إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

الديكامرون

          أخيرًا ظفرت المكتبة العربية بترجمة كاملة من «الديكامرون»، فهذا الكتاب الذي يعد من معالم الثقافة الإيطالية والعالمية ظللنا لفترة طويلة لا نعرفه إلا من خلال ترجمة شديدة الاختصار صدرت في الستينيات ضمن سلسلة «مطبوعات كتابي»، ولكن أخيرًا هاهو المترجم السوري القدير صالح علماني يعطينا تلك الفرصة النادرة لقراءته بالكامل، ورغم أن المترجم متخصص في الترجمة عن اللغة الإسبانية، و هذا الكتاب إيطالي، ولا أدري من أي لغة نقله، ولكن لا يهم، فهذا الكتاب كان موجوًدا في كل اللغات ماعدا لغتنا، وهو من تأليف جيوفاني بكاشيو الذي عاش في القرن الرابع عشر في مدينة فلورنسا، ولابد أن مسًا من سحر ألف ليلة وليلة العربية قد أصابه فكتب متأثرًا بها، وقد ساهم بذلك في انتقال الأدب الإيطالي من التصورات الأسطورية التي كانت تدور حول تحكم الآلهة وصراع الأبطال إلى دنيا الواقع، إلى مدن إيطاليا التي كانت تشهد مولد الطبقة البرجوازية، من بقايا فرسان وتجار ومثقفين وعشاق وغانيات. والديكامرون تعني الأيام العشرة، وهي المدة التي تدور فيها أحداث الكتاب، ففيه مائة حكاية، تروى على لسان عشر شخصيات (سبع نساء وثلاثة رجال)، وليس على لسان امرأة واحدة كما فعلت شهرزاد. وقصة الكتاب أن هذه الشخصيات قد اتفقت على الهروب من مدينة فلورنسا التي كان يعمها وباء الطاعون، واللجوء إلى قصر وسط الريف، بعيدا عن رعب الموت، وفي كل يوم تنصب الشخصيات العشر من بينها ملكا، ويأمر الملك كل واحد منهم أن يروي قصة، وبالفعل يروي كل واحد، ليس قصة واحدة ولكن عشر قصص ليكتمل عددها مائة قصة، تتحدث عن كل شيء، عن الحكمة والحماقة، الفكاهة والحزن، التاريخ والحاضر، الفضيلة والجشع، العشق والهجر والوصل والخصام. وتأخذ الموضوعات الأخيرة الحصة الأكبر في الحكايات، بحكم أن معظم الحاضرات كن من النساء، ولكن الأمر الذي أثار حنقي في معظم هذه القصص هو قسوتها علينا، نحن الأزواج المساكين، فالزوج لا يستطيع ولا يقدر على مقاومة مكائد المرأة وحيلها الجبارة خاصة عندما يظهر في حياتها عاشق، فالزوج دائم الغفلة والحماقة، ومثير للملل بينما يتمتع العشيق بذكاء وخفة دم ورغبة لا تهدأ، وهو ينتصر دائما في النهاية، لبراعته أحيانًا، ولأن الزوجة تقدم له المساعدات والتسهيلات في أغلب الأحيان. ومهما كانت الزوجة تعيش داخل حصن من الأسوار والغيرة وسيوف الحرس، فالعشيق يستطيع أن يتخطى كل الفخاخ ليصل إليها، المسألة إذن ليست عادلة كما ترون، فالزوج وحده يتحمل اللوم والعقاب والسخرية منه في معظم الأحيان بينما تنعم الزوجة وعشيقها بكل المتعة. وقد كان الصينيون القدماء أكثر عدلًا، فعندما كانت الزوجة تخون زوجها للمرة الأولى، كان القانون يأمر بجلد العشيق لأنه هو الذي أغواها وأثر على عواطفها. وإذا تكررت الخيانة للمرة الثانية فالزوجة كانت هي التي تجلد لأنها لم تستطع أن تكبت غرائزها وتصون اهواءها، ولكن إذا تكررت الخيانة للمرة الثالثة، يجلد الزوج لأنه قصر في واجباته، ولم يستطع المحافظة على زوجته. أي أن الزوج كان يعاقب في نهاية الأمر، وليس من الجولة الأولى كما فعلت الديكامرون، فالوازع الأخلاقي في الحكايات ليس متشددا، ولكن الطابع الحسي هو الأكثر بروزًا، ولكن علينا ألا ننسى أنها قد كتبت في مواجهة الموت، ومافيها من حسية هو نوع من الشغف بالحياة، فقد كان بكاشيو يكتب وسط أهوال وباء الطاعون الذي يضرب فلورنسا الجميلة، ويحاول أن يقبض على لحظات تنفلت فيها الحياة هاربة، وأمام سطوة الموت كانت رغبته أن يكتب عن نشوة الحياة، فترك لنا تلك التحفة الفنية الممتعة.

 

محمد المنسي قنديل