إدمان الدواء!.. مخاطر صحية واقتصادية

إدمان الدواء!.. مخاطر صحية واقتصادية
        

ماذا بعد هذا الهلع من المرض والإسراف المبالغ فيه في تناول الدواء? هل صحت الأبدان واكتسبت مناعتها أم أن ضرر الاستهلاك أصبح كبيرًا؟

          يقول د. صبري القباني: «مع كل الشكر لجهود الطب والأطباء في مكافحة الأمراض الجماعية أو الفردية عن نفوس البشر ولكن كل تلك الجهود لم تغن شيئًا عما سُلب منهم من روح المقاومة الطبيعية أو ما يسمى بالمناعة، ولقد أفسد الطب الدوائي الحياة على الأحياء، وجعلها هشة رقيقة لا تصمد لعوادي الزمن وتقلبات الطبيعة».

          لا يظن ظان أن هذه السطور - وغيرها كثير - تدعو إلى عدم طلب الدواء بغية الشفاء، فنحن مأمورون بذلك شرعًا وواقعًا، ولكننا تتساءل عن الأسباب التي تجعل الدواء في أحايين كثيرة غير فعال بل قد يكون خطرًا محضًا؟ وعلام استند هذا التيار المتنامي ممن يحذرون من كثرة تناول الدواء وخطورته على مناعة الأجسام وعافية الأبدان؟

الأسباب التي تحول دون الفاعلية

          المناعة الدوائية Drug resistence كاكتساب مسببات (بكتيرية، فيروسية، طفيلية أو غيرها) لمناعة تبقيها حية ومتكاثرة محدثة أعراضًا مرضية، على الرغم من إعطاء المرضى الدوائيات الفاعلة ضدها، وهذه المناعة الدوائية قد تكون طبيعية في عترات خاصة كالمكورات العنقودية ضد البنسلين ومن ثم تورثها لأجيالها اللاحقة، ومنها ما هو مكتسب عرضًا من جرعات دوائية دون المستوى العلاجي. كما أنها قد تأخذ صورة سريعة أو بطيئة الحدوث، وقد تمتد هذه المناعة الدوائية للعديد من الدوائيات والعقاقير المتشابهة في تركيبها الكيميائي وإن اختلفت في استخداماتها العلاجية فيما بات يعرف بالمناعة التصالبية (Cross resistence).

          - يتأثر أطفالنا وهم أجنة، وخصوصًا في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، ببعض العقاقير التي تستطيع عبور الحاجز المشيمي، وتصل إليهم لتحدث آثارًا جانبية بالغة، كما أن هناك عقاقير قد تؤثر في أبدان الرضع من خلال إفرازها في لبن أمهاتهن.

          - يمثل الغذاء الصحي والآمن أحد أهم الأسباب في تقوية مناعة الأجسام وعافية الأبدان، فالغذاء المحتوي على إضافات دوائية ومنشطات النمو ومنها دوائيات بيطرية تربو على أربعة آلاف نوع تستعمل في مجال الوقاية وعلاج أمراض الحيوان، والطيور والأسماك (من أمثلتها: الكلورامفينيكول، الهرمونات الصناعية، مركبات السلفا، مركبات الفيوران، مضادات الطفيليات، والمهدئات، غالقات مستقبلات بيتا الدرينالين، المبيدات الحشرية، الكيماويات الصناعية، الصبغيات الصناعية المستخدمة في ختم اللحوم، السموم الفطرية، فضلاً عن الإضافات الفسيولوجية من الفيتامينات والأملاح المعدنية والأحماض الأمينية). تكمن خطورتها في متبقيات Residues هذه الأدوية باللحوم والمنتجات الحيوانية إذ تعدت الحدود المسموح بها، وتم الإفراط في استعمالها من المربين، أو إذا تم تناول هذه الأغذية قبل مضي الوقت المحدّد لسحب وتبدد هذه المتبقيات. وما انتشار أنواع من الحساسية والمناعة الدوائية، والتحورات الوراثية وتشوهات الأجنة وعاهات الأطفال، واحتمالات ظهور بعض الأورام السرطانية إلا بعض أضرار هذه المتبقيات الدوائية الحيوانية.

          - كثيرة هي الأدوية التي يتم استخدامها فقط لوجودها في خزانة الدواء في منازلنا، اكتفاء بالاطلاع على دواعي استعمالها، دون العلم بالتداخلات الدوائية أو الأعراض الجانبية لسوء استخدامها.

          - كثيرة هي الأدوية التي يتم شراؤها مباشرة دون وصفة أو استشارة من طبيب، وهناك اعتقاد شائع بأن المضادات الحيوية يمكنها شفاء أي/ كل مرض، فتجد كثيرًا من المرضى يلحون في صرف مضاد حيوي لعلاج علتهم، ومن ثم يوصف فقط إرضاء لهم بدلاً من نصحهم وتوعيتهم بالأخطار التي قد تنجم عن تعاطيه، أو عدم جدواه كأن تكون علتهم من التهاب فيروسي، كالرشح والإنفلونزا. إن المضادات الحيوية لها دور مهم في علاج العديد من الأمراض، ولكن باتباع إرشادات سليمة يكون لها الأثر الإيجابي والفعال، في حالات بعينها يستلزم وصف أكثر من مضاد حيوي لزيادة فعاليتها، ولتقليل الآثار الجانبية، ولتقليل جرعة الدواء، وفي الحالات التي تهدد حياة المريض، ولكن يكون ذلك ضمن تقويم المنافع والمضار.

          - عند وجود تحسس ما من أحد العقاقير يجب على المريض إخبار الطبيب بذلك، ويجب عمل فحوص للحساسية حتى لا تتفاقم الأعرض.

          - تتأثر عافية الأبدان بسبب أن بعض الناس قد يتبادلون الأدوية والعقاقير ويصفونها لغيرهم، مع أنها إذا كانت فعالة ضد علل بعينها، فقد لا تكون مناسبة لمريض آخر.

          - تتأثر مناعة الأجسام بخصائص الدواء، وبجرعاته الموصوفة/استهلاكه المفرط، وفترات تعاطيه، وتأثره بأغذية/ أشربة بعينها، واستعمال عقار في علل لا تحتاج إلى معالجة بل تشفى ذاتيًا.

          - يتأثر الجسم بالتداخلات الدوائية، فعندما يتناول المريض أكثر من دواء في وقت واحد فقد يزيد/ يقلل/ يعاكس أحدهما فعالية الدواء الآخر مؤديًا إلى آثار جانبية على صحة الإنسان.

          - تتأثر عافية الأبدان بما قد تسببه بعض العقاقير في قتل المفيد من بكتيريا الأمعاء، مما يسهل إصابتها بهجمات خمجية تؤدي إلى عدوى جديدة يصعب علاجها.

          - العديد من المرضى لا يستمرون في تناول العلاج بعد انخفاض الحرارة أو بعد انتهاء علبة الدواء، أو يتناولون عقارًا آخر دون مراجعة الطبيب، رغم أنه لا ينبغي إيقاف تناول العلاج إلا عند تحسن الحالة الصحية، وإكمال المدة المحددة للعلاج، لأن ذلك قد يؤدي إلى ظهور العلة مرة أخرى وقد تكتسب مسبباتها مناعة بحيث لا تتأثر بالدواء مستقبلا.

          - وخارج إطارها الطبي.. كثيرة هي الأدوية والعقاقير التي يتناولها الناس - وتسبب تدمير أجسامهم وعافية أبدانهم - ظانين أنها تحقق راحتهم أو تمدهم بالنشاط واليقظة (كالأمفتامين/ النيكوتين للطلاب وسائقي الشاحنات)، أو بدافع من تجريب تأثير مفعولها (العقاقير المهلوسة)، أو ظنًا أنها تساعدهم على الهروب من واقع مؤلم لآخر مبهج (المخدرات: كالمنومات مثل الباربيتيورات، والمهدئات مثل البنزودايزبينات، والمسكنات المخدرة والمورفين والهيــــــــرويـــن، والكحوليات، والمنبهات المنشطة كالأمـــفتـــامين، والكوكايين، والمهلوسات مثل الحشيش، وعقار إل. س. دي) دون العلم أن هذه العقاقير والمواد تؤثر في أجهزة الجسم وبخاصة الجهاز العصبي فتؤدي إلى تحملها (Tolerance)، ثم التعود عليها (Habituation)، ثم إدمانها (Addiction)، والاعتماد عليها (Dependence)، ومن الصعوبة وضع خط فاصل بين التعود والإدمان على العقاقير (ومن أمثلة ذلك النيكوتين/ التدخين)، وبين الرغبة/ الميل/ الراحة لتناوله (التعود) وبين إجبار الجسم للشخص المصاب على تناول العقار (الإدمان)، والوضعية الأخيرة هي الأخطر على الإطلاق، إذ قد يصعب علاجها، فالاعتماد قد يكون نفسانيًا Psychological، فلا يرتاح المرء حتى يتناول هذا العقار، أو هو جسماني Physical يؤدي إلى الوفاة (كما في حالة الاعتماد على الكوكايين).

الحاجة إلى الترشيد

          تتجه فلسفة الطب العالمي - حتى في الغرب - إلى تحجيم الإفراط في استخدام الأدوية، والاستفادة من الطب البديل (الطب الشرقي) بعد طول سيادة لفلسفة وأسس ومناهج وممارسات الطب الغربي، فحبذا لو أسهمنا بما لدينا - وهو كثير - في مجال توجيهات الطب الوقائي في حضارة الإسلام.

          - لقد وضعت حضارة الإسلام أسسًا عامة تضمن على الناس عافيتهم ووقايتهم من الأمراض، فهي تحض على رعاية النفس وإحاطتها بسياج من الرضا والطمأنينة، فالأمور بمقادير، كذلك البعد عن كل المشاعر السلبية من هم وغم وحزن وقلق وغصب وخوف، والتي من شأنها أن تغيّر الحالة النفسية للإنسان، ومن ثم مناعته ومقاومته للأمراض، فأمور الصحة النفسية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالجوانب العضوية، فإذا انتظمت الأولى توازنت الثانية، فالناس من خوف المرض في مرض، إذ يقعد بهم الوهم ليموتوا بأوهامهم لا بعلة من العلل المحسوسة فالخوف والقلق والاكتئاب هي داء العصر، والطب الحقيقي هو من يصرف الجهود لزرع الأمل والقوة والتفاؤل بين الناس، ويكفي أن: «من أصبح آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».

          - وحتى الابتلاء بالمرض وغيره هو بمنزلة صفحة نقية في حياتنا: «لايزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه من خطيئة»، فالصبر عند كل مصيبة والثقة في الحكمة العليا، التي قد نجهلها، ومحاولة تلمّس أثرها في حياتنا كفيل ألا نهلع من مرض أو علة حتى تمر، ونرشد في تناول الدواء.

          - مراعاة الأنماط والعادات الغذائية الصحية والمفيدة والآمنة، ودوام النظافة والاعتدال في كل مناشط الحياة والحفاظ على البيئة، ومقاومة العدوى، ومتابعة الأنشطة الرياضية، وفق أهم أسس الصحة الوقائية: الاعتدال وعدم الإسراف، يقول تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين .

          - التشخيص الدقيق والسليم للمرض، مع عزل الميكروب المسبب للعلة، وإجراء فحوص لمدى حساسيته لأي من المستحضرات الدوائية، ومن ثم وضع العلاج المناسب والكامل باستخدام دواء قوي وفعّال وآمن وبجرعات صحية وسليمة ولمدة كافية لتنتهي المعاناة مع أقل قدر ممكن من الاختلاطات الجانبية للأدوية المختارة.

          - نشر الوعي الصحي والدوائي بصفات وخصائص العقاقير المهمة والشائعة الاستعمال من حيث: تركيزها في الجسم وطريقة طرحها منه، وسمية الدواء وآثاره الجانبية، وكلفة الدواء.

          - خلاصة القول: مع ارتفاع أسعار الأدوية والعقاقير واحتكارها من قبل شركات عالمية، يزداد القلق من هذا الغول القادم الذي يتهددنا، ويكرّس العجز عن الوفاء باحتياجات الدواء، فيبقى «درهم الوقاية خير من قنطار العلاج»، فالدواء سلاح ذو حدين، وترشيد  استعماله يصبح ضرورة ملحة على جوانب عدة: لحماية الأوطان من (ضغوط سلاح الدواء)، فكفانا ضغوطًا، وكذلك لزيادة مناعة الأجسام، وعافية الأبدان، وصحة وسعادة المجتمعات «وقد يكون الفقر خلوًا من المال، ولكن أقبح الفقر الخلو من العافية، والغنى أن تملك الدنيا، ولكن أحسن الغنى أن تهنأ في الدنيا».

 

ناصر أحمد سنه