المسرح داخل المسرح عند وليد إخلاصي

المسرح داخل المسرح عند وليد إخلاصي
        

كان هاجس التجريب والبحث عن أشكال للمسرحية مصاحبًا وليد إخلاصي في رحلة التأليف التي بلغت 54 عملاً، عرف اثنان وعشرون منها طريقه إلى جمهور المسرح العربي في معظم عواصمه.

          برزت ظاهرة (المسرح داخل المسرح) عند وليد اخلاصي على نحو متفاوت في ستة أعمال نذكرها مع تواريخ تأليفها لما لذلك من أثر في تحليلها وتوضيح العلاقة فيما بينها: (الصراط 1975- حدث يوم المسرح 1977 - سهرة ديمقراطية 1979 - السماح على إيقاع الجيرك 1983 - عجبًا إنهم يتفرجون 1986 - مَن يقتل الأرملة؟ 1978)، وكانت رسالة المسرح في بث الوعي والتغيير محور هذه المسرحيات، ويتصل به أمران، أولهما كشف أوراق هذا العالم السحري أمام المتلقين من مصاعب التأليف وخلافات المخرجين والممثلين، والتأرجح بين صوفية الفن ونهم مادي للكسب، وتربّص العيون، التي تحاول أن تقرأ ما بين السطور وأطراف كلمات الدراما لتقصّ أجنحة توّاقة إلى الشمس، وبهذا يغدو المتفرّج لاعبًا مع الفرقة التمثيلية ولا يغيب في ظلام الفرجة المسترخية. فليتحقق التواصل مع الرسالة وتكسر الحواجز أو ما يسمى بالجدار الرابع، وهذا ما لاحظناه منذ هاملت شكسبيرعندما رأينا الأمير هاملت يحضّر المشهد المسرحي داخل المسرحية وعرفنا دور الدراما في كشف الحقيقة، وبدا لنا التناظر بين الخشبة والواقع الخارجي ثم الاشتباك العنيف ويتردد قول شكسبير «ما العالم إلا مسرح كبير»، وهذا ما نخبره في ثلاثية بيراندلّو: ست شخصيات تبحث عن مؤلف - الليلة نرتجل - لكل شيخ طريقة)، والأمر الآخر المتصل بمحور هذه الظاهرة عند وليد إخلاصي هو امتداد المسرح إلى وقائع الحياة وحركة القوى في صراعات الاقتصاد والفكر والسلطة والعدالة والحرية مما يخلق حالة تأثير وتأثّر دلاليين عبر تفاعل الحقول الدلالية داخل المشاهد المسرحية وفي أحداث الواقع الذي يعيشه المتلقي.

          إنا سنقف عند عملين هما (الصراط)، و(من يقتل الأرملة؟) وندرس ظاهرة (المسرح داخل المسرح) من خلال الشخصيات والأساليب أو التقنيات التي تبلورت في النص وحدّدت للمخرج أساس العرض مع مرونة التكيّف بحسب إمكانات كل فرقة تؤدي العمل.

الصراط وسقوط اللاعب المنفرد

          تبدو ضربة حظ تلك التي جعلت عبد ربّه عامل النظافة في المسرح بطلاً لمسرحية (فارس الصحراء) عندما مرض الممثل الرئيسي وهرع المدير يرجو هذا الرجل القابع في قاع المكان لا تكاد تفارقه زجاجة الشراب فيظلّ في حالة تقتسم الصحو والتهويم، وتكتمل المفارقة إذ يغدو عبد ربّه نجمًا يستحوذ على قلوب الجمهور بفضل اضطراب جمل الحوار ثم خروجه على النص وتحويله الموقف إلى كوميديا.

          لا بد لنا قبل متابعة المغامرة على الخشبة وفي دهاليز الفنانين وعلى أرض الواقع من الوقوف على اختيار وليد إخلاصي أو رسمه للشخصية فهي ليست من خارج الفن - كما ظن بعض النقاد - بل تمثل النواة الفطرية لفنان يعيش في كنف البيت الدرامي ينتظر فرصة ليقدّم ما عجز عنه أولئك الذين غطّت مطامعهم وأنانيتهم على رسالة من المفترض أداؤها.وعرفنا في المشهد الأول إرهاصًا بهذا ثم تأكد ولع عبد ربّه بإلقاء المنولوجات أمام زملائه وأهل المسرح، وكانت المشاركة بدور ثانوي من أبعد غاياته، وجاءت الضرورة شرارة أشعلت جذوة كامنة في ذات تختزن أحلامًا كثيرة ففتحت الستارة، وبين ضوء على جوانب المشهد المكتوب وظلام يهيمن في الطرف الآخر - الصالة تتابعت كلمات استقبلها الجمهور بالتصفيق لأنها رغبة في الوعي الجمعي أتاح لها جوّ الكوميديا المرور وخرق فواصل الممكن وغير الممكن في أيام حياتهم خارج المسرح.

          أما ملازمة الشراب والتماوج بين سطور الواقع وفراغات تتناثر فيها حقائق هائمة فهي نتيجة لسلسلة من البؤس والقهر والاستلاب الإنساني فنحن نرى إنسانًا يلجأ إلى السكر علّه يلتقي بأحلامه الهاربة. إنه يفتقد الأهل والأصدقاء، والحبّ مستحيل مع فقره وفي الممرات الضيقة التي يرزح تحت أثقالها، وهكذا تولّدت السخرية اللاذعة في عباراته، ولعلّ إخلاصي أراد الرمز إلى أن فساد أحوال في المسرح وفي العالم لا تجدي في إصلاحه، لغة التوافقات والمصالح من جهة والاستكانة من جهة أخرى.

          يحمل عبد ربّه اسمه الفني الذي اختاروه له وهو (عبيدو)، ولكن يظل الخيار بيده فيمضي في كشف الاستغلال والفساد واضطراب المعايير في الأسواق وبين تجار ممّن لا يعرفون إلا اكتناز الأرباح، وفي بيوت أعماها الطمع فتكاد تخنق الحبّ وأحاسيس المحبين وحقهم في أن يزهر الغد بابتسامة فيها إشراقة الصفاء وعافية المودة، ونرى عبيدو على المسرح وفي التلفاز يخاطب الأطفال جيل الأيام المقبلة ويرفض عروض أصحاب الإعلانات المروجة للكسب على حساب صحة المستهلكين ودخلهم المحدود، ولكن قبل أن يتمادى عبيدو في أعماله أو رسالته يستدعى للتحقيق فيما يدعيه!! على التجار وبعض أهل الإدارة من فساد.. ويكون أمامه طريقان: المزيد من الانتشار والكسب و.. الرعاية أو انطفاء وخسارة الأعمال وتهم فيها الإدانة التي تستدعي عقوباتها. وهنا يغلب عبيدو ضعفه الإنساني فيؤثر السلامة وتتلاحق أفلام الإعلانات ويشترى التجار حفلات مسرحياته، ونلحظ بهجة مدير الفرقة المسرحية الذي غدا مديرًا لأعمال النجم الذي ملأ الأسماع والأبصار في وسائل الإعلام والفن، ويبدو التوافق بعد أن رأينا خلافًا حادًا بين رسالة الحقيقة والعدالة والتنوير لدى عبيدو ورغبة الربح والكسب من كل السبل مهما يكتنفها من خلل أو تعارض مع المبادئ ومصالح الناس، مما يلح عليه بعض من يعملون في الفن يمثلهم مدير الفرقة، إلا أن صراعًا آخر لم يحسم في أعماق هذا الفنان فيشق طريقه إلى العلن عندما تواجهه الصحفية بتساؤلها عن سر تغيّره فإذا به يردد العبارة التي أطلقها من زمن وهي (ما جمع مال من حلال) بمعنى أن تكدّس الأموال تحيط به شبهات:

          وفي المشهد الأخير يقف عبد ربّه على الحدود وهو يهم بمغادرة البلاد إذ أيقن ألا مكان له في أجوائها الفنية ولا يستطيع أن يؤدي عملاً يحفظ له توازن القيم، ولكن يخبره الضابط أنه ممنوع من المغادرة. وعندما يعود أدراجه يعلم أنه كذلك ممنوع من العودة وهنا تلمع لديه فكرة فيقول:

          «لقد وجدتها، لقد وجدت مكانًا لي. هل تذكر يا عبد ربّه تلك الخطوط التي تفصل الدول عن الدول؟ آه فلقد وجدت الحدود الوهمية وهي ملكي أنا أستطيع أن أمشي عليها دون رقيب. الآن تلعب لعبة الصراط المستقيم تمشي على مزاجك تمشي على مزاج الصراط المستقيم».

          لقد انتهت مغامرة اللاعب المغرد بالسقوط بعيدًا، وكان قد أدرك منذ أمد أن صوتًا واحدا لا يقدر على التغيير، ولاحظنا أنه ظلّ وحيدًا في رؤاه وتطلعاته لم يؤازره آخرون في المسرح أو في الساحات الفنية الأخرى، ولكن د. إخلاصي زرع رمزًا إلى جوار هذا المغامر إنه حضور الصحفية سلمى التي عبّرت عن صوت الضمير يوقظ وينبّه ويلاحق، وبهذا تظهر المرأة ممثلة خصوبة الحياة في سلسلة الأجيال وفي البذور الكامنة تترقب ربيعها وقد توازى عدم اكتمال الحب بين عبد ربّه وسلمى مع إخفاق مشروعه في الفن.

          اعتمد وليد إخلاصي مبدأ تحطيم وهم الفرجة المستكين عندما فكّك اللعبة أمامنا أو كأنما كسّر المرآة فنحن نحاول النظر فيها فلا يغيب عنا التفكير بالشروخ والمقارنة بالواقع وهذه بداية وعي ما فوق الفرجة، ومن زاوية أخرى لم تقدّم لنا (الصراط) مشاهد مكتملة وإنما هي مقتطفات تبحث عن بداية لها أو خاتمة وهنا تتابعت وتوازت عروض المسرح وتمثيليات التلفاز وأفلام الإعلانات ونكتشف أن مقاعدنا ليست مقابل واجهة المسرح وإنما تدور من خلفه لنرى أسرار اللعب ثم نرقب كيف اخترق عبد ربّه الجدار الرابع مرتين وتوجّه مباشرة إلى جمهوره فيحدث التغريب وتتغيّر صفات الجالسين على كراسي صالة العرض وفي لحظة تلمع أضواء (الصراط) فنجد أنفسنا بين هؤلاء الذين خاطبهم عبد ربّه فنواصل الحوار معه ونناقش تجربته أو مغامرته في المسرح الكبير الذي يضمنا معًا!!

          وعلى الرغم من واقعية الأحداث والشخصيات فقد أحاط بها رمز الصراط منذ بدايةسطورها وحوارها حتى النهاية، وقد أراد وليد إخلاصي تقديم هذا المزج بين إمكانات الرمز ومرونة التعبير من خلاله وملامح الواقع القريب فما ينطق به عبد ربّه هو مقولات الرمز المعبّر عن أعماق المجتمع وهنا تكتمل دلالات الفنان والخط الحاسم: الصراط، والمكان المطلق، الحدود.

الأرملة تقتحم المسرح

          كتب وليد إخلاصي مسرحية (من يقتل الأرملة؟) سنة 1978 أي بعد حوالي ثلاث سنوات من إنجاز (الصراط)، وتبدو لنا معركة تدور داخل المسرح وخارجه مع تطور أصاب الشخصيات وأساليب الصراع، ولذلك جاءت الخاتمة أو نهاية الجولة خطوة متقدمة لانتصار مأمول ينشر الحرية والعدالة ويوقف استنزاف الإنسان.

          إن رسالة المسرح في محاربة الطغيان والبحث عن لقمة مغموسة بالعرق والفرح تحاول أداءها فرقة (عقارب الساعة الثلاثة) جنباز وهدية وجاسر التي حلّت مكان (عبد ربّه) الذي كان غريبًا في وسط مسرحي يتلهّف إلى كسب الجمهور والمال بكل السبل مهما تغب عنها الأخلاق أو الحقيقة. ونلحظ صيغة العمل الجماعي في التأليف والتمثيل وإعداد الخشبة التي اقتطعت زاوية مقهى شعبي. وبرز الاتجاه السياسي الوثائقي مما يؤكد الجدية والالتزام فثمة تحريض مبطّن بالسخرية المرّة ومتكئ على مواد الأخبار والصحف، سعيًا وراء كشف الاستبداد والقمع والاستغلال في أرجاء الدنيا، وعلى الرغم من استمرار العروض فالدخل ظل في حدود الكفاف وثروتهم هي حلم بمسرح مستقل يتسع لمشاريعهم، ويظهر أن الفرقة تمارس نشاطها في هامش من الحرية يجنّبها سطوة الرقيب!!

          تقتحم لولو هذا المسرح بحضورها مرّات وبإبداء الإعجاب بالممثل الوسيم ومدير الفرقة (جنباز) ثم ترسل تدعوه إلى قصرها، فيتردد فيشجعه جاسر آملا الاستفادة من أموالها في امتلاك المسرح الخاص، لكن هدية تنتبه إلى أنها المرأة العنكبوت التي أوقعت بفتنتها ثلاثة رجال من أغنى التجار وما لبثت أن ورثت الشركات والأموال. ونلحظ استشعار الخطر في خطاب هديّة، ولكن رجحت كفّة المغامرة فيذهب جنباز مستطلعًا في الظاهر إلى أنه في أعماقه يحمل بذور الضعف بسبب اختلاط الوهم بسوء تقدير للطرف الآخر، ويصدّق أن هذه الأرملة الحسناء فاحشة الثراء أحبته لذاته فيوافق على الزواج بها، وتبدأ بتبديل هيئته وملابسه وتدفعه ليكون أداتها في الاحتيال على الفقراء ممّن ستستغلهم وتغنى من أراضيهم، وتجعله يوقع على تعهد - دون أن يدري!! بعدم مشاركة الفرقة في أعمالها فإذا به مصفّد بالسلاسل الذهبية ويمشي في مسالك تغسل دماغه من أفكاره السابقة وتسلبه كل ما حصله من نفوذ! معنوي عند الناس وذلك بإضافته المكاسب إلى مملكة لولو التجارية والمالية.

          هكذا تتوضح حركة الصراع الأولى المهاجمة المسرح، فقد أرادت لولو شلّ الفرقة المسرحية بالاستيلاء على أهم ركن فيها (جنباز) وبهذا تتخلص من القضايا التي تطرح وتهدد الأعمال والأسواق ببث الوعي وكشف الغش والاستغلال والخلل الاجتماعي - الاقتصادي، وفي الوقت نفسه توظّف لولو النجاح الجماهيري للفن في فتح الأبواب والقلوب لتستقبلها راعية ومحسنة يغطي الحرير أصابعها ويخفي مخالبها الشرسة.

معارك متجددة

          يصرّ وليد إخلاصي على استئناف المعركة فتتجاوز حالة السلب عند عبد ربّه في المسرحيّة السابقة، ونجد أن هديّة وجاسر يتابعان العمل ويقدمان عرضًا مغريًا يحكي ضياع رجل تخنقه امرأة تذكّر بحكايات شعبية إذ تبدي رقة فاتنة لكنها تستر الوحش وأنيابه في داخلها، ونعرف أسلوبًا في أداء الفرقة إذ تتجه اتجاهًا ملحميًا فتلعب هدية دورين أمام الجمهور،ونسمع الخطاب المباشر شارحًا غياب العقرب الثالث في المجموعة، ويتأكد لدينا أن الفن يقاوم تدميره ويحتمي بالناس فهو موصول بهم ولا يشكل فرجة هامشية، وتأتي الخطوة التالية وهي تخليص جنباز بعد أن سقط في شبكة العنكبوت، وهنا إشارة إلى يقظة تصحح المسار ولا تستسلم.

          يلتئم شمل فرقة العقارب الثلاثة مجددًا وترتب محاكمة للمرأة التي ارتكبت جرائم وشرورًا وانداح الفساد من حولها، وفي جلسة صاخبة يدرك القاضي أن لولو من البراعة بحيث لم تترك ما يدينها إذ برعت مع مساعديها في تغطية مواقفها، لذلك تقرّر المحكمة العودة إلى قانون الطبيعة أو المنطق الفطري وتزول في هذه المشاهد الفواصل بين الواقع والخيال والمثيل فلا يدري جنباز هل هو على المسرح أم فوق منصّة القضاء!

أساليب مسرحية

          احتشدت مجموعة من الأساليب المسرحية المختلفة في هذا العمل وهي تؤدي دلالتين الأولى تحدّد مواقع الصراع ومراحله أو سمات الشخصيات، وتجسّم الدلالة الأخرى ظاهرة المسرح جزءًا من وجوه الحضارة التي نعيشها. ويعوّل الكاتب على تتابع الأساليب وتكاثفها وعلى عمق إدراكنا ليحاصر وهم الفرجة الاستلابي.

          قسّمت الخشبة المسرحية إلى طرفين متجاورين يمثل الأول المقهى الليلي الذي يضم مسرح العقارب الثلاثة وخلفية له يجلسون فيها إثر العروض، وفي الطرف الآخر تدور الأحداث في قصر لولو ومكتبها، ويتم الانتقال بين الجهتين عبر الإضاءة ونحن نشاهد العالمين من مقاعدنا فندرك أسرار اللعب المسرحي وتكاد تمحى الحواجز بينه وبين الواقع خارج هذا المسرح. ولعلنا نقترب من غاية الكاتب إذا تخيّلنا تنفيذ المسرحية بطريقة تقليدية كما لدى الآخرين إذا أغلقت الستارة على مشهد فرقة لعقارب ثم فتحت بعد حين على لقاء جنباز وسنسول ولولو فالمتلقي في هذه الحالة يطوي إحساسًا عايش الفنانين في ركن ثم يتجه إلى الشارع فالقصر والأشخاص في أماكنهم الحقيقية الواقعية.

كسر الواقعية

          ولا يكتفي وليد إخلاصي بهذا الكسر للواقعية الساكنة والذي استمده من نهج لويجي بيدرانلّو وإنما يمعن في إثارة المتلقي بالتغريب, فقد أراد أن يكون جمهور فرقة العقارب وعروضها في ذاك المقهى هو نفسه الجمهور الذي تعرض أمامه مسرحية (من يقتل الأرملة؟) فأشرك المتلقين على نحو مركّب بالقضايا المطروحة، خاصة أنه طلب من المخرجين أن يحوّروا في المشاهد التي يؤديها العقارب لتستمد من حاضر المدينة - حيث يكون العرض - وأحداثها وأخبار الساعة فتغدو المسرحية خطابًا معاصرًا ومعايشًا، وأضاف الكاتب في بنية العمل الخروج إلى الجمهور على نحو مباشر أربع مرات لتشتعل شرارة المشاركة والمسئولية.

          وأمّا الأسلوب الثالث فهو حضور الشبح ليلة عرس لولو وجنباز ليكشف الورطة التي وقع فيها جنباز الطامع في ثروة المرأة العنكبوت، إنه شبح الزوج الأخير الميّت يحمل نذيرالشؤم والموت لمن يقترب من قاتلة أزواجها. وقد اختار الكاتب المواجهة المادية فالشبح بقامته العالية وافتقاده الوجه وبصوته العميق يظهر على الخشبة، ونستنتج من الحوار أنه يمثل ضمير جنباز المغيّب بسبب طمعه ووهمه، وكذلك تتفق كلماته مع ما سمعناه من (هدية) المعبّرة عن ضمير المجتمع وهو يقرع الجرس الحادّ.

          لقد كان من الممكن أن نتابع هذا المشهد على نحو آخر في مسرحية واقعية لأن الكاتب عندئذ سيجعل الحوار ذاتيًا داخل جنباز عبر مولونولج تتقابل فيه الاحتمالات وتتم مراجعة النفس ونرى صفحتين مختلفتين لكنّ وليد إخلاصي آثر اللعبة المسرحية باقتحام الخيالي أرض الواقع ليتحطّم النسق وتستدعى الأسئلة.

          إن الغاية المترتبة على رؤيتنا للمسرح من الداخل وتوترنا على إيقاع الأحداث المتشابكة فيه هي نقل الصراع إلى خارج الخشبة والتخلص من السكون، وجاءت العبارات صريحة عندما خرج بطل المسرحية إلى عالم الأرملة:

          جنباز: مخدعك وكأنه مشهد مسرحي مثير. حلم كأنه حلم ولكنه حقيقي.

          لولو: وأنا ألا أبدو بطلة مسرحية مثيرة؟!

          جنباز: في الحقيقة الأمر كلّه يبدو كمسرحية مثيرة.

          لولو: مسرحية مستمرة العرض.

          وفي ذروة المحاكمة المسرحية التي أقامها العقارب الثلاثة أمام الجمهور نسمع جنباز يقول:

          ليدلّني أحد على حقيقة نفسي، هل أنا أنا؟ أم أني مجرّد ممثل يؤدي دوره ثم يذهب إلى النوم بعد تعب، أريد أن أظلّ مستيقظًا وأن أقول كلمتي دون خوف. ولعلّ استخدام السخرية المرّة والكوميديا في القضايا الواقعية هو بعض من تحفيز الفعل في المسرح الكبير - الحياة، فقد هدّمت سخرية عبد ربّه في (الصراط) كثيرًا من الحواجز والأسوار المحيطة بتواطؤ على الفساد، وجاء تصوير تابع لولو في (من يقتل الأرملة؟) برهانًا على هشاشة في تركيب الشرّ فأحاديث (سنسول) المخنّث وتصرفاته تثير الازدراء بمقدار ما تضحك في اللحظة الأولى.

          ولا بدّ من طرح قضية دور المرأة في هذه المسرحية التي حملت في عنوانها الاسم المؤنث ودلّ على الشخصية الرئيسية فيها (لولو/ الأرملة) وهي التي أثارت الزوابع واختطف مفتاح المسرح - كما تصورّت - واستغلّت إمكاناته، واتضح لنا مدى هيمنتها في دنيا المال والأمال، لقد أرادت تغيير المعادلات جميعًا لمصلحتها ولفائدة موجة طاغية وقصيرة النظر لا تدرك ما تخلّفه من دمار في البلاد والمجتمع، وأما الرجل فقد صرع في الجولة الأولى إذ بهرته مظاهر الثراء والقوة المالية: إن جاسر شجع جنباز على الذهاب والتفاوض مع لولو، وهناك دهشنا من الانهيار والسقوط في فخ الأرملة. إن جنباز لم يبصر الثمن الفادح الذي يدفعه مقابل وعد.. بمنحه فرصة بناء مسرح خاص لفرقته.

          وعلى الرغم من أن الجولة الثانية دارت واقتربت من انتصار أهل المسرح المدافعين عن الحقيقة والعدالة والنقاء، وكانت بإرادة جماعية رصّت صفوفها لكننا عرفنا الأثر البالغ للمرأة أيضًا في شخصية (هديّة) ممثلة الفرقة التي أوجست خيفة من العلاقة بين صاحبة الأموال الفاحشة والمماطلة بالرئيس ومدير فرقة العقارب المسرحية، ولم يكن موقف هدية محصورًا في دفاع أنثى عن حبّها وعن الرجل تريد اختطافه امرأة أخرى، وإنما برز الوعي بالقيم المحركة للمجتمع لذلك واصلت هي وجاسر الرسالة، ثم جمّعت القدرات للقضاء على الفساد ونذر الخراب، ونلحظ هنا صلة النسب الفنية والفكرية بين (سلمى) في مسرحية الصراط (وهديّة) مع اختلاف هو الانتقال إلى الفعل والإسهام في الصراع مباشرة لأن سلمى كانت صوتًا يردّد القيم ويجاور (عبد ربّه) أما هدية فهي موغلة في التدبير ودفع الموقف إلى ذروة تحمل التغيير.

          إن ظاهرة (المسرح داخل المسرح) تعبّر عن رؤية وليد إخلاصي للمسرحية المعاصرة فهي متعددة الألوان والأصوات، ولا بدّ أن تتطور لتثير عالمًا مركبّا في علاقاته وتعقيد لازمها وأربك الإنسان المعاصر وقيّد نظراته بدوار جارف، وتقدم (الصراط) و(من يقتل الأرملة) والمسرحيات الأخرى في هذا الإطار دلالاتها المتفاعلة خاصة وأن إخلاصي ترك مدى فسيحًا لكل من يخرج هذه النصوص لتغدو أكثر قربًا من الأمكنة والناس في شتى أرجاء الوطن الكبير. ونذكر هنا كلمات من مسرحية (حدث في يوم المسرح): «هو ذا فن المسرح أيّها السادة حياة في حياة هو المسرح، حياة من حياة، تكون الأشياء ميتة فتدبّ فيها الحياة من جديد».

عجَّ الأسى في نفسها الشاعره في ليلةٍ مقرورةٍ كافره
وحيدة، ضاق بها مخدعٌ توغلُ في الوحشةِ السادِرَه!
كم شهدَ المكبوتُ من شجوِها تثيرُهُ خلجاتُها الثائره..
كم الْتَوَتْ فيه على قَلْبِها تبكي أماني قلبِها العاثِره
وكم، وكم، ولا يد بَرَّةٌ تأسو جراحَ الزمنِ الغائره!


فدوى طوقان

 

فايز الداية   





وليد إخلاصي أديب شامل كتب الرواية والقصة القصيرة والمسرحية وغير ذلك من الألوان الادبية





مشهد من مسرحية فارس الصحراء كما قدمت على المسرح الكويتي عام 2004