أربعون عامًا على هزيمة يونيو!

 أربعون عامًا على هزيمة يونيو!.. د. سليمان إبراهيم العسكري
        

  • الأجيال العربية الفاعلة حتى هذه اللحظة، وفي كل بلاد العرب، حفرت فيها الهزيمة جروحًا قد تكون اندملت، لكن ندوبها باقية لاتزال
  • أمم شتى في الشرق والغرب اجتاحتها وتجتاحها المآسي، لكنها تفاعلت وتتفاعل معها بأساليب مختلفة، فتكون النتائج مختلفة
  • روح الحضارة تستيقظ في مرحلة من الانهيار تهدد جنسًا بشريًا بالحياة البدائية الدائمة فتنطلق هذه الروح في اتجاه معاكس للمأساة
  • الهروب إلى الماضي، والاستسلام لحتمية المأساة، والتعامل مع الحاضر كمحطة انتظار يائس، كل هذه مجرد مظاهر للوعي السلبي

          أربعة عقود كاملة، أربعون سنة مرّت منذ يونيو 1967، وصار أطفال هذا التاريخ كهولاً، وتحول شبابه إلى شيوخ، أما شيوخه فقد غادر معظمهم عالمنا. وبقيت الذكرى، وهي ليست ألم قطر عربي أو قطرين أو ثلاثة، بل هي ألم عربي عام، لأن الإصابة التي نالت ما نالت حينها، لم تقتصر على شرق عربي دون غرب، أو شمال دون جنوب، فالأجيال العربية الفاعلة حتى هذه اللحظة، وفي كل بلاد العرب، حفرت فيها الهزيمة جروحًا قد تكون اندملت، لكن ندوبها باقية لاتزال، في عمق الوجدان العربي، من شرق العالم العربي إلى غربه دون مبالغة. 

          في داخل كل منا 5 يونيو بشكل ما، وهذا ما أود الحديث عنه. لكنني لا أود تكرار الأحاديث المعادة التي تجتاح صحفنا وإعلامنا في هذه المناسبة، بل آمل أن أتلمس ما يرشح من طرائق تعاملنا مع فاجعة كهزيمة يونيو، لعلي أمسك بتوصيف لأسلوب من أساليب تفاعلنا كعرب مع الفواجع عامة، وما أكثر الفواجع العربية التي تكاد لا تمر واحدة منها، حتى تهل فاجعة جديدة. وليس الهدف بالتأكيد تكرار جلد الذات أو تكرار توجيه قرارات الاتهام، بل أتوسم أن أفهم الآلية التي نتعامل بها مع الفواجع، وأبحث عن جذورها التاريخية - إن وجدت - لعلي أخرج باستنتاج مفيد، خاصة وقد وقعت على كتاب صغير، لمفكر عربي غير مشهور خارج وطنه، يعالج هذه المقاربة تحديدًا «العرب وتجربة المأساة». وبالرغم من أن تاريخ تأليف هذا الكتاب الصغير الكبير يعود إلى العام 1963، فإنه قابل للمناقشة على أرضية كل المآسي العربية - ومنها مأساة يونيو 67 - فلا شك أن الهزيمة مأساة، لكنها مأساة في سلسلة من المآسي العربية التي لم تنقطع، ومن ثم فإن فائدة المناقشة ليست في الاقتصار على هذه المأساة أو غيرها، وإنما في شمولها السياق العام، للخروج بشيء عام مفيد، ومضيء للمناسبة التي لاتزال تهيمن عليها الغيوم.

عصور من الجمود

          لا يعرف كثيرون خارج سورية اسم المفكر «صدقي إسماعيل»، فقد عاش الرجل حياة قصيرة، إذ ولد في أنطاكية عام 1924، وتوفي في دمشق عام 1972، وبدأت كتاباته تنشر في المجلات والصحف منذ العام 1946، وشغل منصب رئيس اتحاد الكتّاب العرب في دمشق عام 1970، وهو التاريخ نفسه الذي شغل فيه منصب مدير تحرير مجلة «الموقف الأدبي» الشهرية. وبغض النظر عن الموقف السياسي الذي كان يعبر عنه هذا الكاتب، فإن تتبع إنتاجه في سنوات عمره القصير، تدلنا على نوع من المثقفين العرب لم تكن مواقفهم السياسية تحول دون موسوعية ثقافتهم، والجدية الشديدة في التعامل مع الثقافة بكل أدواتها الممكنة وأطيافها المتاحة. فصدقي إسماعيل كتب عن «رامبو، قصة شاعر متشرد»، وترجم عن بوشكين كتابه «الإعصار»، وتقصّي سيرة «محمد علي القابسي، مؤسس النقابات التونسية»، وألف رواية «العُصاةُ»، ثم كان كتابه «العرب وتجربة المأساة» إبحارًا في آفاق من التاريخ والتراث والأدب والفلسفة لدى العرب في صور مختلفة، ولدى ثقافات متعددة من العالم الواسع.

          يقول صدقي إسماعيل: «لو أتيح لمؤرخ تقليدي تعنيه مصائر الشعوب، أن يتأمل الحياة المتردية التي وجد العرب فيها أنفسهم منذ بداية هذا القرن، لخطر له على الفور أن خطيئة كبرى قد اقترفت في ماضي هذا الشعب كان من نتائجها هذا الواقع الحزين، لاسيما أن هذا الواقع يمتد إلى قرون عدة من البؤس والفوضى والانحطاط، لا يعبر عنها انهيار الدولة وتجزئة الوطن واضطراب المجتمع فحسب، بل إنها تنطوي أيضًا على أقسى صورة لتردي العقول وفساد الضمائر. والحكم بالانهيار على هذه الحقب المظلمة ليس ثمرة للوعي الحديث، بل إن كثيرًا من الأذهان قد تمثلته في وعي ووضوح قبيل مراحل السقوط. فمنذ القرن الرابع للهجرة بدأت صيحات التذمر والشكوى تتحول إلى إدانة نهائية، واستقر في العقل الجماعي أن الإنسان ينحدر إلى الهاوية وأن العالم قد أصبح في نهاية الزمان».

          إن المفارقة تكمن في أن حديث صدقي إسماعيل عن الحال التي وجد العرب أنفسهم عليها في مطلع القرن الذي كان يعني به القرن العشرين تكاد تنطبق حرفيًا على ما يجد العرب أنفسهم عليه مطلع القرن الواحد والعشرين، وهي مراوحة مرعبة طولها قرن كامل، لم تكد تتغير فيه الأحوال العربية. فمن أين يأتي هذا القعود، وما علاقة ذلك بتجربة المأساة؟

المأساة ونشوء الحضارة

          لا يرجع صدقي إسماعيل هذا الجمود المزمن والتوقف العربي الطويل عند ناصية التدهور إلى المآسي العربية، التي هي بلا شك كثيرة وبعيدة الغور في التاريخ قديمه وحديثه، ولكن يرجعه إلى الطريقة العربية في التعامل مع الفاجعة والمأساة، وفي ذلك يذكرنا بأن المأساة لم تكن قدرًا موقوفًا على العرب وحدهم، بل إن أممًا شتى في الشرق والغرب اجتاحتها وتجتاحها المآسي، لكنها تفاعلت وتتفاعل بأساليب مختلفة مع وقع المأساة، وهو في ذلك يذكرنا بأن تجربة المأساة تبدو لأول وهلة مقترنة أبدًا بالحزن واللوعة، وتشير في الوقت نفسه إلى اليأس، وتبدو مظهرًا للانهيار الذي لا سبيل إلى رده، غير أن المأساة في الواقع تنطوي على أعمق مظاهر الحنق والرفض، وذلك ما دعا بعض الباحثين إلى اعتبارها من أقدم الينابيع التي استقى منها الكائن البشري حوافز العمل والفكر، فالنظرة التاريخية المألوفة تربط دائمًا بين حس المأساة ونشوء الحضارة، فالحضارة تبدأ منذ أن يعي الإنسان مكانته في العالم، ويتبين الفجوات الفاجعة في وجوده، كالموت والألم (والهزيمة هي مأساة جامعة للاثنين)، عندئذ يدرك أنه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يتمرد على واقعه، وقد أطلق «ماكس شيلر» على الإنسان من هذا المنطلق اسم «الكائن المحتج» لأنه يستطيع - دون سائر الكائنات - أن يقول لا أمام الواقع (المأساوي في هذه الحال).

          ففي كل يقظة حضارية نوع من الرفض يقف به الأفراد أو الجماعات أمام ما يفرضه الواقع من مظاهر التردي، ويصدر هذا الموقف عن التحدي والقلق على المصير الإنساني- كما يقول أرنولد توينبي في كتابه «مختصر دراسة التاريخ» - وقد أشار شبنغلر في مؤلفه الكبير «انحدار الغرب» أو «سقوط الحضارة الغربية»، إلى أن رورح الحضارة تستيقظ في مرحلة من الانهيار يهدد جنسًا بشريًا بالحياة البدائية الدائمة - أي باستمرار واقع ما - فتنطلق هذه الروح في تصميم دون أن تأخذ شكلاً معينًا إلا أن تنتشل نفسها من الواقع، وحين تنضب إمكاناتها يتحتم عليها السقوط من جديد.

          هذه النظرة للمأساة أو الفاجعة في نظر المفكرين الغربيين، لا تبتعد كثيرًا عما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته، إذ يقول عن موقف الرفض الذي تولده المأساة: «الإنسان الطبيعي القوي الشكيمة الذي يكافح بضراوة وتصميم من أجل مصيره، ومع أن الروح البدوية تنطوي على تمسك شديد بالأعراف السائدة، يجعل العصبية أقوى الحوافز في سلوك الإنسان، فإن طبيعة العصبية أن تدين الواقع بالنزوع إلى العمران» أو بتعبير آخر: تتجاوز مرحلتها بالرفض.

          من هذا كله نرى إجماعًا على كون المأساة ينبوعًا لكل تجربة واعية من تجارب الحياة، فحيث يتحرك الفاجع، يكون الموقف الجدي العميق في وجود الإنسان، الموقف الذي يجابه الحقيقة في جرأة، ويعيش القيم في أقوى صورها الإنسانية وأكثرها شمولاً، لأن فجيعة الانهيار تنسكب في أعماق النفس، حزنًا صامتًا، متحررًا من الحنق الزائف والغرور الفارغ، إنه السكون الذي يتأمل المصير الإنساني كله من خلال المأساة أو «الفاجع» الذي يبدو للآخرين حادثة عابرة.

          فماذا فعلنا مثلا حيال مأساة هزيمة يونيو التي هي نموذج لمآسينا التاريخية التي سبقتها والتي تلتها؟ وهل من جذور للطريقة التي تفاعلنا بها مع هذه أو تلك من المآسي؟ وهل كانت طرائق تفاعلنا مما يمكن أن نضعه في خانة الرفض الإيجابي، أو الاستجابة التعويضية الجادة باتجاه الحضارة؟ إنها أسئلة متشابكة تدعونا ليس فقط للرجوع أربعة عقود إلى الوراء، بل إلى ما هو أبعد من ذلك في تاريخنا العربي.

من الجاهلية فصاعدًا

          بعد تطواف بصير بنماذج من الاستجابات الشعرية التي تعكس حس المأساة عند العرب في الجاهلية، يصل صدقي إسماعيل إلى استنتاج تبلوره أبيات الشاعر الجاهلي المهلهل بن ربيعة الذي شغلته آلام الحرب ثلاثين عامًا، يقول:

لَمْ أَكُنْ من جُناتها عَلِم َاللّهُ وإني بحرِّها اليوم صالي


فمن هذه اللوعة الشعرية يُستنتج أن تجارب المأساة في الجاهلية تحيل بوضوح إلى وعي مفاجئ بقداسة الماضي الذي يكمن في أعماق النفس، ويلزم الفرد بأن يكون ضحية. فالفرد مهما يكن قوي الشعور بذاته، عنيف الكبرياء - هو أسير الأعوام التي قدرت على الأرض، ظاهرة عابرة وجدت لتزول، وفرصته الوحيدة هي أن يجسد شيئًا من الانتصار الخلقي في بعث القيم التي صنعتها تجارب الأولين.

إذن، كانت الاستجابة لفعل المأساة تنزع بالفرد إلى العودة باتجاه الماضي، حيث الماضي هو الملاذ - المجد - التعويض عن فاجع الحاضر. وهي لمحة من موروث نرى أمام أعيننا أنه لايزال يفعل فعله في الحاضر، حيث الالتجاء إلى الماضي هو البديل أمام مأساة الحاضر.

هذا الالتجاء إلى الماضي في مواجهة مأساة الحاضر، والذي رصده صدقي إسماعيل في الشعر الجاهلي كنموذج كاشف عن جذر قديم للطريقة التي يتفاعل بها العربي مع المأساة، لم ينقطع، إذ تابع امتداده في أزمنة تالية، وها هو المتنبي يعبر عن ذلك الحنين إلى الماضي بتفجع يشي بالحسرة على الحاضر، يقول:

أتى الزمانَ بَنُوهُ في شبيبته فسرَّهم وأتيناه على الهِرَمِ


ولم يتوقف جذر اللجوء إلى الماضي عن الامتداد من تفجع الشعر الجاهلي إلى ما تلاه، بل امتد إلى نظرة المعاصرين أيضًا، وهو أمر لا يحتاج إلى دليل لإثباته فيما يجري فينا وحولنا من نكوص إلى الماضي يعبر عنه كثيرون، فهم يلتفتون إلى الماضي في شيء كثير من الزهو والحنين، كما لو أنه الحقبة الوحيدة التي شهدت الفردوس العربي المفقود، ثم غاصت إلى الأبد في ذاكرة التاريخ. وهذا التوجه الماضوي تفصح ترجمته عن موقف لا يرى في الحاضر إلا فاجعة مثقلة بالمخازي، ومن ثم يصير حس الانهيار خاليًا من أي تصور تاريخي واضح للمبررات التي حتمت السقوط أو الانهيار أو المأساة أو الهزيمة، وهذا بدوره يحيل إلى الإحساس بحتمية تعفي من المسئولية. وهذا التنصل من المسئولية يوقظ في الوجدان وعيًا عميقًا بأن رداء الفجيعة يمكن أن يبسط ظله القاتم على الحاضر والمستقبل، وأخطر ما في هذا الوعي الشقي أنه ينطوي على إدانة قاسية للعنصر الإنساني في الحياة العربية. وتلوح مشكلة الجدارة الإنسانية موضع تساؤل في كل مناسبة تعقب الهزيمة أو المأساة أو الفاجعة وتستمر بعدها: هل نحن جديرون بأن نصنع مصيرنا، بأن نشاطر الآخرين حضارة العصر الذي نعيش فيه؟ هل لدينا مؤهلات لملء الفجوة بيننا وبين الآخرين؟ هل نستطيع تجاوز الهزائم والمآسي والفواجع؟

كل هذه الأسئلة برزت بعد هزيمة يونيو، وهي لاتزال تُطرح في مواجهة التخلف العربي عن اللحاق بالسباق العالمي الذي دخلت مضماره أمم كانت أكثر منا تخلفًا حتى عهود قريبة. وهي أسئلة تنطوي في ذاتها على إجابات مضمرة ذات طابع سلبي غالبًا. وهذه أحد وجوه الانفعال العربي بالمأساة، أو الفاجعة أو الهزيمة، وهو وجه يتجاور مع وجوه مماثلة يمكن المرور عليها سريعًا، لأن تأمل ملامح كل منها يتطلب حديثًا وربما أحاديث مستقلة.

أكثر من طريق للتسلل

الهروب إلى الماضي، والاستسلام لوهم حتمية المأساة، والتعامل مع الحاضر كمحصلة انتظار مريب وبائس، كل هذه مجرد مظاهر أخرى للتنصل من المسئولية وسلبية التفاعل تبدو متخفية تمامًا، ومنها هذه الفحولة العربية في شعر ونثر المراثي، والاستغراق في الندم والحزن المديد، ولطم الوجوه والصدور!، وذم الزمان الذي يبدو كما لو كان شيئًا مستقرًا في بنية العقلية العربية منذ بدايات عصور الانحطاط، والتخفي في قوقعة الرفض الزاعق، وتقمص دور الضحية، ورفع ألوية الارتياب في كل شيء.

كل هذه المظاهر شاهدنا تنويعات لها في أعقاب هزيمة يونيو، فكان هناك اتجاه جارف للرجوع إلى الماضي، وكان هناك تعامل مع الفاجعة جعل من الحاضر مجرد محطة انتظار مريب ومحبط، كما كان هناك الوجه الآخر لهذا الهروب متمثلاً في مظاهر تبدو أبعد ما تكون عن الهروب من مسئولية النهوض الذي تحتمه الهزيمة، وتجلى ذلك في الشعر وميل المثقفين العرب لعملية جَلْد الذات التي لا تحتم أي إعادة للتفكير ولا أي إعادة للبناء، ولم تكن قصائد ومقالات الرفض الزاعق خروجًا عن هذه القاعدة. قاعدة الهروب من توابع الفاجعة وإن بفحولة ظاهرية، ولعلنا لم ننس تلك القصائد التي راحت تدور مثل رياح القدر لتشمل كل ركن عربي بتهكمها ولوعتها وقسوتها على الذات الفردية والذات الجمعية العربية.

ولعل قصيدة نزار قباني الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة» تعد مثالاً واضحًا على هذا الوعي بالمأساة، والذي ينجرف إلى جلد الذات بقسوة يائسة، هي بحد ذاتها دعوة لإلغاء أي أفق ممكن لتجاوز الفاجعة:

«كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمه..
ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمه
مالحةٌ في فمِنا القصائد
مالحةٌ ضفائرُ النساء
والليلُ، والأستارُ، والمقاعد
مالحةٌ أمامنا الأشياء
لأنَّ ما نحسّهُ أكبرُ من أوراقنا
لابدَّ أن نخجلَ من أشعارنا

***

إذا خسرنا الحرب لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ.

***

السرُّ في مأساتنا
صراخنا أضخمُ من أصواتنا
وسيفُنا أطولُ من قاماتنا

***

خلاصةُ القضيّهْ
توجزُ في عبارهْ
لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ
والروحُ جاهليّهْ...
بالنّايِ والمزمار...
لا يحدثُ انتصار
جلودُنا ميتةُ الإحساسْ
أرواحُنا تشكو منَ الإفلاسْ»

***

كل هذه القسوة على الذات لم تكن تخفف منها مقاطع القصيدة التي تحاول فتح أفق - تردد - لفعل يتجاوز الهزيمة، ومن ثم يمكن رؤية كل هذه القسوة على الذات الآن، بعد أربعين عامًا، وبعد قراءة مرشدة لتشريح وعي المأساة لدى العرب كما رصده المفكر صدقي إسماعيل، عبر قراءته لمآس عربية سابقة. لقد أطربتنا قصيدة نزار في وقتها، وهو طرب «ماسوشي» كنا نستمتع فيه بجلد ذواتنا، دون أن ندري أننا ونحن نردد القصيدة، ونسربها من ركن إلى ركن إنما كنا نمارس نوعًا من الوعي المحبِطْ بالمأساة، وهو وعي كان يعفينا من مهمة النهوض في أعقاب الهزيمة، ويحيل المهمة - في قصيدة نزار ذاتها - إلى الأطفال!:

«يا أيُّها الأطفالْ..
من المحيط للخليجِ، أنتمُ سنابلُ الآمالْ
وأنتمُ الجيلُ الذي سيكسرُ الأغلالْ
ويقتلُ الأفيونَ في رءوسنا..
ويقتلُ الخيالْ.

***

لا تقرأوا أخبارَنا
لا تقتفوا آثارنا
لا تقبلوا أفكارنا
فنحنُ جيلُ القيءِ، والزُّهريِّ، والسعالْ».

فهل نرى نموذجًا لجلد الذات، وإعفاء الذات من مهامها الواجبة، أوضح من ذلك؟ بل أليست هي دعوة للتخاذل والاتكال على المجهول؟ وأتساءل: أليس ذلك اليأس والإحباط هو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن من نكوص وعودة إلى الماضي البعيد؟!

الشاطئ الآخر من اليأس

وبالرغم من كل هذا الانكسار الذي استغرق فيه كثرة من المثقفين، فإن الوعي العربي بمأساة هزيمة يونيو لم يكن كله وعيًا شقيًا، فثمة من عكس في سلوكه وتدبيراته نوعًا من الوعي الصحي بالفاجعة، فرأى الخلاص في تحمل المسئولية والعمل بمقتضاها، وفي هذا الشاطئ الآخر رأى فريق من العرب إمكان النهوض، بل رأوا نصرًا لم تره القصائد الحامية الطوال، نصرًا بدا مستحيلاً لكثيرين، ولم يره هؤلاء ممن حملوا مسئولية تجاوز الهزيمة مستحيلاً، وكان العمل العلمي والدقيق والمخلص والعقلاني الذي فتح طريقًا في المستحيل نحو انتصار أكتوبر العام 1973، وهو لم يكن انتصارًا عسكريًا وحسب، بل كان الشق العسكري فيه هو محصلة لجوانب مختلفة من الوعي الصحي بالفاجعة. ويُجمع كل الشهود أن الروح التي أُنجز بها نصر أكتوبر، من الفكر العلمي وحداثة التأهيل وصقل الأداء والتآزر العربي الخلاق، لو كانت استمرت، لأنجزت انتصارات عربية كبرى في غير ميادين القتال؛ ميادين العلم، والاقتصاد، والمدنية على امتداد الأرض العربية. لسنا وحدنا من ذاق مرارات المآسي، فأجزاء كبيرة من الغرب الناهض الآن طحنتها فواجع تتضاءل إلى جوارها كل فواجعنا، والشرق الجديد أيضًا.. انسحقت الصين الهائلة بلا رحمة في حروب الأفيون الظالمة، وكادت اليابان أن تَبيد قبل أن ترفع رايات الهزيمة، والهند وطأتها أقدام العسكرية البريطانية بلا شفقة ولا أدنى احترام لبشرية البشر. لكن هؤلاء جميعًا نراهم وقد تحوّلت الفواجع لديهم إلى دوافع للنهوض واللحاق بالحضارة الحديثة

فهل نعي الدرس في كل فواجعنا، ونتحرك باتجاه الأفق؟!.

 

سليمان إبراهيم العسكري