اللغة حياة

اللغة حياة
        

المواضيع أم الموضوعات?

          يعترض بعض الأكاديميين على جمع «موضوع» على «مواضيع»، رائين أنّ الصواب هو «موضوعات»، ولا غرابة في ذلك لأننا لو تصفّحنا الكتب الحديثة، ولا سيّما ما صدر منها في مصر، نجد أنّ فهرس المحتوى يسمى غالبًا «فهرس الموضوعات» ونُلفي كلمة «موضوعات» مستخدمة غالبًا، في متن الكتاب. كما أننا نجد ابن خلدون لا يستعمل في مقدّمته المشهورة إلا هذه الصيغة فيقول، مثلاً: «يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها» و:«الكلام على موضوعات اللغة»، وغير ذلك.

          لكنّ ثمة فئة ثانية تفضّل الجمع على «مواضيع» استنادًا إلى قواعد الصرف والقياس، فابن يعيش يقول: «إذا كثر استعمال الصفة مع الموصوف، قويت الوصفيّة، وقلّ دخول التكسير فيها، وإذا قلّ استعمال الصفة مع الموصوف، وكثر إقامتها مقامه، غلبت الاسميّة عليها، وقوي التكسير فيها»، وربّما لجأ ابن يعيش هنا إلى التغليب، لا التعميم، من أجل استثناء بعض صفات العاقلين، مثل عالمة وعالمات، ومعروف أنّ الأصل في الأسماء المؤنثة التي لا تكون أعلامًا للعاقلات، وفي الأسماء والصفات غير المقرونة بتاء التأنيث، أو غير الدالة على التفضيل، أن تُجمع جمع تكسير، وأنّ الأصل في الصفات المشتقة عامة أن تجمع جمعًا سالمًا. والقاعدة تقول: إن الأسماء الثلاثية الأصل التي تبدأ بميم زائدة وقبل آخرها حرف مدّ زائد، تجمع على مفاعيل، ومن ذلك ما كان على وزن مفعول ومفعولة، نحو: مدخول، مداخيل، مقصورة، مقاصير.

          ويغلب على الصفة، إذا خرجت إلى الاسميّة وأوغلت فيها حتى صار لها مفهوم خاص مختلف عن أصل معناها، أن تعامل معاملة الأسماء، وأن تُجمع جمع تكسير، أمّا إذا ظلّت مطابقة لمعناها الأصليّ، موحية بموصوفها، استُعمل مؤنّثها المفرد للدلالة على جمع الأشياء، واستعمل جمعها المؤنّث السالم للدلالة على جماعة العاقلات أو على قيام الصفة مقام الموصوف مع احتفاظها بمعناها الأصليّ، فجمع «مجرور»، مثلا، هو مجارير: إذا أردنا أنابيب المياه الضخمة أو ما أشبهها، ومجرورات: إذا أردنا الكلمات المجرورة. وقد كان حق هذه الكلمة أن تقال: مجرورة، لأنّها صفة لجمع الأشياء، نعني لجمع الأسماء أو الصفات، لكنّ أهل اللسان العربيّ استعاروا لها جمع المؤنث لسالم للتنبيه على أنّها جمع وليست مفردًا، ولم يفعلوا ذلك للدلالة على القلّة أو الكثرة. ولذلك جمعوا محصول على محاصيل، ومفعول على مفاعيل، لكنهم جمعوا مرفوع ومنصوب على مرفوعات ومنصوبات، فالمحصول في الأصل، هو صفة لما حصل عليه الإنسان، لكن هذه الصفة دخلت في الاسمية وأوغلت فيها، بعد أن أصبح لها معنى مختلف، هو ما نجمعه بعد الحصاد أو غيره، فجُمعت جمع الأسماء، وكذلك المفعول، هو في الأصل صفة لما قام الإنسان بفعله، فإذا أردنا أن نشير إلى أمور فُعلت قلنا: مفعولات، أمّا إذا أردنا أن نشير إلى المفهوم النحوي الخاصّ، الدال على ما وقع عليه الفعل في الجملة، قلنا: مفاعيل. وشأن المصطلحين النحويّين: «مرفوع» و«منصوب» أيضًا، هو شأن مصطلح «مجرور». وبقول آخر، إذا خرجت الصفة إلى الاسميّة فيغلب عليها أن تجمع جمع تكسير، مثل: مصيبة، مصائب، أسير، أسرى، أُسارى، ولا يقال أسيرون، وسبية، سبايا، ولا يقال سبيّات، مع جواز ذلك قياسًا.

          وموضوع بمعنى الشيء الذي نخضعه للنظر والتفكير وللبحث، هو صفة انتقلت إلى الاسميّة وأوغلت فيها، بحيث تركت معناها الأصليّ، وهو الدلالة على ما وقع عليه فعل الوضع، إلى معنى النظر والبحث، ولذلك من المفضّل جمعها جمع تكسير، أي على مواضيع، أمّا موضوعات فتبقى صفة لجمع الإناث أو الأشياء التي توضع، وجمعًا لمصطلح «موضوعة» الذي ابتدعه أهل عصرنا ترجمة لكلمة théme الفرنسية أو theme الإنجليزية، وجمعوه على موضوعات.

          وعلاوة على ذلك، فإن كلمة موضوعات قد استعملت قديمًا للأحاديث الموضوعة (لابن الجوزي كتاب اسمه «الموضوعات») وكذلك للمؤلّفات، ولانعلم إن كان أحد قبل ابن خلدون قد استعمل الكلمة بمعنى المواضيع.

          وكلّ تلك الأسباب تسوّغ جمع المصطلح «موضوع» على مواضيع، لأن من شأن ذلك رفع اللبس بالتفريق بين مفاهيم متعددة: الشيء الخاضع للتفكير والدرس، والفكرة التي نعالجها أو نبرزها، والأحاديث المخترعة، والمؤلَّف، وإن كان ثمّة اعتراض محتمل، وهو أنّ هذه القسمة غير عادلة، واللبس غير مأمون، إذ نحن نفرد للفظ واحد جمعًا خاصًا هو مواضيع، ونشرك ثلاثة ألفاظ ذات مفاهيم مختلفة بجمع واحد، هو موضوعات. وهو اعتراض في محلّه، وإن بدا أحد تلك المصطلحات محصورًا بميدان الحديث النبويّ، وبدا مصطلح آخر منها مهملاً، أو كاد يكون استعمالاً خاصًا، وهو الذي بمعنى المؤلفات، وعلى كلّ حال، فإنّ جمع «موضوع» على موضوعات لا يحلّ المشكلة بل يزيدها تعقيدًا، لأنّه يجعل هذا الجمع شركة بين أربع كلمات لا ثلاث.

 

مصطفى الجوزو