ثنائيات نقدية.. معارك فكرية في أواخر القرن

ثنائيات نقدية.. معارك فكرية في أواخر القرن

تضفي السجلات الفكرية والنقد والحوارات الثنائية أهمية بالغة على أي فضاء ثقافي. خصوصًا الفضاء العربي الذي بقي عالقًا فترات طويلة في أسئلته «التقليدية» دون أن يتمكن من اجتيازها. تلك الحوارات والنقد يسهمان في بروز زوايا نظر أخرى تكون منطلقا لأسئلة جديدة.

بشكل عام، يمكن القول إن أغلب ما هو مطروح اليوم في الساحة الثقافية العربية هو هامش، تعليق أو نقد أو مراجعة أو تفسير. فالتجارب الفكرية بشكل عام هي محاولات تبنى على أخرى لتكون نظرية أو رأيا. بعض تلك التجارب تحولت إلى ثنائيات، وهي، وإن قلّت، تبقى لافتة وقيّمة، كونها محاكمات فكرية أو مراجعات نقدية شاملة، تتكامل مع بعضها. ومن أهمها يمكن رصد ثلاثة نماذج.

مؤكد أن البيئة الحاضنة للحوارات تستدعي معطى أيديولوجيا أحيانًا، أو تفرض على المفكرين اصطفافات لا ترقى لمكانة وأدوات «المفكر». غير أن تجربة النقد «الثنائية» شهدت أيضًا حضورًا للمعرفي الصرف.

النقد أو الحوار الأيديولوجي يمثل انعكاسًا لمجموعة أو نخبة. ما يقوم به الناقد أو المحاور في هذه الحالة هو فذلكة لأيديولوجيا الجماعة بحسب قدراته الخاصة، إنه يقتص من الآخر ويحاكمه فكريًا وفق منطق تلك المجموعة. هذا بخلاف النقد أو الحوار المعرفي فهو انعكاس لصاحبه لأنه تأسيس لمعرفة، وليس ترجمة لرغبة جماعة مؤدلجة.

وسواء في الحالة المعرفية أو في العقيدة الفكرية أوالسياسية، فإن الحوارات الثلاثة تسلط الضوء على طبيعة السجال والجدل، الرأي والرأي الآخر. سواء كان هذا السجال جزءًا من حراك النخبة أو المؤسسة الأكاديمية أو القوى الثقافية المؤثرة اجتماعيًا، لذلك هي مهمة.

طرابيشي ضد الجابري: نقد ضد نقد (حوار بلا حوار)

منذ ثمانينيات القرن الماضي بدأ الكاتب والناقد السوري (جورج طرابيشي) سلسلته الشهيرة «نقد نقد العقل العربي»، كمراجعة لمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري المعنون بـ«نقد العقل العربي» والمكون من أربعة أجزاء. كان يمكن لـ«نقد النقد» أن يكون بداية سجال طويل بين مفكرين نقديين اثنين. إلا أن عزوف الجابري عن الرد على ناقده أبقى الموضوع في حدود نقد من طرف واحد، ما جعل طرابيشي يصفه بـ«حوار بلا حوار».

بالرغم من ذلك فهو يمثل ذروة النقد العربي لمشروع متكامل. وإذا كان هناك الكثيرون نقدوا الجابري، فإن سلسلة «نقد نقد العقل العربي» الأهم والأوسع، باعتبارها مضت بعمق في التفصيلات وناقشت أغلب المفاصل. هي متابعة متكاملة مست الأفكار والإحالات، والاقتباسات التي استخدمها الجابري بحسب طرابيشي تفتقر للأمانة.

وتنبع أهمية هذه المحاولة من أنها مناقشة مستفيضة لأحد أهم المشاريع الفكرية في تاريخ الأفكار العربية الحديثة والمعاصرة. مشروع الجابري مراجعة واسعة لتراث مليء بالتناقضات والصراعات. ناقش التكوين والبنية والخلفيات والأهداف والصراعات والتصورات والرؤى والقواعد والثوابت والمتغيرات، بمنهج معاصر. وهو أجرى مسحًا مهمًا في الفكر السياسي والأخلاقي العربي.

لكن الجابري لم يرد، فلماذا نتحدث عن «نقد النقد» كحوار؟

ثمة قوة واتساع في سلسلة جورج طرابيشي النقدية تجعل منها اهم مشروع نقدي لمفكر آخر. إنه حوار من جانب واحد، استنطاق قام به لأفكار ومراجعات مهمة. لذلك يعد مشروع «نقد العقل العربي» والرد عليه في «نقد نقد العقل العربي» مشروعين متكاملين، بالرغم من التقاطع الظاهر فيهما. فهما يمثلان القاعدة والتعديل عليها، الكلام والرد عليه، الفعل ورد الفعل عليه.

وما قاله طرابيشي عن «الحوار بلا حوار» دقيق، فهو حوار لم يستمر. وليس مهمة الجابري بالفعل أن يرد على نقاده، كانت مهمته الأساسية بناء رأي عن التراث، وقد فعل. ومهمة من يريد نقده تكمن في صناعة هامش عليه يعطي القارئ صورة أكثر وضوحًا وسعة.

لم يقترب الجابري كثيرًا من النص «الأصلي» للإسلام، إنما ركز على المذاهب الفكرية المفسرة والمطورة. تقريبًا حاكم كل المنظومات الفكرية التي ظهرت في القرون الأولى من تاريخ الأفكار في الحضارة الإسلامية. صنفها إلى ثلاثية (عرفان، بيان، برهان). بهذا التصنيف تقريبًا حاكم الجميع مستنطقًا النصوص المتوافرة أحيانًا ومحاورًا الأفكار المطروحة أحيانًا، أو رافضًا إياها بطريقة الإقصاء المباشر دون المضي في العمق أحيانًا كثيرة.

وتعامل الجابري مع منظومة التراث الفكري وفق تصنيفاته، معتبرًا «البرهان» أو العقلانية الإسلامية والعربية المنطقة الصحية الوحيدة في الفكر. وفي الغالب كان التصنيف جغرافيا، فأغلب «البرهان» ينتمي للمغرب والأندلس، وأغلب البيان ينتمي لمنطقة الجزيرة والشام والعراق، في حين أن العرفان ينتمي للمشرق الإسلامي في الهند وبلاد فارس وآسيا الوسطى.

مثل هذا النقد المفتوح لتاريخ الأفكار يمثل حوارًا من طرف واحد، وبأدوات معاصرة للقديم، ولذلك يمكن وصف رد جورج طرابيشي ونقده بأنه تلبس التراث في الدفاع عن نفسه.

مثلا اتهم الجابري ابن سينا بأنه «أكبر مكرس للفكر الغيبي الظلامي الخرافي في الإسلام... إن الضربة الحقيقية التي أصابت الفلسفة وبالتالي العقلانية في الإسلام، لم تكن تلك التي تعزى للغزالي بسبب كتابه تهافت الفلاسفة، بل جاءت على يد أكبر فيلسوف في الإسلام: الشيخ الرئيس ابن سينا» (ص154 نحن والتراث-المركز الثقافي العربي).

هذا الرأي ينتمي الى تصنيف محمد عابد الجابري للفكر العربي بشكل عام، باعتبار أن «فلسفة ابن سينا» جزء من الغنوصية والعرفان الذي أطاح بالعقلانية العربية وحطمها من وجهة نظره.

لننظر كيف تعامل طرابيشي مع هذا الرأي:

«لعلنا لا نغالي إن قلنا إننا نجد أنفسنا أمام ما يشبه محكمة التفتيش تستهدف أبلسة ابن سينا وإدانته» (ص13 وحدة العقل العربي-دار الساقي).

«لنتمسك بتشبيه المحاكمة: فهو يبيح لنا ان نؤكد على حضور محامي دفاع في مواجهة المدعي العام» ص14.

بعد هذا «التمسك بتشبيه المحاكمة» يغوص طرابيشي في تفصيلات التفصيلات ملاحقًا كل ما ذكره الجابري حول الفلسفة السينوية. وعلى هذا المنوال راجع طرابيشي أغلب آراء الجابري في إخوان الصفا والفارابي...

إن النقد والاتهام الذي وجهه الجابري لابن سينا انطلق من عدم تقديس وجهة النظر القائلة بعقلانية الفلسفة السينوية. والتعامل مع هذا النقد أيضًا يجب ألا يكون وفق منطق التقديس، بل على أساس أنه رأي خاضع للجدل والنقاش. لهذا لا تقل أهمية نقد طرابيشي لمثل هذا الرأي عن أهمية الرأي نفسه، فهي رأي يواجه بآخر، وهنا يمكن استكشاف الجدل.

خصوصًا أن طرابيشي تخصص إلى حد كبير في نقد الجابري، وأعماله الشهيرة هي تلك التي نقد فيها زميله. مثل هذا التخصص يمثل حالة نادرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر. فمراجعة مشروع كامل والتعاطي معه من خلال مشروع نقدي يلاحق التفصيلات هو بشكل وآخر الحالة الوحيدة في منظومة الرأي والرأي الآخر العربية.

عمارة وأبو زيد: التدين يرفض التأويل (الأيديولوجيا ضد المعرفة)

بعكس ما جرى بين طرابيشي والجابري، فإن تجربة الكاتب الإسلامي المصري محمد عمارة مع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد مختلفة. عمارة وأبو زيد دخلاً سجالاً حقيقيًا، رد ورد مضاد، أخذ أبعادًا وتطورات. ويختلف النقد المتبادل بين أبوزيد وعمارة أيضًا في كونه نقدًا بين رؤيتين مختلفتين تمامًا، عمارة حمل الإسلام السياسي وأيديولوجيا الدين بالضد من رؤية حديثة.

في البداية دعا محمد عمارة إلى محاورة فكرية. ودارت مجموعة حوارات نشرت في عدد من الدوريات والمجلات العربية بين الرجلين. فقد بدأ عمارة بالرد على مقال لأبو زيد منشور في مجلة العربي في مايو 1994 عنوانه «المقاصد الكلية للشريعة.. قراءة جديدة». وعلى الرد رد نصر حامد أبو زيد بعد ذلك بأشهر في المجلة نفسها.

هذا الحوار الذي شكل عنوانًا بداية العلاقة الجدلية بين الرجلين تطور ليصبح كتابًا يناقش فيه عمارة خصمه. ففي أواسط التسعينيات صدر له كتاب «التفسير الماركسي للإسلام» والذي عمد فيه إلى ملاحقة آراء أبو زيد حول النصوص الدينية والوحي والنبوة والشريعة. وركز كثيرًا على منهج القراءة التاريخية الذي استخدمه أبو زيد كثيرًا في قراءته للتراث والفكر والنص.

بسهولة ومن خلال عنوان الكتاب ومقدمته الأولى نعرف أنه سعى لوضع نصر حامد أبو زيد والمنهج الماركسي في سلة واحدة، أو على الأقل هو يرى أن «أبو زيد» نفذ ما يريده الماركسيون. تضمن الكتاب مجموعة من القرائن على الربط بين نصر والماركسية مثل نشره في الدوريات اليسارية، وإعجاب بعض الماركسيين به مثل «محمد أمين العالم»، إضافة إلى تسميته بـ«الكادر الماركسي الواعد».

أبو زيد في تلك اللحظة كان منشغلا بمعركة أخرى، وهي معركة القضاء. فالكتاب جاء بالتزامن مع حكم الاستئناف المصري بالتفريق بين أبو زيد وزوجته بعد إدانته بالارتداد عن الإسلام سنة 1995، وهو حكم صادقت عليه محكمة النقض سنة 1996. ويسجل لمحمد عمارة هنا تحفظه على قرار التفريق بين الزوجين كما قال في المقدمة الثانية من كتاب التفسير الماركسي للإسلام «إن قضية الدكتور نصر أبو زيد هي قضية فكرية، مجالها الحوار الفكري. والمختصون فيها هم المفكرون والباحثون. وهي ليست قضية قانونية يختص بها المحامون ودوائر القضاة.... اتساءل ما الذي يستفيده الإسلام من التفريق بين الزوجين؟». إلا أن أبو زيد يرى أن توقيت الكتاب مثير للشك، لأنه جاء بالتزامن مع قضية «التفريق».

بعد ذلك بأربع سنوات تقريبًا أصدر أبو زيد كتاب «الخطاب والتأويل» والذي تضمن سجالات عديدة مع مفكرين وكتاب من مناهج عدة، عنوان أحد فصوله «موقف عمارة من علي عبد الرازق». ومن المهم الإشارة إلى أن الكتاب لم يتطرق كثيرًا - إلا في المقدمة - لما قاله عمارة عن أبو زيد. لكن في مقدمة الكتاب كان حضور عمارة واضحًا، حيث استخدم أبو زيد حوارًا جمعه بمحاوره في «قناة الجزيرة» للتأكيد على أن الثاني لم يلجأ للأفكار في النقد بل إلى أشياء أخرى مثل استخدام الصوت الجهوري لمناغمة الجمهور.

«الخطاب والتأويل» الذي تضمن مناقشات لمجموعة من الكتاب والمفكرين لم يكن هذه المرة موضع نقد فكري لمحمد عمارة، بل كان التدخل من نوع آخر. فهو وباعتباره عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، أصدر بحثًا رصد فيه مخالفات الكتاب لثوابت الشريعة، وعلى أساس هذا البحث منع المجمع تداوله في الأسواق المصرية، وكان هذا الموقف بمنزلة انتكاسة لما يقارب عقدًا من الحوار والجدل الثنائي.

والغريب في موقف محمد عمارة هذا، إنه يتعارض بالكامل مع رأي سابق له طرحه في المقدمة الثانية لكتابه «التفسير الماركسي للإسلام» عندما قال «أنا ضد مصادرة كتب نصر أبو زيد أو سعيد العشماوي ومن لف لفهما، لأن الإسلام كان دائمًا يطلب البرهان».

هذا النموذج من الحوار هو الأكثر شيوعًا في منظومة الأفكار العربية. إنه يمثل ردًا أيديولوجيًا ضد نقد معرفي، بالرغم من محاولة عمارة وضع نصر أبو زيد في زاوية الأيديولوجيا الماركسية. هذا على عكس ما حدث بين طرابيشي والجابري، فذلك الحوار مال أكثر إلى المعرفي.

كنعان مكية وإدوارد سعيد.. الاستغراب والاستشراق

هناك معركة فكرية من نوع آخر، شرسة ومؤثرة انتهت بموت أحد أبطالها. إنها تدور في منطقة فكر وسياسة. تكشف المواقف من متغيرات كبرى، وتمس جوانب عدة من السياسة الدولية والأوضاع الإقليمية.

وجه الأكاديمي والكاتب العراقي «كنعان مكية» أشد الانتقادات للمثقفين القوميين العرب، خصوصًا الساكنين في البلدان الغربية، بسبب مواقفهم لـ«صالح» النظام العراقي السابق أثناء وبعد احتلال الكويت، أو الصامت عن قمع الشعب من قبل النظام الدكتاتوري.. ففي كتابه «القسوة والصمت» شن هجومًا على أغلب المثقفين العرب «لا أستطيع أن أثبت أن القسوة تتفاقم في المشرق. غير أني أظن إنها أصبحت اعتيادية جدا، ومقبولة لدى المثقفين العرب، خصوصا أولئك المقيمين في الغرب، لكنهم الأكثر غربة عنه». (ص284 القسوة والصمت - منشورات الجمل).

أصدر مكية كتابين تخصصًا في إدانة نظام «البعث العراقي» كنموذج للأنظمة الدكتاتورية العربية هما «جمهورية الخوف» و«القسوة والصمت».

الثاني الذي نشره بعد عام 1991، بمنزلة بيان إدانة للموقف «القومي» العربي من الأنظمة الدكتاتورية. وعد مكية في هذا الكتاب الذي هو عبارة عن مذكرات «مجموعة مضطهدين»، عد المثقف العربي بأغلب تمظهراته شريكًا في الاضطهاد.

وخصص مكية في هذا الكتاب جزءا «أدان» فيه المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد. من وجهة نظره أن سعيد نموذج لمفكرين عرب عاشوا في الغرب وامتلكوا مساحة حرية واسعة بلا خوف للتعبير عن نفسهم أكثر. ويرى أن هؤلاء تساقطوا في موضوع احتلال الكويت وما حصل بعدها من انتفاضة للشعب العراقي.

«سعيد غير مهتم بالعالم العربي كما هو حقًا، فما يهمه هو إلقاء اللوم على الغرب للفوضى التي ولدها صدام حسين» ص278. تختصر هذه العبارة موقفًا يرى من خلاله أن إدوارد سعيد كان يسعى لتعزيز موقفه الدائم بأن الغرب هو من يخطئ بحق الشرق وهو المسئول.

يعتقد مكية أن المثقف العربي ساهم إلى حد كبير من خلال فكرة أحادية هي العداء للغرب حرمت الشعوب العربية من التفكير بطريقة أكثر فاعلية في التعامل مع المعطيات القادمة من خارج العالم الإسلامي.

فكيف تعامل إدوارد سعيد مع هذا النقد؟

خلال عشر سنوات بقيت المعركة الفكرية جزءًا من حرب مثقفين عربيين يعيشان في الغرب، أحدهما يتعامل مع الولايات المتحدة باعتبارها مسكنا يجب أن ينقل إليه الصوت العربي، والثاني باعتبارها حضارة يجب أن تكون تجربة للعرب.

كانت حرب إسقاط صدام حسين واحتلال العراق فرصة لإدوارد سعيد كي يرد على مكية هجماته وانتقاداته وتنظيراته في كتاب القسوة والصمت، فنشر حينها مجموعة من المقالات في الحياة والأهرام هدفها ذلك.

ففي 3 ديسمبر 2002 نشر سعيد مقال «معلومات مضللة عن العراق» في الحياة اللندنية استذكر ما كتبه مكية «في كتابه الثاني (القسوة والصمت) هاجم مكية المثقفين العرب الذين اتهمهم بالانتهازية واللاأخلاقية لأنهم إما أشادوا بأنظمة عربية مختلفة أو لزموا الصمت على الانتهاكات التي تقترفها الحكومات المختلفة ضد شعوبها... كان معظم ما كتبه مكية في الكتاب حسب رأيي، مثيرًا للاشمئزاز، إذ استند إلى تعريض جدير بالازدراء وتفسير مضلل. لكن الكتاب حظي، بالطبع، بشعبية لفترة وجيزة لأنه أكد وجهة نظر في الغرب أن العرب مسايرون أنذال يتصفون بالدناءة».

بمتابعة مقالات سعيد نجد أنه لم يناقش كثيرًا ما طرحه مكية في كتابه، بل ذهب إلى قضايا أخرى، مثل مشاركته في التحضير لغزو العراق سنة 2003 وفي صناعة معلومات مضللة عن العراق، ساهمت باحتلاله.

«مكية يبدي تمسكًا بآرائه كمنظّر فوق العادة للحكم لدرجة إنه يتجاهل ببساطة العواقب والتاريخ والشعب وفئات المجتمع والواقع بأكمله كي يعرض فكرته المشكوك فيها بشكل مثير للسخرية. هذا هو، بالطبع، وبالضبط، ما تريده الحكومة الأمريكية، أي أن يكون لديها مثقفون عرب من اتجاهات شتى، لا يخضعون لمساءلة من أحد، يحضّون العسكريين الأمريكيين على شن الحرب فيما يتظاهرون بتحقيق الديموقراطية للبلاد في تناقض مع الأهداف الحقيقية لأمريكا وممارساتها الفعلية في الماضي».

الحوار بين مكية وسعيد يمكن وصفه بحوار طرشان. مكية كان يتحدث عن إدوارد سعيد باعتباره مشاركًا فكريًا في الصمت الثقافي القومي الذي دعم بقاء الدكتاتوريات، وسعيد يتحدث عن الآخر باعتباره محرضًا على حرب احتلال العراق ومساهما في تعزيز الكراهية الأمريكية.

والفرق الحقيقي بين النقدين هو أن كنعان مكية كان أكثر علمية في التعامل مع خصمه. في حين إن مقالات سعيد كانت بالفعل تتعامل بـ«اشمئزاز» مع محاوره. طبعا مع التأكيد على أنه في عدد من المقالات الأخرى جمعت في كتاب «خيانة المثقفين» ناقش بشكل أفضل المدرسة التي ينتمي لها كنعان مكية دون أن يسميه.

ومن المهم القول إن هذا الجدل من أكثر الحوارات استقطابًا لمثقفين وكتاب آخرين. ففي جريدة الحياة نفسها، انقسم الكتاب بينهما. فأسعد أبوخليل، مثلا، كتب «دفاعًا عن إدوارد سعيد وعن العراق». بعكس الكاتب الكويتي محمد الرميحي الذي انتقد نقد هجوم سعيد على مكية في الصحيفة ذاتها بعنوان «غضب إدوارد سعيد».

وتخيل الروائي العراقي علي بدر في رواية مصابيح أورشليم الانقسام بين المثقفين العراقيين إلى اصطفافين بين مكية وإدوارد سعيد على أساس معركتهما حول العراق وتدخل الولايات المتحدة في العراق، إنه الصراع بين رغبة بالتواصل الكامل مع الغرب بعد فشل الفكر «القومي» والخوف من المشروع الغربي باعتباره خطرًا على الأمة يهدد وجودها وهويتها.

لكل من سعيد ومكية زاوية نظر أغفلها الآخر. الباحث عن «الاستشراق» كانت وعينه على الشرق على أنه الضحية والغرب على أنه ظالم، الولايات المتحدة تحديدًا. سعيد بالرغم من اعترافه بالكوارث الشرقية، كان يصر على أنها «أهون» إذا ما قيست بالبديل الأمريكي.

في حين أن مكية كان ينظر إلى زاوية واحدة أخرى، هي أن الأنظمة الاستبدادية يجب أن تزول بأي حال من الأحوال، وأن التجربة الغربية يجب أن تكون نموذجًا، دون النظر إلى إمكان ذلك وفق ما هو مطروح في الأجندة «الديمقراطية» الغربية.

رؤية أخيرة

نماذج النقد هذه يمكنها أن تعطي صورة عن الرأي والرأي الآخر في معادلة السجال الثقافي المعاصرة. فهناك نقد فكري معرفي مجرد إلى حد كبير من توجه سياسي أو ديني أو أيديولوجي. فطرابيشي ضد الجابري لم يكن حوارًا ذا طابع أيديولوجي، إنما استخدمت فيه بشكل عام معايير معرفية. بالرغم مما يمكن استشعاره من بعد «المغاربي ضد المشرقي» أو بالعكس، في النقد ونقد النقد.

إلى جانب ذلك هناك القراءة الأيديولوجية ضد المعرفية، وهي أيضًا مهمة لو بقيت في حدودها الفكرية. فمحمد عمارة دافع عن التفسير السائد للدين بالضد من نصر أبو زيد الذي كان ينقد ذلك التفسير.

السجال الذي مثل توجهين متناقضين لاصطفاف سياسي، هو ذاك الذي حصل بين كنعان مكية وإدوارد سعيد. فهو كان يمثل رؤى متقاطعة الى حد كبير، كل منهما تسلط الضوء على جانب وتهمل آخر، وكل منهما تستخدم ما يستطيع صاحبها من أدوات الإقناع والنقد للبرهنة على صحة ما قال.

إن هذه التجارب يمكن أن تعبر عن قيمة حقيقية، باعتبارهما يصنعان الجدل داخل بنية ثقافية تبدو أحيانًا ميتة أو عقيم. صحيح أنهما قد لا ينتجان تثاقفًا، لكن الأكيد أنهما يؤديان إلى تعدد في التصورات توضحه «الثنائيات» أكثر.
----------------------------
* كاتب من العراق.

------------------------------------------

طَافَتْ أُسَيْماءُ بالرِّحَالِ فَقَدْ
هَيَّجَ مِنِّي خَيالُها طَرَبَا
إحْدَى بَني جَعْفَرٍ بأرْضِهِمِ
لمْ تُمْسِ مِنِّي نَوْباً وَلا قُرُبَا
لَمْ أخْشَ عُلْوِيَّةً يَمَانِيَةً
وكَمْ قَطَعْنا مِنْ عَرْعَرٍ شُعَبَا
جاوزنَ فلجاً فالحَزْنَ يُدْلِجـ
ـنَ بالليلِ ومِنْ رَملِ عالجٍ كُشُبَا
مِنْ بَعدِ ما جاوَزَتْ شَقائِقَ فالدّهـ
ـنَا وَغُلْبَ الصُّمَانِ والخُشُبَا

لبيد

 

عمار السواد