فيروز سفيرة النجوم

فيروز سفيرة النجوم
        

          فيروز ليست مغنية عادية، إنها صوت الراحة الوحيد وسط الشقاء العربي. عزاء وسلوى وحب وشجن وسط ضجيج عالم لم يكف عن التقاتل بسبب أو من دون سبب. رافقتنا نغمات صوتها من براءة الصبا، إلى قسوة النضج. تغنت معنا بأحلام المجد العربي، وبكت لمدننا الضائعة وأرواحنا المنكسرة، وفي كل هذا حافظت على صوتها حارًا ومتدفقًا وعلى غنائها قويًا وعذبًا. كانت أشبه بشريان للحياة لم تعكره الصراعات العربية ولا الهزائم المتوالية. ظل ساميًا وشاديًا وسط عالم تسوده الفوضى والعشوائية. هذه هي قيمة صوت فيروز الحقيقية، إنها علت بنا وبالأرض التي نعيش عليها حتى تخيلنا أنه يمكن ملامسة النجوم. إنه سحر الغناء الذي لم تقدر عليه ساحرة أخرى مثل فيروز.

مشاهد متفرقة.. لصوت خجول

لسان حال الجميع .. رغم كل الانقسامات الطائفية والسياسية.. لقد جئنا لنستمع فقط إلى فيروز.

  • مشهد أول

          تقول الحكاية إن «مجلس» عائلة الرحباني اجتمع، ما إن تفاقمت الحرب اللبنانية في جولاتها الأولى حوالي العام 1976، وراح يفكر في أفضل الطرق لعبور الحرب من دون خسائر كبيرة. فلبنان في ذلك الحين كان مقسمًا، بين كل شيء، وكل شيء تقريبًا. في العمل والمؤسسة الفنية والعائلية - الرحبانية - ترى نفسها مع الجميع وعلى عكس الجميع في الوقت نفسه، كان المطلوب الوصول إلى حل لا يقوم على السكوت والاستنكاف. وكانت الصورة في كل وسائل الإعلام - المنقسمة بدورها - أن غناء فيروز وأعمال الرحباني تشكل القاسم المشترك بينها. فمن يعتبر لبنان أولاً، لديه ما يكفيه من خزان الرحابنة - الفيروزي، الفني. ومن يرجح كفة فلسطين لديه ما يريد، وكذلك كل من يتجه بأنظاره صوب العروبة. أما من يريد الفن للفن فلن يخلو وفاضه، وكذلك حال من يريد الفن لخدمة المجتمع وقضاياه.

          يومها، فجأة خلال النقاش الذي ظل - على أي حال - هادئًا لا عواطف مكثفة فيه وُجد الحل المنطقي: سنوزع أنفسنا، نظريًا على الأقل: زياد يذهب إلى «الوطنيين». إلياس يبقى على علاقة بالمسيحيين. عاصي حصته العرب. وعلى هذا النحو تقول الحكاية تم توزيع التوجهات. ولكن ماذا عن فيروز؟ كان الجواب: تبقى لكل لبنان ولكل العرب.

          طبعًا من المنطقي أن هذا المشهد لم يحصل أبدًا. لكن الحكاية إنما هي كتابة مبتكرة تعبر، أولا: عن حيرة الفنانين بشكل عام وتمزقهم إزاء ما كان يحصل في لبنان، وثانيًا: عن الموقع الذي تحتله الأسرة الرحبانية - وتعتبر فيروز جزءًا أساسيًا منها - في الخارطة اللبنانية والعربية. وثالثًا: عن كيف أن على الفن أن يسلك طريقه بأمان، ويحافظ على مسافة إيجابية تفصله عن كل المتخاصمين حين يشتد الصراع بين أبناء البيت الواحد. وسواء أكان هذا المشهد قد حصل أم لا، فإن النتيجة كانت واحدة: اختفت الحرب ذات يوم، وظل الرحابنة في القمة، وظلت فيروز في مكانها الطبيعي: لكل لبنان، لكل العرب.

  • مشهد ثان

17 سبتمبر 1994 - ساحة الشهداء في وسط بيروت.

          الساحة كانت في ذلك الحين فراغًا صحراويًا خلفته الحرب الطاحنة، والذين يعرفون بيروت يعرفون المعنى الخفي لتحول الساحة الرئيسة في وسط بيروت إلى صحراء ترتمي على جوانبها أطلال عمران قديم. المعنى الخفي هو استحالة اللقاء بين اللبنانيين. ذلك أن الامتداد الجغرافي المسمى، وسط بيروت، الذي يشمل ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح ومنطقة المعرض وساحة النجمة نزولاً حتى الواجهة البحرية، يعني في لبنان أكثر من طوبوغرافيته الطبيعية بكثير. إنه الوسط الذي تبدو كل المناطق اللبنانية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن حدود لبنان الشرقية، وكأنها تصب فيه بشرًا وجغرافية وأحاسيس نفسية، في نهاية الأمر. فلبنان المنقسم إلى أعلى درجات الانقسام، ما كان يمكنه أن يتجاوز ذلك الانقسام، إلا إذا عادت نقطة لقائه المركزية - جغرافية وسط بيروت - إلى حالها: عامرة بالعمران والبشر. وهذا اللقاء ذو المغزى العميق، كان يجب انتظار إنجاز عمران الوسط المذكور وامتلائه بالمطاعم والمقاهي والمكاتب والمصارف والحوانيت والناس بالتالي بدءًا من العام 2000، حتى يتم، وعلى هذا النحو نعرف أن لبنان عاش حلمًا كبيرًا خلال خمس سنوات تلت العام 2000 وسبقت الدمار اللاحق نفسيًا إن لم يكن جسديًا، الذي يصيب تلك المنطقة حاليًا.

          لكن هذا الحلم، كانت له «بروفة» عامة، أكدت أهميته وحتميته في السابع عشر من سبتمبر 1994. ذلك أن هذا التاريخ سوف يبقى إلى الأبد مطبوعًا في ذاكرة اللبنانيين والضيوف العرب، لأنه تاريخ عودة فيروز إلى الغناء، أمام جمهور قدّر بنحو 50 إلى 60 ألف شخص، تجمعوا في ساحة الشهداء آتين، كما يمكننا أن نفترض ليس فقط من كل أنحاء لبنان، بل أيضًا من بلاد عربية عدة، ليس فقط ليستمعوا إلى فيروز أو يروها تعتلي خشبة أقيمت وسط المكان. بل ليروا لبنان نفسه عائدًا إلى مكانه الطبيعي. ذلك أن غناء فيروز في ذلك اليوم، في ذلك المكان بالضبط، كان واضح الدلالة: كان يمتد من الإشارة إلى عودة وسط بيروت مكانًا للقاء، إلى الإشارة إلى عودة لبنان إلى مكانته وفنه، مرورًا بعودة العرب إلى بيروت ولبنان، ليس على هيئة أيديولوجيين مقاتلين، بل على هيئة عشاق للبنان، هواة للفن، محبين لفيروز.

          كان المشهد رائعًا إذن يومها، وكانت فيروز رائعة، وكانت بيروت في أحلى بهائها، رغم أن الغبار كان يملأ الجو، ورائحة تزفيت أرض الساحة منتشرة.

          والحقيقة أنه من الاستماع إلى فيروز إلى جس نبض الوطن وإمكان قيامه، إلى العودة إلى اكتشاف الآخر، وسبر قدرة هذا الآخر على اكتشاف آخره، خطوات قطعت في تلك السهرة العجيبة ، السهرة التي كانت عناوينها ثلاثة: لبنان، الفن, وفيروز.

          وخاصة فيروز التي أطرب غناؤها كل الحاضرين، ووصل الطرب إلى الذين لم يحضروا أو لم يتمكنوا من الحضور، أو خافوا الحضور، وكان شعارهم وسيظل دائمًا: سعيد من كان في بيروت في ذلك اليوم.

          وممن كانوا في بيروت في ذلك اليوم صحفي فرنسي أرسلته مجلة «الإكسبرس» ليصف ما يحصل، وكان ذلك الصحفي من أكثر الناس سعادة، فهو حظيَ بتحقيق حول الحفل الجامع، لم يحظ بمثله أي صحفي أوربي آخر. لكنه حظي أيضًا بلقاء مع فيروز قُسِّمَ أجزاءً: منه جزء خلال البروفات في مكان الحفل بعد ظهر ذلك اليوم نفسه، وجزء في منزل فيروز في اليوم التالي، حيث انطوت «سفيرة لبنان إلى النجوم»، على نفسها متعبة، سعيدة بما تحقق، تقول إنها «كانت ليلة من ليالي النعمى. بدا فيها وكأن الرب شاء أن يبارك شيئًا ما. لقد كان هناك خلق كثر، بدوا أولاً وكأنهم يؤدون صلاة مشتركة، ثم انصرفوا بعد ذلك بصمت وخشوع. لقد كانت ليلة مختلفة عن كل الليالي الأخرى، لحظة فريدة». هذا الكلام نقله عنها الصحفي قائلاً: إن فيروز بعد صمت قصير احمرّ خلاله وجهها خجلاً أضافت: «لقد كانت هناك مشاعر كثيرة مختلطة: ذكريات أحباء فقدوا بسبب الحرب»، خاصة. لاحظ الصحفي يومها أن محدثته، التي لها كل الجلال والهيبة فوق الخشبة أمام عشرات الألوف، بدت أمامه خجولاً مثل أصحاب اللهيب الذين اعتادوا أن يكرسوا حياتهم كلها لشغف واحد: «أما حين تغني فإنها تصبح معلمًا من معالم الحياة العليا»، قال الصحفي.

  • مشهد ثالث

(يسبق المشهدين الآخرين)

          منصور الرحباني في حديث إلى مجلة ثقافية لبنانية، في العام 1983: «كان العام 1952 هو العام الذي تعرفنا فيه على نهاد حداد. عرفنا عليها حليم الرومي في الإذاعة اللبنانية. قال لعاصي: «هناك بنت تغني مع فرقة فليفل في الكونسرفتوار صوتها حلو». سمعها عاصي، وإذ قال له الرومي «علّمها». أخذها وعلّمها. كان حليم الرومي هو الذي أعطى نهاد حداد اسم فيروز».

          في ذلك الحديث، يلفت منصور النظر إلى أن اسم فيروز «رجالي بالأصل». وربما كان ذلك استباقًا للأمور. ذلك أننا إذا استثنينا بعض أغاني العاطفة في مراحل رومانسية رحبانية معينة، سنجد أن الغناء الفيروزي، بما في ذلك طابع الصوت نفسه، وقف دائمًا مع الإنشاد الملائكي خارج التقسيم الأنثوي - الذكوري. ولعل هذا الأمر الذي كان مأخذًا للمثقفين على فيروز، ساهم أساسًا في صنع الأسطورة الفيروزية. وهو يتلاءم تمامًا مع ما يقوله منصور عن فيروز - ويلتقي فيه مع الصحفي الفرنسي: «حين تعرّفنا على فيروز، كانت بنتًا خجولاً منطوية على نفسها، لكن كل ملامحها كانت تقول إنها سوف تكون شيئًا ما، شيئًا عظيمًا، الإنسان الموهوب يظهر بموهبته فجأة، من النظرة الأولى، ومهما كان حجم خجله».

          محمد سلمان قال لي مرة: «اللي بيجي بيجي وفيه تاج عاراسو». والحقيقة أن فيروز جاءت وعلى رأسها تاج. كان هدفها قويا منذ البداية، ولكن كان ينقصه التشذيب والانطلاق، وانطلاقة الصوت عند فيروز محض رحبانية. ولقد كانت تلك الانطلاقة بمنزلة الرد على كل الأصوات، التي كانت شائعة في العالم العربي، «نحن مَن صنعنا ذلك الصوت، وصنعنا شخصيته الخاصة، صوت فيروز جزء لا يتجزأ من شخصيتنا نحن...».

 

إبراهيم العريس   





 





 





 





زواج فيروز وعاصي الرحباني .. أنجب أجمل الأعمال الموسيقية في حياتنا الفنية