراة «الوحي السماوي» وليس لدي «خشية» إيمانية على مستقبل الإسلام. وقد أجاد د.الأنصاري في قوله عن الإسلام: «إنه ليس بإناء من زجاج هشّ نخاف عليه من الكسر»، ولكن ألا يحق لنا أن ندافع عن ثقافتنا، وهي حصينة، إذا هاجمها الآخرون وبيوتهم من زجاج هش؟! وإذا دافعنا نكون مغالين؟

          2 - أوافق د. الأنصاري في رأيه «في تفاعل مدارس الإسلام وحضارته مع مختلف أفكار الإغريق والفرس والهنود بلا خوف ولا وجل»، ولم يذكر نتيجة هذه التفاعلات المعروفة، وهي انتصار المفكرين المسلمين فيها. ورأيي في «عصر العولمة» سأذكره في «نقاط الاختلاف» لاحقًا.

          3- اتفقنا أيضًا على أن مصدر نظريات ابن خلدون هو القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولكنني لم أفعل فعلاً في ذلك، وفي الوقت نفسه، لم أذكر أنني قلّلت من عبقرية ابن خلدون، بل وضعته في مكانه الصحيح، فهو من نتاج بيئته وثقافته الإسلامية وتأملاته الخاصة المميزة.

ب- نقاط الاختلاف:

          أ- يذكر د. الأنصاري أننا  (نتهيأ لدخول العولمة بكل ما فيها من مستجدات لم تعتَدْها أي ديانة؟!) فهل الديانة الإسلامية مثل بقية الديانات في الضعف والنقص؟! وكان قد ذكر الأخ الفاضل أن إيمانه صلب!! إن مصير العولمة كمصير الفلسفات السابقة التي أخمدها الإسلام، والقنوات الفضائية تغص بصور المعارضين لها وأصواتهم في الشرق والغرب، وكذلك مقالات المفكّرين في تفنيدها في مجلة «العربي» وسواها.

          2- ذكر د. الأنصاري بأن «الإحياء النهضوي الحديث كان إحياء شعريًا أدبيًا...». نعم.. كان جزء منه كذلك، ولكن ماذا نقول عن جمال الدين الأفغاني في «خاطرته» وعبدالرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد»؟ والإمام محمد عبده في «تفسيره» وهو الذي قرر تدريس «المقدمة» في «الأزهر»؟ وسواهم كثير. وهل «دهشة» توفيق الحكيم في محلها؟ وقد صنّف صديقه طه حسين هو وجماعته كتابًا مدرسيًا سموه «المنتخب من أدب العرب» وهو يزيل «دهشة» توفيق الحكيم لو كان قد اطّلع عليه، وفيه نبذة من «المقدمة» ونصوص أخرى فكرية.

          كل هذا يدل على أن نهضتنا الحديثة قامت أيضًا على الفكر الذي لايزال في صعود وقوة في مختلف اتجاهاته الإسلامية والقومية والوطنية وسواها.

          وهل «ثقافة الشعر» لدينا لاتزال تسود ثقافتنا؟ وهل بقي من شعرنا أصلاً إلا «الشعر الحديث» الذي لا تستطيع في معظمه أن تتذوقه؟ أما التراث العقلي فهو على أنواع، منها المنطق و(الأمثال والحكم) والفلسفة. فأما المنطق والأمثال والحكم فبقيت مستمرة في ثقافتنا وثقافات الشعوب الأخرى، وإنما الذي أُهمل هو الفلسفة... لماذا؟ لأن الفلسفة متناقضة ومتبدّلة ولعدم جدواها. لم تُظلم وإنما أعطيت حقها في دورها المتأخر جدًا في سلم الأولويات الثقافية.

          3- قول ابن خلدون أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يُبعث لتعريف الطب) لا يدل على أن ابن خلدون ينكر الأمور العظيمة - وهو من كبار الفقهاء - وقد جاء بها الإسلام على لسان نبيّه من إرشاد الناس في شتى أمور حياتهم.

          إذن: شئون الدنيا ليست منفصلة ولا متميزة عن شئون الآخرة، وقوله عليه الصلاة والسلام: أنتم أعلم بشئون دنياكم . - قالها كبشر وليس كرسول، وهي من الأحاديث القليلة جدًا في هذا الباب، بينما الأحاديث النبوية الأخرى التي بلغت الآلاف في الموضوعات الآنفة الذكر قالها كرسول وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى . وهل يجوز لنا أمام الوقائع القليلة أن نعمّم في الأحكام مع وجود الوقائع الكثيرة التي تنقضها؟

          4 - في موضوع المستقبل لا خلاف مع د. الأنصاري إلا في التفاصيل، إن سنن الله تعالى أنارت لنا الطريق، ولكننا لا نعرف بالضبط متى ستتحقق وكيف؟ وهذا جهل في المستقبل أيضًا، وجهلنا أكبر في أمور حياتنا الأخرى مستقبلا... الرزق... الأجل... النجاح، مَن منا يستطيع أن يؤكد حدوثها تمامًا؟ وسنضيّع الوقت إن فكّرنا فيها طويلا، فلماذا لا نريح أنفسنا وقد علمنا أن عالم الغيب هو من أمر الله تعالى؟ وبذلك نتّبع توجيهات الله الحكيم أيضًا.

          نظرات علمية أيضًا: ذكر د. الأنصاري (العرب المعاصرون.. تسيطر عليهم الرومانسية / المثالية لتاريخهم الذي لا يتضمن حسب تصورهم غير الأمجاد)... هل كل العرب الآن كذلك؟ ألم يطالب بعض المثقفين بكتابة التاريخ من جديد؟ ألم نقرأ عند بعض المثقفين نقدًا معتدلاً أحيانًا وجارحًا أحيانًا؟ كل الشعوب لابد أن تعتز بتاريخها أمام أجيالها، ويوضّح علماؤها السلبيات أمام المثقفين برفق، وخاصة في الدراسات العليا. وليس التاريخ هو الأول في قيادة الشعوب، بل القيم والمبادئ الكبرى، فإذا تغيّرت القيم في قلوبها تغيّرت نظرة الشعوب إلى تاريخها وسلوكها السابقين.

          همسة ثانية: مضطر أن أعود إليها. فلفظ «أباريق وإستبرق وسواهما» كان لزامًا على العرب أن يستخدموها، فهم لم يصنعوا هذه الأشياء، كما أننا لانستطيع الآن أن نجد بديلا لأسماء طرز السيارات في اللغة العربية. بينما مصر لما أنشأت مصانع للسيارات في بلدها ألقت أسماء عربية على صناعتها مع أنها تقليد لطرز الغرب.

          «وإنّ فوضى الاقتباسات، تقلق الأخ»، فعلاً تقلقني كما ذكر د. محمد جابر الأنصاري في آخر مقاله ويقلقني أيضًا - كما يقلق الجماهير المثقفة - ما آلت إليه حال اللغة العربية على يد بعض أبنائها في الصحافة والأحاديث من هبوط في الأساليب وكثرة في «الرطانة»، وقريب منهم أعمال المجامع اللغوية العربية، التي وضعت بديلاً عربيًا لجميع ألفاظ العلوم والفنون، فما علينا إلا أن نطّلع عليها ونستخدمها، وأنا أقوم بواجبي في بيان ما أراه صوابًا لمنفعة الثقافة.

عثمان الحاج
حلب - سورية