الحرب على لبنان.. قراءات فنية تحت القصف

الحرب على لبنان.. قراءات فنية تحت القصف
        

الفوضى الخلاقة...
مبتدأ وصِفة.
ولكن أين الخبر؟
هل هو في المحصّلة التي نعانيها اليوم في الفكر الكامن والمؤسس لهذا المبتدأ؟

          أنا، الآن أتنعّم بهذه الفوضى الخلاّقة، أتنعّم بخبرها، بقصفها لبيوتنا، وتعطيل الحركة في وطننا، بتحويلنا أشلاء أحياء وأمواتًا، وتحويل جماجمنا إلى انفلاج، عسى أن يكون انبلاجًا لوعي حقيقي لحقّنا في الوجود الطبيعي.

          أكتب هذه الكلمات على صوت القصف. إحساس بزلزال لا يوصف. عضلات أعضاء الجسد تتجمع وتشتدّ كي تحمي بعضها بعضًا.

          نسهو قليلاً، تأتي الغارة التالية خلال دقائق.

          فتتذكر العضلات فعل المعاضدة من جديد.

          وهكذا تمر ساعة أو أكثر. وهكذا تمضي أيامنا.

          اليوم دورنا:

          الخبر عبر الهاتف، أمي أصيبت، تنزف، الصليب الأحمر لا يستطيع المجيء لنقلها إلى المستشفى في صيدا. فإسرائيل تستهدف هذه السيارات.

          بعد ساعات خبر آخر:

          بيت أخي غير صالح للسكن بسبب القصف من قبل البارجة الموجودة في البحر مقابل البيت من جهة، ومن جهة أخرى بسبب الغارات على الجسر الملاصق للبيت، وقد تهشّم الزجاج في محترفي.

          اليوم مختلف، دولة الاحتلال الاسرائيلي تودّعنا بعشرين غارة في مدة دقيقتين، كأنه زلزال عصر إحساسنا حتى الجفاف التام.

          الرءوس مطأطئة: كم من الأبرياء الآن تحت الأنقاض ؟!

          ننفض الزمن الغادر عن أجفاننا.

          لماذا أتذكر الآن مقولة العصر: «الفوضى الخلاقة».

          وسياسة الأرض المحروقة التي تمارسها إسرائيل في كل القرى اللبنانية الجنوبية والبقاعية والضاحية.

الكذب أم العنصرية

          نقرأ في الصحف:

          «نتساءل هل ما ينتصر لدى الإسرائيليين هو الكذب أم العنصرية، وهم يتسارعون نحو الحث على الجريمة؟

          بلى جزء كبير من استعلائهم في التنكر للوقائع يستند إلى المساعدة المتواصلة والسلوك المثالي للدعم الأمريكي الذي عمل بتفوق على إنجاح الديمقراطية في العراق وأفغانستان».

          إلى متى سيبث الإعلام الخوف بدلاً من الأخبار؟

          إلى متى سيردَّد صراخ المعتدى عليه عبر ناقوس من القش؟

          إلى متى ستسمّى الأعمال المرعبة أخطاءً؟

          إلى متى سنقبل أن يكون هذا العالم المُغرم حتى الذروة بالموت، العالم الوحيد الممكن؟».

          هذه السطور في الصحف المحلية لكتّاب أجانب.

          نقرؤها وكأننا في غيبوبة فتأتي هذه الكلمات بمنزلة نقطة باردة تسقط على جبين حار.

          الصور في الصحف تخدر المشاعر من شدة الانفعال، فكيف بالصوت والصورة وكيف بالجسد الحي؟

          لم أجلس أمام التلفاز هذه المرة، لأن لي تجربة مرة في اجتياح 1996، حيث بقيت لفترة طويلة مصابة بالإحباط، لا أستطيع الرسم أو القراءة أو الكتابة، ولأنني يومها ذهبت تحت القصف البارجي، من بيروت إلى الرميلة قرب صيدا، بسبب وجود أولادي في الضيعة، حيث قررت الوجود معهم لنعيش أو نموت سويًا.

          هذه المرة قررت ألا أترك للأحداث أن تفعل فعلها عندي، لن تُترك دولة الاحتلال الاسرائيلي أن تمرر مشروعها الإحباطي على الأفراد. لكل في مكانه دور فعال: فنحن بالقوة الداخلية نستطيع أن نهزم قوتها الخارجية، لأن مصدر النصر كما يقول الرحابنة: «المصدر جوّا» أي الداخل في مسرحية جبال الصوان.

أيام الانتظار

          قضيت الحرب في بيروت، لا هربًا من الضيعة صباح 12 يوليو، بل لأننا كنا في زيارة للطبيب، وما إن وصلنا إلى العاصمة، حتى بدأ القصف بعد الظهر ودمرت إسرائيل الجسور التي تربط المدن والقرى الساحلية. وبقينا في بيروت مرغمين لا نحمل شيئاً.

          كان في حقيبتي كتاب سراب الفن المعاصر للمؤلفة كريستين سوريين Christine Sourgins احتياطًا في حال أُجبرتُ على الانتظار عند الطبيب. كان هذا الكتاب زادي في أيام الانتظار الطويلة.

          المفارقة - المقاربة - أن هذا الكتاب يتطرق بالآثار المباشرة التي تدعو إليها بعض مذاهب وطرق في الفن المعاصر، والأسباب الفكرية المشبوهة المرافقة لها.

          لم تتوان الكاتبة عن وصم بعض تصرفات «أعمال» بعض «الفنانين» المعاصرين بكلمات لا تمت إلى مطالعاتنا المعتادة للنقد الفني بصلة، حيث اعتدنا على نمط معين من الأساليب في التطرق إلى مثل هذه المواضيع، حتى ولو كانت سلبية.

          فمثل كلمات: «انتهاك»، «تضليل»، «هيمنة»، «ادّعى بغير حق»، «منحطّ»، «ترسانة»، «تواطؤ»، «فتنة»، «عصيان مسلح»، «طعن»، «أضلّ»، «فضح»، هذه الكلمات نقرؤها إجمالاً في مقالات سياسية في ظروف الثورات. هذه الكلمات كانت مدعومة بالوثائق والأرقام.

          الذي استفزني هو الحالة التي كنت أعيشها أثناء الحرب المدمرة الإسرائيلية علينا. والاقتناع التام بأن أي تحرك إن كان سياسيًا أو فنيًا له ركيزة فكرية.

          والمقاربة التي أود تبيانها هي فكرية - تشكيلية، وإن سنحت لي فرصة ثانية لتقديم هذا الكتاب بشكل مبوّب سأفعل.

          في مقدمتها تقول الكاتبة: باسم الفن المعاصر نستطيع أن نصنّع قنابل، أو نخترع مخدرًا، أن نفتح مطعمًا، أن نقيم سباق حواجز...».

          إذ إن المفهوم - الفكرة في هذا الفن هو الأساس بغض النظر عن طريقة تنفيذ العمل الفني أو مادته. من هنا نشط التنظير لشرح الأعمال الفنية، والأساس الثاني هو «اعمل - تعلّم» وليس «تعلّم - اعمل».

          من هنا كثرت المدارس والمذاهب حتى أصبح من الصعوبة أن نميّز بين هذا المذهب أو ذاك: فكل هذه المدارس جاءت من رحم الدادئية التي برزت مع الحرب العالمية الأولى العام 1916 في زيورخ. وكان لاختيار اسمها العشوائي الذي لا يعني شيئًا، هو الخروج على اللغة وما تعنيه، ومن أهم أهدافها التركيز على المستوى العاميّ والعادي والإيحاء أنه فنيّ. من هنا كانت الدادئية ثورة على كل ما هو متعارف: اجتماعيًا، سياسيًا، أخلاقيًا، وفنيًا. وأصبح الميل إلى كل ما هو حادثي أو «صرعة» هو فني.

          لطخة حبر مع Picabia تأخذ عنوان: «مريم العذراء»، أمر مطلوب من الدادئيين.

          السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ابتداءً من سنة 1960 كُرّس هذا الفن؟ مع العلم أن كل هذه المدارس كانت موجودة قبيل الحرب العالمية الأولى. وخاصة مع الفنان مارسيل ديشامب Marcel Duchamp الذي ابتداء من سنة 1915 توقف عن التلوين، وخاصة بعد الرفض الذي تلقته لوحته: «عارية تنزل السلم» من قبل التكعيبيين آنذاك في صالون المستقلين العام 1912. هذه اللوحة التي لاقت رواجًا فضائحيًا من قبل احد المعارض في نيويورك عام 1913. ثم عرض بعد ذلك (لوحة المبولة) المشهورة في العام 1917.

          حالة ديشامب في الفن لا تُحتذى: فهو الرافض لكل ما له علاقة بشبكة العين كما أنه يرفض أن يكون «حيوانًا كرسام». هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإنه أمضى حياته يلعب الشطرنج مع متابعة إعادة نسخ أعماله حيث إن المبولة التي رسمها موجودة في ستين متحفًا في أنحاء العالم مطبقًا مقولته: «اعرف كيف تصدم وتعلم كيف تُباع»، وهو الداعي إلى تدمير الماضي وإلا يُتهم بأنه منتحل.

القطيعة مع الماضي

          وتتالت الدعوات: ارسم وعيونك مغمضة وأنت تفكر بأشياء أخرى (Hantaï)، (Jean Degottex). مع اختصار اللوحة إلى بقعة أو خط أفقي أو عمودي إلى إلغائها كليًا باستعمال الجسد بدل القماشة كما فعل (Günter Brus) الذي لم يكتفِ بالتلوين مباشرة على الجسد، بل تعداه إلى الأذى المباشر لجسده.

          إذن القطيعة مع الماضي هي الحل الأفضل للوصول إلى اللوح المصقول لإعادة كتابة جديدة للفن والتاريخ. وهذه القطيعة تتطلب جهودًا على كل الأصعدة منها المؤسساتية للتغلغل، والقطيعة الأهم هي مع الأكاديميات وتحويلها بالتالي إلى مكان يؤسس لهذه الأفكار الجديدة. إرجاع العالم إلى الأمية هي طريق صائب، بإلغاء كل أشكال التعلّم بل تعظيم الأميّة، وعمل أي شيء دون تعلّم، لأن العلم يدنّس العمل الفني. هذا رأي مخرج مسرحي كان يجول على الكليّات مادحًا الأميّة.

          من هنا كان طبيعيًا انتشار الحركات «الفنيّة» المتمثّلة بالتكسير. وأكل المواد المؤذية، وأكل الأجنة.

          هذا الرفض الكلي أو الجزئي للمحرمات وللأخلاقيات له ما يوازيه في تاريخ الإنسانية مثل مذهب النهلسنية أو العدمية. إن تفاقم هذه المفاهيم وانتشارها، وترويجها، لها دلالات كبيرة إذ تخطى الأمر بعض العروض في مكان ما وأمام جمهور ما، قلّ أو كثر. وهذه الإشارات أصبحت أمورًا واقعة في المجتمع فالفكر المؤسس لهذه الحركات «الفنية» أمثال فن الجسد، أنتج حالات مشابهة في الحياة الواقعية. إن منظر الشخص «الفنان» الذي يمارس العنف ضد جسده سيكون حالة مؤسسة لتعذيب الآخرين في اللاوعي عند الآخر.

التعذيب مستمر

          من هنا فإن مناظر سجن أبو غريب مرّت مرورًا طبيعيًا وكأن شيئًا لم يكن لأن التعذيب ما زال مستمرًا، وأيضًا المكشوف منه صدفة، أما المخبأ والمحظور نشره فهو ربما ما ستكشفه صدف مقبلة.

          «وتدمير مجمعات بأكملها في ثوانٍ، على من فيها من عائلات لا يُثير حفيظة أحد في العالم، وهي تشاهد الأحداث مباشرة أمام شاشات التلفزة. (المجمعات السكنية في الضاحية الجنوبية لبيروت). هذا في ضفة ديشامب ولكن في الضفة الأخرى هناك من يريد أن يؤسس لمجتمع معاصر نواته الفن المعاصر. فن يقوم على القيم الروحية ومرجعيته «الأنا»، الحاملة لكل الماضي المتحول فينا إلى طاقات تبني وتعطينا المدد للحدْس في المستقبل الخلاّق.

          في الضفة الأخرى كاندينسكي Kandinsky وموندريان Mondrian وكلي Klee. وغيرهم كثر أسسوا فكريًا وفنيًا لإحداث تغيير في المجتمع.

          والسرياليون كذلك كان لهم رأيهم في إبقاء الصلة قائمة بين الفن الحديث والمعاصر من خلال طرح النقاش وإثارة الأسئلة. هذا التواصل الذي قرر بعض مروّجي الفن المعاصر قطعه.

          رسالة من ماجريت إلى بريتون:

          «هذه الفوضى وهذا الهلع، الذي أراد السرياليون إثارته من أجل أن يصبح كل شيء مطروحًا للنقاش، استغلّه الأغبياء النازيّون بأفضل منا» مبررًا هذه القباحة التي قامت لأجل إبراز قباحة هذا العالم الذي أنتجها.

          ولكن نسأل بدورنا: من ينتج هذا العالم؟!.

يا وطني، مالَك يَخْنَى على روحك معنى الموتِ، معنى العَدَمْ
أمضّكَ الجرحُ الذي خانَهُ أُساته في المأزقِ المحتدمْ
جُرْحُكَ؛ ما أعمقَ أغوارَهُ كم يَتَنزّى تحتَ نابِ الألمْ
أينَ الأُلَى استصرختم ضارعًا تَحْسَبُهم ذُرَاكَ والمعتصمْ
ما بالُهم قد حالَ من دُونِهم ودونَ مأساتِكَ حسٌّ أصمْ
قلبّتَ فيهم طرفَ مُستنجدٍ فعزّكَ المندفعُ المقتحمْ..


فدوى طوقان

 

فاطمة الحاج  





غلاف كتاب «سراب الفن المعاصر» للمؤلفة كريستين سوريين





العنف وممارسة التعذيب أصبح سمات عالمنا المعاصر





العنف وممارسة التعذيب أصبح سمات عالمنا المعاصر