استعادة جغرافية فلسطين المغّيبة.. د. سلمان أبو ستة

استعادة جغرافية فلسطين المغّيبة.. د. سلمان أبو ستة
        

فلسطين.. جرحنا الذي ينزف

          أين نحن من فلسطين الآن.. وأين هي منا؟ أمل يضيع، وطن يتبدد. وثغرة جديدة في الخريطة العربية. كنا نأمل أن يكون هذا الجرح النازف دافعًا للجسد العربي حتى ينهض وينتفض ويقاوم الألم والضعف والإنهاك والتخلف. ويستعيد فتوته، يستلهم تراثه القديم، وقيمه التي هدت البشرية، وقوته الذاتية المهدرة ويستعيد فلسطين حتى يستعيد نفسه ويستعيد الأمس واليوم والغد. إن «العربي» من خلال هذا الملف تعيد طرح أصداء هذه القضية التي لا تغيب، لعلها تستنهض داخلنا جميعًا روح التحدي والإصرار لتغيير هذا الواقع المؤلم.

«العربي»

          في يوليو 1949 وفي الأسبوع نفسه الذي وقّعت فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي آخر اتفاقية هدنة مع سورية، جمع بن جوريون فريقًا من بضع عشرة خبراء في الجغرافيا والمساحة والتاريخ والتوراة، وطلب منهم إتمام العملية الثالثة والأخيرة في حرب 1948 / 1949.

          العملية الأولى عسكرية بدأت في مارس 1948 وغرضها الغزو الصهيوني لفلسطين، وانتهت في مارس 1949 بعد أن احتلت إسرائيل 78% من فلسطين انطلاقًا من قواعد زرعتها في فلسطين بمساعدة الانتداب البريطاني في الفترة من (1920 - 1948)، ولم تكن تتجاوز مساحة الأرض اليهودية فيها 5% من مساحة فلسطين الكلية.

          وهكذا بالتنظيم الصهيوني المخطط له مسبقًا، وتفوق المحتلين على العرب في تلك الحرب عددا وعدة، وتفرق شمل العرب واختلاف قياداتهم، بل ومطامع بعضهم في فلسطين نفسها، تمكن الإسرائيليون من الاستيلاء على أربعة أخماس أرض فلسطين بالقوة العسكرية دون سند قانوني أو أخلاقي.

          أما العملية الثانية التي سارت جنبا إلى جنب مع العملية الأولى، واستمرت بعدها لفترة طويلة حتى يومنا هذا، فهي عملية التنظيف العرقي لأهل البلاد، وذلك بطرد الأهالي من ديارهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، بعد أن استولت على أرضهم. لقد هجّرت دولة الاحتلال الإسرائيلي أهالي 675 مدينة وقرية فلسطينية، واقترفت ما لا يقل عن 73 مذبحة ومثلها من الفظائع، ودمرت بيوت حوالي ثلثي القرى المهجّرة، وحرقت محصولاتهم وسممت آبارهم وقتلت فورا كل من حاول العودة إلى بيته ووصفته بالمتسلل.

          لقد اقترفت دولة الاحتلال الإسرائيلي كل جرائم الحرب الموصوفة في القانون الدولي، وذلك في أكبر وأنظم وأطول عملية تنظيف عرقي في التاريخ الحديث. ولا عجب إذن أن يسمى هذا الحدث الجلل «بالنكبة» في وجدان كل فلسطيني وعربي ومسلم. وفي ذكرى النكبة في مايو من كل عام يحتفل الإسرائيليون بما يسمونه «عيد الاستقلال»، أي إنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي على أنقاض فلسطين بعد الاستيلاء على الأرض وتفريغها من أهلها.

          لكن بن جوريون لم يكتف بذلك. كان يؤرقه أن هذه الأرض تشهد على تاريخ أهلها الذي يمتد إلى خمسة آلاف عام، شهادة مسجلة في أسماء مدنها وقراها، وأنهارها ووديانها، وآبارها وينابيعها، وهضابها وتلالها، ومروجها وكرومها وبساتينها، وقلاعها وحصونها، ومواضع أحداثها وانتصاراتها ونكباتها؛ من استشهاد زعيم إلى زفاف فتاة مشهود لها بالجمال إلى عثرة فرس قائد إلى «طوشة» بين قريتين انتهت بصلح. هذا عن العلامات البارزة في التاريخ العربي مثل حطين وعين جالوت وتل نابليون والقسطل (حيث استشهد عبدالقادر الحسيني).

          هذا الرصيد المعنوي الهائل وهذا التراث العريق وهذه الأصول الضاربة في عمق التاريخ هي أبجدية سيرة الشعب الفلسطيني وسجل أرشيفه الوطني. ولذلك رأى بن جوريون ضرورة إزالته حتى لا تواجهه أشباح الضحية ومعالم آثارها، حتى لو استولى على الأرض وطرد أصحابها وقتلهم.

          هذه هي العملية الثالثة التي ختم بها بن جوريون حرب 1948 وعام النكبة. لقد أمر بن جوريون ضباطه وخبراءه بمحو كل هذه الأسماء الفلسطينية سواء كانت عربية إسلامية أومسيحية أو ما قبل ذلك من كنعانية ويبوسية وعمورية وغيرها، واستبدالها بأسماء عبرية.

          بدأت اللجنة عملها ووضعت أسماء عبرية لكل هذه الأماكن وحاولت محاولة يائسة إعطاء مصداقية تاريخية لها فلم تنجح إلا في خمسة في المائة من الأسماء. أما باقي الأسماء فهي إما محّرفة أو مترجمة عن الاسم العربي.

          كان لا بد إذن من استعادة التاريخ المدفون، والجغرافيا المطموسة. وكان لا بد من البدء في مسيرة استمرت أكثر من عشر سنوات، وقبلها سنوات أخرى للاستكشاف وجمع الوثائق، لإصدار «أطلس فلسطين 1948».

          لم يكن الأمر صعبا من حيث المبدأ. ففلسطين دائما كانت مطمع المستعمرين والمستوطنين الأوربيين. وبينما كان الناس في بلاد العرب والمسلمين لا يحفلون كثيرا بتسجيل جغرافيتهم، عدا بعض الأعلام من الرحالة العرب، كان الغرب فيما بعد عصر النهضة يجوب البلاد والبحار يرسمها ليرفع علمه عليها.

          وعندما غزا نابليون بلاد الشام العام 1801 وتوقف عند عكا ثم نكص على عقبية كان من ضباطه مساح هو «جاكوتان»، الذي ترك لنا أول خريطة لفلسطين، رسمت على أساس علمي صحيح. وتبعه ضباط وجواسيس ومغامرون في القرن التاسع عشر من كل أوربا، رصدوا وسجلوا كل مكان في الأرض المقدسة، والغرض المعلن هو التحقق من صدق الكتاب المقدس جغرافيًا وتتبع خطوات السيد المسيح، لكنه تحول في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى هدف غير معلن هو الاستيلاء على فلسطين.

          ففي العام 1871 أرسلت بريطانيا بعثة مساحية إلى فلسطين عملت فيها 4 سنوات وفي لندن 4 سنوات أخرى لرصد النتائج، وأصدرت العام 1888، ما مجموعه 10 مجلدات عن قرى فلسطين وآثارها وطيورها ونباتاتها وعن القدس وكذلك 26 خريطة تفصيلية عن كل فلسطين.

          كانت هذه الخرائط ثروة لا تقدر بثمن, وأصبحت المصدر الأول للمعلومات الذي اعتمد عليه اللنبي عند بداية احتلاله فلسطين العام 1917.

          وعند احتلال الإنجليز لمصر العام 1882 استزادوا في السنوات التالية من الخرائط المساحية لتغطية جنوب فلسطين وسيناء وشرق الأردن، وطوروا مصلحة المساحة المصرية. ولا عجب أن الغزو البريطاني لفلسطين الذي انطلق من مصر قامت به ما سمي «بالحملة المصرية» Egyptian Expeditionary Force

          لكن سنوات الانتداب (1920 - 1948) كانت هي الفترة الحاسمة للتوثيق الجغرافي لفلسطين. وهو عمل، وإن لم يتم بمغادرة الإنجليز غير المشرفة لفلسطين العام 1948، فإنه يبقى أكبر وأهم سجل للملكية والأرض والناس في فلسطين.

توثيق فلسطين

          كان هناك اهتمام غير عادي للاستعمار الإنجليزي بتوثيق فلسطين. والسبب هو الإلحاح المستمر لـ«وايزمان»، بعد إعلان وعد بلفور مباشرة، على الحكومة البريطانية أن تسجل كل قطعة أرض في فلسطين واستعمالاتها ومالكها ومدى سلامة ملكية الأرض. والغرض هو تسهيل استيلاء حكومة الانتداب البريطانية على أية أرض في فلسطين لا يستطيع مالكها أن يثبت بالدليل المكتوب من العهد العثماني أنه صاحب الحق فيها، وبذلك تتحول هذه الأراضي للاستيطان الصهيوني حسب المادة السادسة من صك الانتداب. وحيث إن معظم الأراضي في فلسطين، مثلها مثل مصر وسورية، مملوكة إما بوثائق قديمة أو بمراسيم عثمانية أو بحكم العرف والعادة، والأخير هو الأغلب، فإن هذا فتح شهية الصهاينة للاستيلاء على مساحة كبيرة من الأراضي. لكنهم لم ينجحوا. ذلك أن مقاومة الشعب الفلسطيني وثوراته أبقت الغالبية الساحقة من الأراضي في أيد عربية، إلى أن استولى عليها الغزو الصهيوني عام 1948. ومن هنا فإن توثيق الحقوق في فلسطين أصبح مهمة وطنية بالغة الأهمية.

          وعلى الرغم من الرصيد الكبير لتوثيق فلسطين في بلدان الاستعمار الأوربي فإنه لم يكن معروفا أين هي الوثائق لكثرتها وتعدد أماكنها، ولا متاحا لباحث منفرد لا يحمل صلاحية رسمية يجبر بواسطتها الحكومات على فتح ملفاتها المغلقة.

          كان لابد إذن من البدء في مسيرة طويلة متأنية استغرقت عدة سنوات، شملت زيارة استانبول ولايبزج وميونخ وبرلين وباريس ونيويورك (الأمم المتحدة) وواشنطن والقدس، وأماكن عديدة في بريطانيا صاحبة الانتداب.

ميلاد الأطلس

          وبالطبع كانت هناك مشاكل عديدة. بعض المصادر أقفل الأبواب في وجه الباحث. وبعضها طلب أذونات رسمية لايمكن الحصول عليها. وبعضها تعاون إلى حد وتوقف بعد حين. لكن حصيلة السعي أثمرت عددا كبيرا من الخرائط والوثائق التي تغطي معظم المواضيع، بل ويؤيد بعضها بعضا. وهكذا ولد «أطلس فلسطين 1948».

          يسجّل «أطلس فلسطين 1948» سكان فلسطين وأرضها في فترة الانتداب، وعام النكبة، وما تبع ذلك من تمزيق لفلسطين وأهلها في تفصيل دقيق.

          يقع الأطلس في 450 صفحة ملونة كبيرة (50 سم × 35 سم) ويشمل قسمين كبيرين. القسم الأول هو عرض وتحليل للمعلومات الواردة في الأطلس وتشمل الآتي:

          كيف نشأ الانتداب البريطاني وأدخلت فيه المؤامرة الصهيونية البريطانية لتحويل فلسطين إلى وطن يهودي الذي أصبح دولة يهودية، وكيف شجع هذا الانتداب الهجرة اليهودية إلى فلسطين تحت مظلة بريطانية، ثم اقتراح الأمم المتحدة تقسيم فلسطين (إذا وافقت الأطراف المعنية)، بحيث حصل اليهود على 11 ضعفا للأراضي التي امتلكوها تحت الانتداب، ثم كيف نشأت حدود فلسطين مع مصر ومع سورية ولبنان ومع شرق الأردن، وكلها حدود خططها الاستعمار دون مشورة أهل البلاد.

          ويشمل هذا القسم أيضا تفصيلا كاملا لأكثر من 1300 قرية ومدينة، وعدد سكانها ومساحة أراضيها وحدودها ووجود اليهود إن كان بينهم يهود، وما المساحة الحقيقية للأرض التي امتلكها اليهود, ومن أين, ومتى, وما قوانين الأراضي التي سنتها حكومة الانتداب، وما معنى الأملاك العامة أو أملاك الدولة، وقسما خاصا عن الأراضي في بئر السبع.

          ويشمل هذا القسم أيضا تفصيلا كاملا عن النكبة وعن الأراضي والقرى، التي احتلتها دولة الاحتلال الاسرائيلي واللاجئين الذين طردتهم شهرا بشهر خلال الحرب ابتداء من ديسمبر 1947 حتى يوليو 1949 وكيف نشأت خطوط الهدنة، ومعناها القانوني، ومساحة الأراضي التي اقتطعت من كل قرية مر بها هذا الخط؟!

          ويشمل هذا القسم أيضا إحصاء كاملا للطرق والسكك الحديدية والمطارات والموانئ والمباني الحكومية والعامة والأماكن المقدسة من مساجد وكنائس ومقابر وأضرحة، والآبار والينابيع والخزانات والسجلات الحكومية والخرائط والوثائق التي استولت عليها دولة الاحتلال الإسرائيلي عام النكبة. كما يشمل أيضا إحصاء للفلسطينيين سواء اللاجئين أو المواطنين وأماكن وجودهم في العالم.

          وهذه المعلومات توضح لنا حقائق كثيرة كنا نعلمها بشكل عام ولكننا لم نكن نعلم مقدارها. يوثق الأطلس مساحة فلسطين البالغة 26،322،999 دونما (الدونم 1000 متر مربع) بما فيها مساحة الأرض اليهودية في ظل الانتداب البالغة 1429062 دونما، كما يرصد اسم ومكان المنشآت العسكرية في فلسطين (31 مطارا و 37 معسكرا) وأطوال الطرق (3200 كم درجة أولى و22500 كم طرقا فرعية) و 650 كم من السكك الحديدية و 2200 مبنى حكومي أو تعليمي أو صحي و 3600 مصدر من مصادر المياه (آبار أو ينابيع أو خزانات) وكذلك 1990 مكانا مقدسا (مسجد، كنيسة، كنيس، مقبرة، ولي أو ضريح). وكل هذا فقط في الجزء من فلسطين الذي احتله الصهاينة عامي 1948 و 1949 وسموه إسرائيل. هذا عدا الثروات الطبيعية على الأرض وتحتها.

          لقد كانت هذه اكبر عملية نهب منظمة بنيت على أساسها دولة الغزاة. لقد تسلمت دولة الاحتلال الإسرائيلي في صباح 15/5/1948 كامل البنية التحتية لحكومة جاهزة بمكاتبها وسجلاتها وخدماتها التي كانت تسمى حكومة فلسطين، ولم يغب عن هذه الحكومة إلا أهلها الفلسطينيون.

          أما القسم الثاني من الأطلس فهو يشمل خرائط فلسطين التي استولت عليها دولة الاحتلال الإسرائيلي العام 1948 والتي تنتشر على مدى 350 صفحة ملونة بمقياس رسم 1 : 20000، وتبّين أصغر مكان في أصغر قرية مثل كرم أبو سالم وعين البيضا وجميزة الشيخ علي. وبالإضافة إلى بيان 1300 مدينة وقرية، فإن الأطلس يبّين 11000 معلم تاريخي وديني وحضاري وطبيعي، كما أنه يبّين 20000 اسم مكان حول كل قرية ومدينة. كما يبّين لأول مرة تفصيلا كاملا لعشائر بئر السبع وحدود أراضيهم.

          والمدهش حقا أن هذه المعلومات ليست خطوطا ونقطا فقط، ولكنها تنبض بالحياة لأن المطلع على الأطلس يرى بعينيه أكثر من 2500 صورة جوية لمساحات شاسعة من فلسطين أخذها سلاح الجو البريطاني عامي 1945 و 1946 قبل مغادرته فلسطين، وترك لنا صورا ناطقة للمدن والقرى والحقول والبساتين تضيف شهادة واقعية على حياة أهل فلسطين قبل الشتات. وهناك معلومات مفصلة أخرى على موقع هيئة أرض فلسطين www.plands.org

          إذا كان الاستعمار قد استعمل الخرائط منذ القرن الثامن عشر كوسيلة لتحديد مناطق نفوذه وإعلان سيادته على رقعة من العالم الثالث ورفع علمه عليها، فإن واجب أهل البلاد المستَعْمرة أو المحتلة أن يسجلوا بالخرائط شهادة ميلاد بلادهم وأن يوثقوا هوية الوطن. وفي حال فلسطين فإن الواجب الوطني هو توثيق هوية الحق الذي سُلب وإحياء الجغرافيا التي طمسها الغازي.

          لكن هناك سببا أهم لهذا التوثيق. فهو ليس مجرد سجل للماضي، بل هو أساس لوضع خطة عودة اصحاب الأرض إلى ديارهم، وهو قاعدة معلومات مهمة في عصر الحاسوب والأقمار الاصطناعية، لاستعادة الأرض في كل قرية ومدينة، ومعرفة أصحابها على أسس علمية. ولا يكفي بعد اليوم أن نعتمد على رواية جد لأحفاده. فالتوثيق لا يعتمد على عمر إنسان، بل هو يبقى وثيقة لكل الأجيال.

          ومهما حدث في فلسطين من تغيرات عمرانية أو سكانية بعد احتلال دولة الاحتلال الإسرائيلي لها، وهي الآن كلها مسجلة على الأرض وبالأقمار الاصطناعية فإنه بالاعتماد على قاعدة معلومات كاملة مثل هذا الأطلس يمكن استرجاع كل شبر في فلسطين. وهذه مهمة تقع على عاتق هذا الجيل والأجيال القادمة، إلى أن تتحقق العودة.

 

سلمان أبو ستة   





 





الأطلس الذي يحاول استعادة جغرافية فلسطين الضائعة





توضح الخريطة الحياة الصعبة التي يعيشها أهلنا في فلسطين تحت الاحتلال المناطق العازلة التي اقتطعت من أراضيهم والمناطق التي تحد من حدودهم والحواجز والأسلاك الشائكة هددتهم بالموت في كل خطوة يقومون بها داخل أراضيهم





هذه صورة القرى والبلدات الفلسطينية التي هجرت والتي نهبت والتي صودرت والتي تحولت إلى مستعمرات. صورة مثيرة للحزن والألم