جمال العربية

جمال العربية
        

الشريف الرضّى: شاعر الألم والكبرياء

          نعم، لابدّ أن نلتمس مكانه ومكانته في طبقة الكبار من شعراء العربية، وشعراء العصر العباسي بوجه خاص، شامخًا، مهيبًا، مُعتدًّا بنسبه ومناقبه وشاعريته، جليل السّمت، وضيء المُحيّا، مجاورًا لشعراء القامة الكبيرة وهم: أبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري وأبوفراس الحمداني. شعره قرين أشعارهم، وندٌّ لعلوّ كعْبهم في مقاميْ التعبير والتصوير.

          هذا هو الشريف الرضّي، الذي ولد وعاش وتوفي بالعراق، بين عامي ثلاثمائة وتسعة وخمسين، وأربعمائة وستة هجرية - سبعة وأربعون عامًا اتسعت - على قصرها وسرعة انقضائها - لفيض هذه العبقرية الشعرية، ولتوزّع إنجازه الضخم على مدارات البلاغة والأدب والمختارات والنقد والفقه. وهو الذي محّصْته الأحداث والنوازل الجسام، التي حاقت بالخلافة في زمانه، فإذا بأركانها تهتزّ وتوشك أن تتداعى، وإذا بأيدي التآمر الأجنبي تصل إلى أبعد مدًى من التخريب. ولم يكن التخريب مقصورًا على البنيان والعمران والأركان، وإنما كان في الأساس تخريبًا في روح الإنسان، وتدميرًا لما تبقى فيه من هويّة وكيان.

          الذين قدموا لمختاراته في مناسبة الاحتفال بالذكرى الألفية لوفاته - عام 1985 - وهم: علي جعفر العلاق ومحمد جميل شلش ومحسن أُطيمْش - أشاروا إلى نفسه الأبية الرافضة الطموح، وكيف كانت موزعة بين الأسى والانكفاء حينًا، والرفض والتمرّد والثورة حينًا آخر، محاولاً - عبر جهاده ومنازعاته ومكابداته - أن يردّ للدولة العربية هيبتها، ولكنه لم يفلح، وللإنسان العربي مجد دولة، وإشراق حضارة، ورفعة هامة، فَضنّت عليه بذلك الأيام!

          كما يشيرون إلى تصانيف الشريف الرضي - أوحد علماء عصره - وهي كثيرة ومتعددة الجوانب، من بينها: كتاب حقائق التأويل في متشابه التنزيل، وكتاب مجازات الآثار النبوية، وكتاب نهج البلاغة (وهو يضم ما اختاره من كلام الإمام علي)، وكتاب تلخيص البيان عن مجازات القرآن، وكتاب الخصائص، وكتاب سيرة والده، وكتاب منتخب شعر ابن الحجاج سمّاه «الحسن من شعر الحسين» وكتاب أخبار قضاة بغداد، وكتاب رسائله في ثلاثة مجلدات.

          نحن إذن مع شاعر موسوعي الثقافة والمعرفة، عميق التخصص في علوم عدة وآفاق رحبة. لكن الدهر لم يكن على هواه، والزمن لم يكن يمضي في ركابه. فقد تكسّرت أحلامه وتناثر طموحه على صخرة الواقع المتردي في بغداد عاصمة الخلافة، وآلت الأمور ليد الطامعين من بني بويه، وكان انفجار روحه أسى، وتمزق عاطفته شعرًا مشحونًا بالشجن والألم والكبرياء، تعبيرًا عن هجائه لعصر، ونقمته على واقع وحياة. ولا يكاد يُذكر الشريف الرضى إلا وتتقافز إلى  الذاكرة أبياته الثلاثة:

ولقد مررتُ على ديارهمو وطلولها بيد البلى نهْبُ
فوقفْتُ حتى ضجَّ من لغبٍ نِضْوى، ولجَّ بعذْلَى الرّكْبُ
وتلفّتتْ عيني، فمُذْ خفِيتْ عنها الطلول تلفّت القلبُ


          وهو المبدع دومًا في أبياته القليلة العدد، المتوهجة بفنّه الشعري العالي، حين يقول:

أشكو إلى الله قلْبًا لا قرارَ له قامت قيامته والناس أحياءُ
إن نال منكم وصالا زاده سقمًا كأنّ كُلّ دواءٍ عنده داءُ
كأنّ قلبي يوم البيْنِ طار بِه من الرِّفاع نجيبُ السّاقِ عَدّاءُ


          ويقول في دعوة أطباء العراق لينظروا في حال سقامه، وهم لن يغنوا في أمر الحبّ شيئًا، لأنهم يُجسّون النابضينْ، ولو دروا بالحقيقة لجسّوا النوابض التي تُثقل قلبه وتملأ عليه شعوره ووجدانه:

دَعوْا لي أطباء العراقِ لينظروا سقامي، وما يُغني الأطباءُ في الحبِّ
أشاروا بريح المندل الرَّطب والشذا وردّ ذماء النفس بالبارد العذْبِ
يطيلون جَسّ النابضين ضلالةً ولو علموا جسّوا النوابض في قلبي


          فإذا انتقلنا إلى لوحة شعرية من لوحاته الفاتنة، وجدنا روحًا إنسانية وشعرية طالعناها - من بعده - في شعر أبي فراس الحمداني، ووجدنا معجمًا شعريًا تتناثر فيه لُمع الحمى والمجد والعرفان والكبرياء والعزّ وجند الليالي وحرّ الطعن ووطر العليا، وركوب القنا، والطعن والليث، ويوم الوغى والسيف المنتضى، إلى آخر هذه الحبّات من عِقْد العنفوان والبطولة والفروسية، تمزج بين الحَكمَة والشعر، ورجل الدولة والمقاتل، والشباب الطامح وقناعة صاحب العزّ والعلياء.

          نحن إذن في خضم عالم شعري يموج ويخفق ويضطرب، عالم لا يعرف الهدوء أو السكون، فوّار دوْمًا وصاخب باستمرار، وعتي في مدّه وجزْره، يرفده امتلاء نفس واعتزاز أرومة، ورغبة عتيّة في التصدي والمواجهة حتى الرمق الأخير.

          يقول الشريف الرضي، متنقلاً على عادة شعراء زمانه - وعادة سابقيهم ولاحقيهم - من مقام الغزل والنسيب إلى مقامات الفخر والرّد على الأعداء والحاقدين والتأمل والحكمة النافذة:

هل الطَّرْفُ يُعْطَي نظرةً من حبيبه؟ أم القلب يلْقى راحةً من وجيبِه؟
وهل لليالي عطْفةٌ بعد نَفْرةٍ تعودُ فتلهى ناظرًا من غُروبِه
ولله أيامٌ عفوْنَ كما عفَا ذوائبُ ميّاسي العرارِ رَطيبهِ
أحنُّ إلى نوْر الرُّبى في بطاحِه وأظمأ إلى ريّا اللِّوى في هُبوبِه
وذاك الحمى يغدو عليلاً نسيمهُ ويُمسي صحيحًا ماؤُه في قليبِهِ
حَببْتُ لقلبي ظلّهُ في هجيرِهِ إذا ما دجا، أو شمْسَهُ في ضريبهِ
وعهدي بذاك الظبي إبّانَ زُمْرته رعاني ولم يحفلْ بعينيّ رقيبِه
وحكّم ثغري في إناءِ رُضابِهِ وأدْنى جوادي من إناءِ حليبِهِ
هو الشوق مدلولاً على مقتل الفتى إذا لم يَعِدْ قلبًا بِلُقْيا حبيبِه
تُعيّرني تلويح وجهه، وإنما غضارته مدفونةٌ في شحوبه
فرب شقاءٍ قد نعمنا بمرّه وربّ نعيمٍ قد شفينا بطيبه
ولولا بواقي نائباتٍ من الرّدى غفرتُ لهذا الدهر باقي ذُنوبهِ
وإني لِعرفانِ الزمانِ وغَدْرِه أبيتُ ومالي فكرةٌ في خطوبهِ
وأُصبحُ لا مستعظمًا لعظيمهِ بقلبي ولا مستعجبًا لعجيبهِ
يغُمّ الفتِى ذكْرُ المشيب، ورُبّما يُلقَّى انقضاءَ العُمرِ قَبْلَ مشيبهِ
ويُنسيه بدْءُ العيش ما في عقيبهِ وجيئته تُبدي لنا من ذُهوبه
إلى كمْ أشقُّ الليل عن كلّ مهمهٍ وأرعى طلوع النجم حتى مغيبهِ
أخطّ بأطراف القنا كُلّ بلدةٍ وأُملي جلابيب الملا من نُدوبهِ
وكنتُ إذا خوّى نجيبٌ تركْته أسير عقالٍ مؤلمٍ من لُغوبِه
رجاءً لعزٍّ أقتنيه وحالةٍ تزيدُ عدوّي من غواشي كرُوبه
وبزُلاءَ من جُند الليالي لقيتُها بقلبٍ بعيد العزم فيها قريبهِ
نَصبْتُ لها وجهي وليس كعاجزٍ يُوقّيه حرّ الطعن من يتقي بهِ
وخيلٍ كأمثال القنا تحملُ القنا على كلّ عنْقٍ عاقدٍ من سبيبهِ
حملتُ عليها كُلّ طعّانِ سُربةٍ كما نهزَ الساقي بجنبي قليبه
قضى وطرَ العلياءِ من ركب القنا وأوْلغَ بيضًا من دمٍ في صَبيبهِ
وكم قعدةٍ مني أقمتُ ببأْسها إلى الطعن ميّاد القنا في كُعوبهِ
ولما ركبتُ الهولَ لم أَرْضَ دونَهُ ومن ركب اللّيْثَ اعتلى عن نجيبِه
تُريح علينا ثلّة المجد شُزبٌ تُغالي، وأَيْدٍ من قنا في صليبهِ
وابيضّ من علْيا معدٍّ، بَنانُه مقاومُ ريّان الغِرارِ، خَصيبِهِ
أخفُّ إلى يوم الوغى من سنانِه وأمضِي على هام العدى من قضيبهِ
هل السيفُ إلا مُنْتضىً من لحاظهِ أو البدرُ إلا طالعٌ من جُيوبِهِ
إذا سُئلَ انهال النّدى من بنانهِ كما انهال أذيالُ النّقا من كثيبه
جوادٌ إذا ما مزّق الذَّوْدَ عضْبُه أذاع النّدى من جُرْدِه بعد نسيبهِ
يسيرُ أمام النجم عند طلوعِه ويهوي أمام النجم عند غُروبهِ
رضيتُ به في صدر يوم عجاجِه على شمسِه عاريّةً من سُهوبه
مضى يحرسُ الأقران بالطعن في الطّلى وقد لجَّ نقابُ القنا من نعيبهِ


          ثم يفخر الشريف الرضي بانتمائه إلى آل بيت الرسول الكريم، ومحتده الشريف، ونسبه العريق، قائلاً:

أنا ابنُ نبيِّ الله، وابنُ وصيّه فَخارٌ علا عن ندّه وضريبهِ
تأدّب مني رائعُ الخطْبِ بعْدمَا تجلّى سفيه الجدّ لي عن أديبه
فوالله لا ألقى الزمانَ بذلةٍ ولو حطّ في فودي أمضى غُروبِهِ
قنِعْتُ؟ فعندي كلّ مَلْكٍ، نزولهُ عن العزّ والعلياءِ، مثْلُ ركوبِهِ
وما أسفي إلا على ما جَلوْتهُ على سمْعِ مَنْزورِ النوالِ نَضُوبهِ
وعنْونَ لي إطراقهُ عن قُطوبه إذا ما رآني قطع اللحْظَ طرْفهُ
جعلْتُ ضروبَ الذمّ أدنى نصيبهِ ومن لم يكن حمدي نصيبًا لبِشْرِه
وكان مكان الذمّ ردعُ جُيوبهِ ولو أنّ عضْبي ممكنٌ ما ذممْتهُ
إذا طمعا من بارقٍ في خلوبهِ وإنّ عناءَ الناظريْنِ كليهما
أُعابُ بشعري، والذي أنا قائلٌ يقُلقلُ جنبيْ عائبٍ من معيبه
وكلّ فتىً يرنو إلى عيْبِ غيرهِ سريعًا، وتعْمى عيْنُه عن عُيوبهِ
وما قولي الأشعارَ إلا ذريعةً إلى أملٍ قد آن قوْدُ جَنيبه
وإني إذا ما بلّغ الله مُنْيتي ضمنْتُ له هجْرَ القريض وحُوبِه
فهل عائبي قولٌ عقدْتُ بفضْلِه فخاري، وحصّنتُ العلا بضروبه
سأتركُ هذا الدهر يرغُو رُغاؤُه وتصرفُ من غَيْضي بوادي ثُيوبه
وأجعل عَقْبي دون وجهي وقايةً ليأْمنَ عندي ماؤه من نُضوبهِ


          وفي موضع آخر من شعر الشريف الرضيْ، إبداعات كاشفة عن طبقة القرار البعيد من نفسه ووجدانه، حيث تكمن رقْته في فطْرتها الحانية، ورهافة حسّه في مجلى شفافيتها وعذوبتها وعمق تأثيرها. هنا لا اعتداد بالنفس ولا جموح ولا شطط ولا كبرياء، وإنما اللحظة الشعرية والنفسية للبوْح والإفضاء، والكشف عن ظمأ القلب وطلب العدل من المحبوب، يقول الشريف الرضيّ في واحدٍ من هذه الإبداعات والانطلاقات:

هل ناشدٌ لي بعقيق الحمى غُزيّلاً مرَّ على الرَّكْبِ
أفلتَ من قانصيه غرّةً وعاد بالقلب إلى السِّرْبِ
وأظمأ القَلْب إلى مالكٍ لا يُحسنُ العدْلَ على القلْبِ
يَعْجبُ من عُجبي به في الهوى واعجبي منه ومن عُجْبي
أقربُ بالودّ، ويَنأَى به ويْلي على بُعدكَ من قُرْبِ
مُنعّمٌ يعطفُ منه الصّبا لِعْبَ الصّبا بالغُصُنِ الرَّطْبِ
أما اتقى اللهَ على ضعْفه مُعذّبُ القلبِ بلا ذنْبِ
يا ماطلاً لي بديونِ الهوى منْ دلَّ عينْكَ على قلبي!


 

فاروق شوشة